«الإدراك الداخلي»... الحاسة «السادسة» للإنسان

العلماء يرسمون «خريطة الإحساس» بما يجري داخل الجسم

«الإدراك الداخلي»... الحاسة «السادسة» للإنسان
TT

«الإدراك الداخلي»... الحاسة «السادسة» للإنسان

«الإدراك الداخلي»... الحاسة «السادسة» للإنسان

في العام الماضي، حصل أرديم باتابوتيان على وشمٍ خاص، إذ رسم أحد الفنانين شريطاً متشابكاً على ذراعه اليمنى يُجسّد رسماً تخطيطياً لبروتين يُسمّى «بيزو». وكان باتابوتيان، عالم الأعصاب في معهد سكريبس للأبحاث في سان دييغو، قد اكتشف هذا البروتين عام 2010، وفاز عام 2021 بجائزة نوبل عن هذا الاكتشاف. وبعد 3 أعوام، قرّر تخليد ذكرى «بيزو» عبر هذا الوشم.

واكتشف باتابوتيان أن «بيزو» يسمح للنهايات العصبية في الجلد بالشعور بالضغط، ما يساعد على خلق حاسة اللمس. وهو يتذكر قائلاً: «كان من المذهل الشعور بالإبرة وهي تحفر بروتين (بيزو) الذي كنت أستخدمه للشعور به»، أي بعمله.

«الإدراك الداخلي»... الحاسة الداخلية «السادسة»

لم يعد باتابوتيان يدرس كيف يُخبرنا «بيزو» (Piezo) عن العالم الخارجي ومؤثراته، وبدلاً من ذلك، اتجه إلى الداخل لدراسة تدفق الإشارات التي تنتقل من داخل الجسم إلى الدماغ. ويُعد بحثه جزءاً من جهد جديد وكبير لرسم خريطة لهذه الحاسة السادسة، الحاسة الداخلية، المعروفة باسم «الإدراك الداخلي» أو «الحسّ الداخلي» (interoception).

ويكتشف العلماء أن الحس الداخلي يزود الدماغ بصورة غنية للغاية عمّا يحدث في جميع أنحاء الجسم، وهي صورة غالباً ما تكون خافية عن وعينا.

تشكيل العواطف والسلوك... والاضطرابات

تُشكل هذه الحاسة الداخلية عواطفنا وسلوكنا وقراراتنا، وحتى طريقة شعورنا بالمرض عند الإصابة بنزلات البرد. وتُشير كمية متزايدة من الأبحاث إلى أن العديد من الحالات النفسية، بدءاً من اضطرابات القلق، وصولاً إلى الاكتئاب، قد تكون ناجمة جزئياً عن أخطاء في إدراكنا لبيئتنا الداخلية.

قد يصبح من الممكن يوماً ما علاج هذه الحالات، من خلال إعادة ضبط حاسة الشخص الداخلية، لكن أولاً، كما قال باتابوتيان، يحتاج العلماء إلى فهم راسخ لكيفية عمل الإدراك الداخلي. وأضاف «لقد تعودنا على جسدنا».

دراسة الإدراك الداخلي

لدى كل شخص وعي أساسي بالإدراك الداخلي، سواء أكان شعوراً بتسارع دقات قلبك، أم امتلاء مثانتك، أم شعوراً بالخفقان في معدتك. ولطالما اعترف علماء الأعصاب بالإدراك الداخلي بوصفه إحدى وظائف الجهاز العصبي.

ويمتلك العلماء الآن أدوات فعّالة لدراسة الإدراك الداخلي. ويقول ديفيد ليندن، عالم الأعصاب في جامعة جونز هوبكنز، الذي يُؤلّف كتاباً عن الإدراك الداخلي: «في السنوات الخمس الماضية فقط، حُلّت ألغاز جوهرية ظلّت قائمة منذ مائة عام».

وعلى سبيل المثال، ولدراسة بروتين «بيزو» داخل الجسم، قام باتابوتيان وزملاؤه بإدخال فيروسات مُعدّلة وراثياً في عضو لفأر؛ حيث تدخل الفيروسات النهايات العصبية التي تُسبب توهج الخلايا العصبية في العضو. وقد كشف الفحص الدقيق عن أن النهايات العصبية تستخدم بروتينات «بيزو» للكشف عن تغيرات الضغط في العديد من الأعضاء.

استشعار الضغط في كل أعضاء الجسم

ويقول باتابوتيان: «يوجد استشعار الضغط في كل مكان في الجسم». ففي الشريان الأورطي، على سبيل المثال، تستشعر بروتينات «بيزو» ضغط الدم، وفي الرئتين تُسجّل كل نفس شهيق. كما تستشعر تمدد المثانة عند امتلائها بالبول.

وتنتمي العديد من النهايات العصبية المليئة بالبروتينات الكهروكيميائية إلى العصب المبهم، وهو سلك من 100000 خلية عصبية يتسلل إلى العديد من الأعضاء. ويستشعر العصب المبهم الضغط، ولكنه يحتوي أيضاً على مستقبلات تسجل تغيّرات أخرى، مثل تقلبات درجة الحرارة والحموضة. في الأمعاء، يستشعر العصب المبهم جزيئات السكر والدهون في الطعام الذي نتناوله، حتى بعض العناصر الغذائية المحددة، مثل الزنك.

وعندما نستنشق مثلاً، فان البروتينات الكهروكيميائية تستشعر تمدد رئتينا. إلا أن الدماغ يستجيب لذلك بمنع الاستنشاق لئلا يؤدي إلى تمدد بطانة الرئتين الرقيقة. أما إذا اكتشف العصب المبهم وجود سم في أمعائنا، فيمكنه إرسال إشارة إلى الدماغ تؤدي سريعاً إلى التقيؤ.

في أي لحظة، يقوم الدماغ بغربلة ودمج الإشارات من جميع أنحاء الجسم الداخلية. كيف يفعل ذلك، وماذا يفعل بهذه المعلومات، لا يزال غامضاً إلى حد كبير. وقال ليندن: «إنه أمرٌ مُرهِقٌ حقاً، وفهمنا للأمر ضعيفٌ جداً في الوقت الحالي».

الإحساس الداخلي بالمرض... بفضل الدماغ

وأخيراً، أحرز العلم تقدماً في حل لغزٍ واحد على الأقل: كيف يُشعرنا الإحساس الداخلي بالمرض. وقالت كاثرين دولاك، عالمة الأعصاب في جامعة هارفارد التي تدرس المرض: «عندما تشعر بالمرض، تفقد طاقتك، وتفقد شهيتك، وتشعر بتوعك، وتقول: (يا إلهي، هذا جرثومةٌ مزعجة تُسبب لي المرض)... ويتضح أن الدماغ هو مَن يفعل ذلك بك».

في الواقع، يُراقب الدماغ الجسم باستمرار بحثاً عن علامات العدوى. عندما يصطدم مُسبب المرض بنهايات عصبية مُبهمة مُعينة، فإنها تُرسل إشارات إلى الدماغ. وتستطيع النهايات العصبية الأخرى التعرّف على إشارات الإنذار التي تُرسلها الخلايا المناعية لبعضها. ثم يُكوّن الدماغ تصوراتٍ ذهنيةً لهذه العدوى، ويستخدمها لمُقاومتها. قد يرفع ذلك درجة حرارة الجسم، ما يُمكّن الخلايا المناعية من مُحاربة الجراثيم بفاعلية أكبر. وقد يُوقف دورة النوم والاستيقاظ مؤقتاً، مُبقياً إياك في السرير للحفاظ على طاقتك، بل يمكنه إرسال إشارات تُغيّر هجوم الجهاز المناعي على مسببات الأمراض -تكثيف الهجوم هنا، وكبحه هناك- لتقليل الأضرار الجانبية.

لكن الدماغ لا يكتفي بالتفاعل مع الإحساس الداخلي؛ فهو يتعلّم من هذا الإحساس الداخلي، ثم يُقدّم تنبؤات تُحسّن فرص بقائنا.

وقالت كاميلا نورد، عالِمة الأعصاب في جامعة كامبردج: «نحن لا نريد فقط معرفة اللحظة التي ينفد فيها الأكسجين؛ بل نريد أن نعرف متى سيبدأ النفاد... إننا نرغب في امتلاك حاسّة استباقية».

الخلايا الحسّية تتفاعل مع الدماغ

عندما تأكل شيئاً جديداً، على سبيل المثال، تُخبر الخلايا الحسية في أمعائك دماغك ما إذا كان الطعام مصدراً جيداً للمغذيات، وهذه المعلومات قد تُولّد رغبة في تناول مزيد منه في المستقبل. وبالمثل، تُعلّم إشارات المرض الداخلي الدماغ توقع أمراض لم تبدأ بعد. كما أن مجرد رؤية شخص مريض قد يكون كافياً لتحفيز دماغ المُشاهد على تعزيز جهاز المناعة.

الإدراك الداخلي والاضطرابات المَرضية

وعلى الرغم من أهمية الإدراك الداخلي لبقائنا، يُشتبه نورد وباحثون آخرون في أنه مسؤول أيضاً عن عدد من الاضطرابات، فإذا أساء الدماغ تفسير إشارات الجسم، أو إذا كانت هذه الإشارات خاطئة، فقد يُرسل الدماغ أوامر تُسبب الضرر.

ويتزايد اعتقاد الباحثين بإمكانية علاج بعض الاضطرابات النفسية مثل اضطرابات أساسها الحس الداخلي. وتُشير أدوية إنقاص الوزن، مثل أوزيمبيك، بالفعل إلى مدى فاعلية هذا النوع من العلاج، إذ إن هذه الأدوية المعروفة باسم أدوية «GLP-1»، تُحاكي الإشارات التي تُرسلها الأمعاء إلى الدماغ عند تناول الطعام، ما يؤدي إلى فقدان الشهية.

وبالإضافة إلى محاكاة إشارات الجسم، قد يستلزم علاج اضطراب الإدراك الداخلي إعادة ضبط مناطق الدماغ لتفسير الإشارات بشكل مختلف.

أطلس الإدراك الداخلي

لكن باتابوتيان حذّر من صعوبة تحويل الإدراك الداخلي إلى أدوات يمكن التحكم بها قبل أن يتم فهمه بشكل أفضل. ويأمل هو وزملاؤه في مركز «سكريبس» للأبحاث أن يوفّروا أساساً لهذه التطورات، من خلال إنشاء أطلس للإدراك الداخلي في جميع أنحاء الجسم.

وفي اكتشاف حديث، وجدوا أن الدهون مخترقة بنهايات عصبية تستشعر الضغط باستخدام بروتينات «بيزو».

وقال باتابوتيان: «يبدو أن الأمر مهم هنا، لكننا ما زلنا لا نعرف ما الذي تستشعره؟ هل عندما تنمو الدهون، تصبح أكثر كثافة وتزيد الضغط على الأعصاب؟ هل عندما تنمو الدهون، يزداد تدفق الدم، وهذا ما يتم استشعاره؟ ببساطة، لا نعرف الإجابة».

يأمل باتابوتيان أن يساعد أطلسه للإدراك الداخلي العلماء على فهم أعمق لما تستشعره أعصابنا، ليس فقط في الدهون، بل في جميع أنحاء أجسامنا.

* خدمة «نيويورك تايمز».


مقالات ذات صلة

9 علامات تحذيرية تشير إلى تفاقم نزلة البرد

صحتك هناك طرق فعالة لتعزيز المناعة وتجنب أدوار البرد (رويترز)

9 علامات تحذيرية تشير إلى تفاقم نزلة البرد

قال «موقع هيلث» إن نزلة البرد يمكن أن تسبب أعراضاً خفيفة مثل انسداد الأنف، والسعال، والعطس، وانخفاض الطاقة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن )
صحتك تأخذ النساء في أول فحص منزلي للكشف عن فيروس الورم الحليمي البشري «إتش بي في» مسحة مهبلية لتتجنب بذلك الفحص التقليدي باستخدام منظار المهبل في العيادة وترسلها لإجراء الفحص (بيكسباي)

فحص منزلي جديد للكشف عن سرطان عنق الرحم لتجنب الفحوص المزعجة في عيادات الأطباء

بات بإمكان النساء المعرضات لخطر متوسط ​​للإصابة بسرطان عنق الرحم، تجنب الفحوص المزعجة في عيادات الأطباء، وإجراء فحص منزلي آمن للكشف عن الفيروس المسبب للمرض.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك الصداع النصفي لدى الأطفال... ألم في الرأس وآخر في البطن

الصداع النصفي لدى الأطفال... ألم في الرأس وآخر في البطن

الصداع النصفي هو حالة تشمل لدى الكثيرين «صداع ألم الرأس». ولكن في نفس الوقت، ثمة نوع آخر من الصداع النصفي الذي يُصيب الأطفال، وهو صداع «ألم البطن».

د. عبير مبارك (الرياض)
صحتك بدانة الأمهات تزيد مخاطر إصابة الأطفال بالصرع والإعاقة

بدانة الأمهات تزيد مخاطر إصابة الأطفال بالصرع والإعاقة

كشفت دراسة حديثة، عن احتمالية أن تؤدي زيادة مؤشر كتلة الجسم دى الأم قبل الحمل إلى ارتفاع نسبة مخاطر إصابة الأطفال بالمشكلات العصبية

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
صحتك تجاهل الغداء أو تأجيله قد يُربك الساعة البيولوجية للجسم ويؤخر مواعيد الجوع إلى المساء ما يدفع البعض لتناول العشاء في وقت متأخر وبالتالي التأثير على زيادة الوزن (بيكسباي)

ما أفضل وقت لتناول الغداء للحصول على الطاقة والتركيز طوال اليوم؟

يوصي معظم الخبراء بأن يكون الغداء بعد 4 إلى 5 ساعات من الوجبة الصباحية. هذا الإيقاع يساعد الجسم على الحفاظ على مستوى ثابت من الطاقة وتركيز أفضل خلال اليوم.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟
TT

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

في سباق محتدم لنشر نماذج اللغات الكبيرة والذكاء الاصطناعي التوليدي في الأسواق العالمية، تفترض العديد من الشركات أن «النموذج الإنجليزي ← المترجم» كافٍ لذلك.

اللغة- ثقافة وأعراف

ولكن إذا كنتَ مسؤولاً تنفيذياً أميركياً تستعد للتوسع في آسيا أو أوروبا أو الشرق الأوسط أو أفريقيا، فقد يكون هذا الافتراض أكبر نقطة ضعف لديك. ففي تلك المناطق، ليست اللغة مجرد تفصيل في التغليف: إنها الثقافة والأعراف والقيم ومنطق العمل، كلها مُدمجة في شيء واحد.

وإذا لم يُبدّل نظام الذكاء الاصطناعي الخاص بك تسلسل رموزه الكمبيوترية فلن يكون أداؤه ضعيفاً فحسب؛ بل قد يُسيء التفسير أو يُسيء المواءمة مع الوضع الجديد أو يُسيء خدمة سوقك الجديدة.

الفجوة بين التعدد اللغوي والثقافي في برامج الدردشة الذكية

لا تزال معظم النماذج الرئيسية مُدربة بشكل أساسي على مجموعات النصوص باللغة الإنجليزية، وهذا يُسبب عيباً مزدوجاً عند نشرها بلغات أخرى. وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أن اللغات غير الإنجليزية والمعقدة لغويا غالباً ما تتطلب رموزاً أكثر (وبالتالي تكلفةً وحساباً) لكل وحدة نصية بمقدار 3-5 أضعاف مقارنةً باللغة الإنجليزية.

ووجدت ورقة بحثية أخرى أن نحو 1.5 مليار شخص يتحدثون لغات منخفضة الموارد يواجهون تكلفة أعلى وأداءً أسوأ عند استخدام نماذج اللغة الإنجليزية السائدة.

والنتيجة: قد يتعثر نموذج يعمل جيداً للمستخدمين الأميركيين، عند عمله في الهند أو الخليج العربي أو جنوب شرق آسيا، ليس لأن مشكلة العمل أصعب، ولكن لأن النظام يفتقر إلى البنية التحتية الثقافية واللغوية اللازمة للتعامل معها.

«ميسترال سابا» نظام الذكاء الاصطناعي الفرنسي مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا

مثال «ميسترال سابا» الإقليمي جدير بالذكر

لنأخذ نموذج «ميسترال سابا» (Mistral Saba)، الذي أطلقته شركة ميسترال للذكاء الاصطناعي الفرنسية كنموذج مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا (التاميلية والمالايالامية... إلخ). تشيد «ميسترال» بأن «(سابا) يوفر استجابات أكثر دقة وملاءمة من النماذج التي يبلغ حجمها 5 أضعاف» عند استخدامه في تلك المناطق. لكن أداءه أيضاً أقل من المتوقع في معايير اللغة الإنجليزية.

وهذه هي النقطة المهمة: السياق أهم من الحجم. قد يكون النموذج أصغر حجماً ولكنه أذكى بكثير بالنسبة لمكانه.

بالنسبة لشركة أميركية تدخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو سوق جنوب آسيا، هذا يعني أن استراتيجيتك «العالمية» للذكاء الاصطناعي ليست عالمية ما لم تحترم اللغات والمصطلحات واللوائح والسياق المحلي.

تكاليف الرموز والتحيز اللغوي

من منظور الأعمال، تُعدّ التفاصيل التقنية للترميز أمراً بالغ الأهمية. تشير مقالة حديثة إلى أن تكاليف الاستدلال في اللغة الصينية قد تكون ضعف تكلفة اللغة الإنجليزية، بينما بالنسبة للغات مثل الشان أو البورمية، يمكن أن يصل تضخم عدد الرموز إلى 15 ضعفاً.

هذا يعني أنه إذا استخدم نموذجك ترميزاً قائماً على اللغة الإنجليزية ونشرتَه في أسواق غير إنجليزية، فإن تكلفة الاستخدام سترتفع بشكل كبير، أو تنخفض الجودة بسبب تقليل الرموز. ولأن مجموعة التدريب الخاصة بك كانت تركز بشكل كبير على اللغة الإنجليزية، فقد يفتقر «نموذجك الأساسي» إلى العمق الدلالي في لغات أخرى.

أضف إلى هذا المزيج اختلافات الثقافة والمعايير: النبرة، والمراجع، وممارسات العمل، والافتراضات الثقافية، وما إلى ذلك، وستصل إلى مجموعة تنافسية مختلفة تماماً: ليس «هل كنا دقيقين» بل «هل كنا ملائمين».

التوسع في الخارج

لماذا يهم هذا الأمر المديرين التنفيذيين الذين يتوسعون في الخارج؟

إذا كنت تقود شركة أميركية أو توسّع نطاق شركة ناشئة في الأسواق الدولية، فإليك ثلاثة آثار:

-اختيار النموذج ليس حلاً واحداً يناسب الجميع: قد تحتاج إلى نموذج إقليمي أو طبقة ضبط دقيقة متخصصة، وليس فقط أكبر نموذج إنجليزي يمكنك ترخيصه.

-يختلف هيكل التكلفة باختلاف اللغة والمنطقة: فتضخم الرموز وعدم كفاءة الترميز يعنيان أن تكلفة الوحدة في الأسواق غير الإنجليزية ستكون أعلى على الأرجح، ما لم تخطط لذلك.

-مخاطر العلامة التجارية وتجربة المستخدم ثقافية: فبرنامج الدردشة الآلي الذي يسيء فهم السياق المحلي الأساسي (مثل التقويم الديني، والمصطلحات المحلية، والمعايير التنظيمية) سيُضعف الثقة بشكل أسرع من الاستجابة البطيئة.

بناء استراتيجية ذكاء اصطناعي متعددة اللغات واعية ثقافياً

للمديرين التنفيذيين الجاهزين للبيع والخدمة والعمل في الأسواق العالمية، إليكم خطوات عملية:

• حدّد اللغات والأسواق كميزات من الدرجة الأولى. قبل اختيار نموذجك الأكبر، اذكر أسواقك ولغاتك ومعاييرك المحلية وأولويات عملك. إذا كانت اللغات العربية أو الهندية أو الملايوية أو التايلاندية مهمة، فلا تتعامل معها كـ«ترجمات» بل كحالات استخدام من الدرجة الأولى.

• فكّر في النماذج الإقليمية أو النشر المشترك. قد يتعامل نموذج مثل «Mistral Saba» مع المحتوى العربي بتكلفة أقل ودقة أكبر وبأسلوب أصلي أكثر من نموذج إنجليزي عام مُعدّل بدقة.

• خطط لتضخم تكلفة الرموز. استخدم أدوات مقارنة الأسعار. قد تبلغ تكلفة النموذج في الولايات المتحدة «س» دولاراً أميركياً لكل مليون رمز، ولكن إذا كان النشر تركياً أو تايلاندياً، فقد تكون التكلفة الفعلية ضعف ذلك أو أكثر.

• لا تحسّن اللغة فقط، بل الثقافة ومنطق العمل أيضاً. لا ينبغي أن تقتصر مجموعات البيانات المحلية على اللغة فحسب، بل ينبغي أن تشمل السياق الإقليمي: اللوائح، وعادات الأعمال، والمصطلحات الاصطلاحية، وأطر المخاطر.

صمم بهدف التبديل والتقييم النشطين. لا تفترض أن نموذجك العالمي سيعمل محلياً. انشر اختبارات تجريبية، وقيّم النموذج بناءً على معايير محلية، واختبر قبول المستخدمين، وأدرج الحوكمة المحلية في عملية الطرح.

المنظور الأخلاقي والاستراتيجية الأوسع

عندما تُفضّل نماذج الذكاء الاصطناعي المعايير الإنجليزية والناطقة بالإنجليزية، فإننا نُخاطر بتعزيز الهيمنة الثقافية.

كمسؤولين تنفيذيين، من المغري التفكير «سنترجم لاحقاً». لكن الترجمة وحدها لا تُعالج تضخم القيمة الرمزية، وعدم التوافق الدلالي، وعدم الأهمية الثقافية. يكمن التحدي الحقيقي في جعل الذكاء الاصطناعي مُتجذراً محلياً وقابلاً للتوسع عالمياً.

إذا كنت تُراهن على الذكاء الاصطناعي التوليدي لدعم توسعك في أسواق جديدة، فلا تُعامل اللغة كحاشية هامشية. فاللغة بنية تحتية، والطلاقة الثقافية ميزة تنافسية. أما التكاليف الرمزية وتفاوتات الأداء فليست تقنية فحسب، بل إنها استراتيجية.

في عالم الذكاء الاصطناعي، كانت اللغة الإنجليزية هي الطريق الأقل مقاومة. ولكن ما هي حدود نموك التالية؟ قد يتطلب الأمر لغةً وثقافةً وهياكل تكلفة تُمثل عوامل تمييز أكثر منها عقبات.

اختر نموذجك ولغاتك واستراتيجية طرحك، لا بناءً على عدد المعاملات، بل على مدى فهمه لسوقك. إن لم تفعل، فلن تتخلف في الأداء فحسب، بل ستتخلف أيضاً في المصداقية والأهمية.

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».


الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
TT

الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي

في مدينةٍ لا تهدأ، وتحديداً في مركز «جاڤِتس» على ضفاف نهر هدسون، اختتمت أمس أعمال اجتماعات نيويورك السنوية لطبّ الأسنان، التي استمرت 5 أيام، أحد أكبر التجمعات العالمية للمهنة، بمشاركة نحو 50 ألف طبيب وخبير من أكثر من 150 دولة.

لم يكن الحدث مجرد مؤتمر، بل منصّة حيّة لمستقبل طبّ الأسنان؛ فبين أروقته تتقدّم التكنولوجيا بخطى ثابتة: من الروبوتات الجراحية إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي القادرة على قراءة الأشعة في ثوانٍ، وصولاً إلى تجارب التجديد الحيوي التي قد تغيّر شكل العلاج خلال سنوات قليلة.

الذكاء الاصطناعي نجم المؤتمر بلا منافس

كان الذكاء الاصطناعي العنوان الأبرز لهذا العام، إذ جاء المؤتمر في لحظةٍ تتسارع فيها التحوّلات العلمية بسرعة تفوق قدرة المناهج التقليدية على مواكبتها. وقد برزت تقنيات محورية: أنظمة تحليل الأشعة الفورية، والمساعد السريري الذكي، والتخطيط الرقمي للابتسامة. وعلى امتداد القاعات، كان واضحاً أن هذه التقنيات لم تعد تجارب مختبرية، بل هي حلول جاهزة تغيّر طريقة ممارسة المهنة أمام أعيننا.

الروبوتات تدخل غرفة العمليات

شكّلت الجراحة الروبوتية محوراً لافتاً هذا العام، بعد أن عرضت شركات متخصصة أنظمة دقيقة تعتمد على بيانات الأشعة ثلاثية الأبعاد وتتكيف لحظياً مع حاجة الإجراء. وقد أظهرت العروض قدرة هذه الروبوتات على تنفيذ خطوات معقدة بثباتٍ يفوق اليد البشرية، مع تقليل هامش الخطأ ورفع مستوى الأمان الجراحي.

التجديد الحيوي... من الخيال إلى التجربة

عرضت جامعات نيويورك وكورنيل أبحاثاً حول بروتينات مثل «BMP-2»، وهو بروتين ينشّط نمو العظم، و«FGF-2» عامل يساعد الخلايا على الانقسام والتئام الأنسجة خصوصاً الألياف، إلى جانب تقنيات الخلايا الجذعية لإحياء الهياكل الدقيقة للسن.

في حديث مباشر مع «الشرق الأوسط»

وأثناء جولة «الشرق الأوسط» في معرض اجتماع نيويورك لطبّ الأسنان، التقت الدكتورة لورنا فلامر–كالديرا، الرئيس المنتخب لاجتماع نيويورك الكبرى لطب الأسنان، التي أكدت أنّ طبّ الأسنان يشهد «أكبر تحوّل منذ ثلاثة عقود»، مشيرة إلى أنّ المملكة العربية السعودية أصبحت جزءاً فاعلاً في هذا التحوّل العالمي.

وأضافت الدكتورة لورنا، خلال حديثها مع الصحيفة في أروقة المؤتمر، أنّ اجتماع نيويورك «يتطلّع إلى بناء شراكات متقدمة مع جهات في السعودية، أسوة بالتعاون القائم مع الإمارات ومؤسسة (إندكس) وجهات دولية أخرى»، موضحة أنّ هناك «فرصاً واسعة للتعاون البحثي والتعليمي في مجالات الزراعة الرقمية والذكاء الاصطناعي والعلاجات المتقدمة»، وأن هذا التوجّه ينسجم بطبيعة الحال مع طموحات «رؤية السعودية 2030».

العرب في قلب الحدث

شارك وفود من السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين ومصر والعراق في جلسات متقدمة حول الذكاء الاصطناعي والزراعة الرقمية، وكان حضور الوفود لافتاً في النقاشات العلمية، ما عكس الدور المتنامي للمنطقة في تشكيل مستقبل طبّ الأسنان عالمياً.

نيويورك... حيث يبدأ الغد

منذ بدايات اجتماع نيويورك قبل أكثر من قرن، بقيت المدينة مرآةً لتحوّلات المهنة ومختبراً مفتوحاً للمستقبل. وعلى امتداد 5 أيام من الجلسات والمحاضرات والورش العلمية، رسّخ اجتماع نيويورك السنوي مكانته كأكبر تجمع عالمي لطبّ الأسنان، وكمنصّة تُختبر فيها التقنيات التي ستعيد رسم ملامح المهنة في السنوات المقبلة. كما يقول ويليام جيمس، مؤسس الفلسفة البراغماتية الأميركية، إنّ أميركا ليست مكاناً، بل تجربة في صناعة المستقبل... وفي نيويورك تحديداً، يبدو مستقبل طبّ الأسنان قد بدأ بالفعل.


دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
TT

دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)

أدت الزيادة الكبيرة في أعداد الأقمار الاصطناعية المتمركزة في مدار منخفض حول الأرض إلى تطورات في مجال الاتصالات، منها توفير خدمات النطاق العريض في المناطق الريفية والنائية في أنحاء العالم.

لكنها تسببت أيضا في زيادة حادة في التلوث الضوئي في الفضاء، ما يشكل تهديدا لعمل المراصد الفلكية المدارية. وتشير دراسة جديدة أجرتها إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) وتركز على أربعة تلسكوبات فضائية، منها تلسكوبان يعملان حاليا وآخران يجري العمل عليهما، إلى أن نسبة كبيرة من الصور التي سيجري التقاطها بواسطة هذه المراصد على مدى العقد المقبل قد تتأثر بالضوء المنبعث أو المنعكس من الأقمار الاصطناعية التي تشترك معها في المدار المنخفض.

وخلص الباحثون إلى أن نحو 40 بالمئة من الصور التي يلتقطها تلسكوب «هابل» الفضائي ونحو 96 بالمئة من تلك التي يلتقطها مرصد «سفير إكس»، يمكن أن تتأثر بضوء الأقمار الاصطناعية. وقال الباحثون إن «هابل» سيكون أقل تأثرا بسبب مجال رؤيته الضيق.

والتلسكوبات المدارية عنصر أساسي في استكشاف الفضاء، نظرا لما تمتلكه من قدرة على رصد نطاق أوسع من الطيف الكهرومغناطيسي مقارنة بالتلسكوبات الأرضية، كما أن غياب التداخل مع العوامل الجوية يمكنها من التقاط صور أكثر وضوحا للكون، مما يتيح التصوير المباشر للمجرات البعيدة أو الكواكب خارج نظامنا الشمسي.

وقال أليخاندرو بورلاف، وهو عالم فلك من مركز أميس للأبحاث التابع لوكالة ناسا في كاليفورنيا وقائد الدراسة التي نشرت في مجلة نيتشر «في حين أن معظم تلوث الضوء حتى الآن صادر من المدن والمركبات، فإن زيادة مجموعات الأقمار الاصطناعية للاتصالات بدأ يؤثر بوتيرة أسرع على المراصد الفلكية في جميع أنحاء العالم».

وأضاف «في الوقت الذي ترصد فيه التلسكوبات الكون في مسعى لاستكشاف المجرات والكواكب والكويكبات البعيدة، تعترض الأقمار الاصطناعية في كثير من الأحيان مجال الرؤية أمام عدساتها، تاركة آثارا ضوئية ساطعة تمحو الإشارة الخافتة التي نستقبلها من الكون. كانت هذه مشكلة شائعة في التلسكوبات الأرضية. ولكن، كان يعتقد، قبل الآن، أن التلسكوبات الفضائية، الأكثر كلفة والمتمركزة في مواقع مراقبة مميزة في الفضاء، خالية تقريبا من التلوث الضوئي الناتج عن أنشطة الإنسان».

وفي 2019، كان هناك نحو ألفي قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض. ويبلغ العدد الآن نحو 15 ألف قمر. وقال بورلاف إن المقترحات المقدمة من قطاع الفضاء تتوقع تمركز نحو 650 ألف قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض خلال العقد المقبل.