كشفت دراسة حديثة من جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة عن دور غير متوقّع تلعبه العشوائية أو ما يسمّيها العلماء «الضوضاء فوق الجينية» في تحديد هوية الخلايا ووظائفها. وتُظهر النتائج أنّ هذا التشويش في الجينات قد يساعد الجسم على تدريب جهازه المناعي وإصلاح الأنسجة لكنّه أيضاً قد يفتح الباب أمام نمو السرطانات وانتشارها.
الحمض النووي ثابت.. لكن الهوية مختلفة
يحمل كل نوع من خلايا الجسم البشري الحمض النووي نفسه ومع ذلك تتصرّف خلايا الجلد كخلايا جلدية وخلايا الكبد كخلايا كبد لأنّ كل نوع ينشّط مجموعة خاصة من الجينات ويُبقي بقية الجينات صامتة. وعادةً ما تكون هذه العملية دقيقة ومنظّمة لضمان أن تؤدي كل خلية دورها الصحيح.
لكنَّ الباحثين بقيادة الدكتور أندرو كوه، أستاذ علم الأمراض بجامعة شيكاغو، في دراستهم المنشورة في مجلة «Nature» في 20 أغسطس (آب) 2025 وجدوا أنّ بعض الخلايا تكسر هذه القاعدة عمداً. فهي تغيّر طريقة الوصول إلى الحمض النووي، مما يتيح تشغيل جينات لا تخصّها أصلاً كأنّها «تجرب أدواراً جديدة». ويرى أندرو كوه أنّ هذه القدرة على تغيير الهوية الخلوية لم تحظَ بما يكفي من التقدير العلمي لذلك قرّر وفريقه دراسة آلياتها بالتفصيل.

خلايا الغدة الزعترية تحت المجهر
وركّزت الدراسة على خلايا تُسمّى الخلايا الظهارية الزعترية النخاعية medullary thymic epithelial cells (mTECs) والموجودة في الغدة الزعترية فوق القلب. وتتميّز هذه الخلايا بقدرتها النادرة على تفعيل جينات تخصّ أنسجة مختلفة مثل الكبد والبنكرياس والجلد.
وتكمن أهمية هذا الأمر في أن هذه الخلايا تُدرّب الجهاز المناعي، فهي تقدّم للجهاز المناعي «عينات» من بروتينات الجسم كلها بحيث تتعلّم الخلايا المناعية التائية المهاجمة التمييز بين «الذات» و«الغريب».
وتعمل هذه الخلايا مثل مراكز تدريب الجيش، فهي تعرض للجهاز المناعي نماذج أو عيّنات من بروتينات الجسم نفسه حتى تتعلم الخلايا المناعية التائية (وهي الخلايا المهاجمة ضمن الجهاز المناعي) كيف تميّز ما هو جزء طبيعي من الجسم وبين أي جسم غريب مثل الفيروسات أو البكتيريا.
وبهذه الطريقة يتم التخلص من الخلايا التائية المتمردة التي تهاجم أنسجة الجسم نفسه عن طريق الخطأ قبل أن تغادر هذه الخلايا الغدة التي تم تدريبها فيها. وهو ما يمنع حدوث أمراض خطيره تُعرف بأمراض المناعة الذاتية مثل السكري من النوع الأول أو الذئبة، حيث يهاجم الجهاز المناعي خلايا الجسم السليمة بدلاً من الأجسام الضارة.
سرّ العشوائية في الجينات
لفهم ما يحدث داخل الخلايا الظهارية الزعترية النخاعية استخدم الباحث نوح غامبل، من قسم علم الأمراض بجامعة شيكاغو، تقنية متقدمة تُسمى «تسلسل الخلية الواحدة»، حيث تتيح هذه التقنية للعلماء دراسة نشاط الجينات وطريقة تنظيم الحمض النووي (دي إن إيه DNA) في كل خلية على حدة.
ويلتفّ الحمض النووي داخل الخلية حول بروتينات خاصة ليشكّل ما يُعرف بالكروماتين. فإذا كان هذا الكروماتين مشدوداً بإحكام تبقى الجينات بداخله «مغلقة» وصامتة ولا يمكن للخلية قراءتها أو تشغيلها. أما إذا كان الكروماتين مفككاً ومرتّباً بشكل أكثر مرونة فتصبح الجينات مكشوفة ويمكن تفعيلها لإنتاج البروتينات. أي ببساطة فإن انفتاح الكروماتين أو انغلاقه يعمل كمفتاح تشغيل أو وقف للجينات.
المفاجأة كانت أنّ الخلايا الظهارية الزعترية النخاعية لا تلتزم بنظام صارم. فقد لاحظ الباحثون أنّ أجزاء من الحمض النووي في هذه الخلايا «تهتز» بين الفتح والإغلاق بطريقة عشوائية، مما يسمح بتنشيط جينات لا تخصّ الخلية في الأصل. وهذه العشوائية تمنح جهاز المناعة فرصة التدرّب على التعرّف إلى بروتينات من مختلف أنسجة الجسم فيتعلّم التمييز بين ما هو «ذات» وما هو «غريب».
تعطيل «حارس الجينوم»
كما وجد الباحثون أنّ هذه الخلايا تُعطّل عمداً نشاط بروتين مهم يُدعى «p53» المعروف بلقب «حارس الجينوم». ووظيفته عادةً منع الخلايا التالفة من الانقسام أو التحوّل إلى خلايا سرطانية.
لكن عندما أعاد العلماء تفعيل «p53» في الخلايا الظهارية الزعترية النخاعية اختفت العشوائية وأُغلقت الجينات الغريبة، مما سمح لبعض الخلايا التائية المتمردة المدمّرة لأنسجة الجسم بالنجاة مسبّبةً بذلك أمراض مناعة ذاتية في التجارب.
ويشرح الدكتور كوه أن هذه الخلايا تتخلّى مؤقتاً عن صرامة حارس الجينوم لتدريب جهاز المناعة بشكل أفضل رغم المخاطر المصاحبة لذلك.
الوجه المظلم للعشوائية
غير أنّ لهذه المرونة ثمناً. فقد لاحظ الفريق أنّ خلايا الرئة التي فُقد فيها «p53» بدأت تُظهر العشوائية نفسها، مما أدّى إلى تشغيل جينات غريبة وتحويلها إلى أورام عدوانية. و يبدو أنّ بعض أنواع السرطان تستغل هذه الظاهرة لتغيير هويتها والتهرّب من دفاعات الجسم.
أمل في الطب التجديدي
ورغم المخاطر يرى العلماء فرصاً واعدة في هذه الاكتشافات. فإذا تمكّن الباحثون من التحكّم في «الضوضاء فوق الجينية» فقد يصبح ممكناً إعادة برمجة الخلايا لإصلاح الأنسجة التالفة أو تطوير علاجات مناعية أفضل أو حتى وقف نمو السرطانات مبكراً.
ويقول غامبل: «يستخدم الجهاز المناعي العشوائية لمواجهة تهديدات لا نهائية، ومن المنطقي أن يستفيد من العشوائية نفسها لحماية الجسم من نفسه».
نظرة جديدة إلى الهوية الخلوية
تتحدّى هذه الدراسة الفكرة القديمة بأنّ هوية الخلية ثابتة لا تتغيّر. وبدلاً من ذلك تكشف عن أنّ الخلايا تحتفظ بقدر من المرونة يسمح لها بالتكيّف مع التحدّيات المختلفة من تدريب جهاز المناعة إلى شفاء الجروح حتى للأسف دعم نمو الأورام.
ومع استمرار الأبحاث قد يصبح فهم «الضوضاء فوق الجينية» خطوة أساسية نحو علاجات مبتكرة تربط بين مرونة الخلايا وصحّة الإنسان على المدى الطويل.

