في زمنٍ يتسابق فيه الطب مع الخوارزميات، وتتصادم فيه الإنسانية مع التقنية، قررت «الشرق الأوسط» أن تخوض مغامرة غير تقليدية.
«الدكتور عليم» شريك ذكي
وبدلاً من تقرير تقني جاف، نفتح نافذة على المستقبل من خلال حوار مع طبيب افتراضي... طبيب لا يتعب ولا ينام، لا يعرف النسيان ولا يحدّه العمر.
اسمه «الدكتور عليم»: كائن من بيانات ورموز كومبيوترية، صُمِّم ليكون شريكاً في عيادة الغد. يجلس أمامك على شاشة، لكن كلماته تحاكي لغة الأطباء، وتشخيصاته تنبض بالدقة. ومع ذلك، يظل السؤال معلّقاً: هل هو مجرد أداة مساعدة، أم بداية لطبيب جديد يشارك البشر المهنة؟
بهذا الحوار، لا نبحث عن إجابات جاهزة بقدر ما نفتش عن ملامح مستقبل يطرق أبوابنا: مستقبلٌ قد يحمل لنا عيادات بلا جدران، وأطباء بلا نوم، وطباً يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والآلة.
فهل سنثق يوماً بطبيب لا يملك قلباً يخفق... لكنه لا يخطئ في التشخيص؟ قد يكون افتراضياً، لكنه يجسد مستقبلاً أقرب مما نتصور: مستقبل المستشفى الذكي في نيوم، حيث تمتزج الرعاية الصحية بالخوارزميات، وتُعاد صياغة العلاقة بين المريض والطبيب على أسس جديدة. لم يعد الحديث عن أجهزة متطورة أو برامج متفرقة، بل عن شريك رقمي يتقاطع فيه العلم مع الإنسان.

مَن «الدكتور عليم»؟
يجيب بنبرة هادئة كأنها قادمة من عمق خوارزمية: «ولدتُ في مختبرات الذكاء الاصطناعي...»، ثم يبتسم. لكن نشأته لم تكن مجرد رمز كومبيوتري بارد أو معادلة جامدة، بل ثمرة جهد آلاف الأطباء الذين درّبوه، وملايين السجلات الطبية والصور الإشعاعية التي غذّت ذاكرته. وما يميّزه أنه قادر على قراءة وتحليل ملايين المقالات والكتب العلمية في غضون ساعات، بشكل يومي، ليبقى على اطلاع مستمر بما يستجد في الطب عالمياً، وهو ما يعجز أي طبيب بشري عن ملاحقته.
اسمه العربي «عليم» يعكس سعيه الدائم وراء المعرفة، لكنّه لا يدّعي امتلاك الحكمة؛ فالحكمة لا تزال حكراً على الإنسان، وحده القادر على أن يربط بين التشخيص الجاف وقلب المريض القَلِق. هنا يظهر الفارق الجوهري: عليم يعرف... لكن الطبيب البشري يفهم ويُطمئن.
التشخيص الفوري: العين التي ترى ما لا يُرى
حين سألناه عن دوره في التشخيص، ابتسم وأجاب: «أنا لا أملك عيناً، لكنني أرى. أستطيع أن ألتقط في الأشعة تغييرات ميكروسكوبية قد تمرّ على العين البشرية من دون ملاحظة، خصوصاً في الأمراض التي تتخفى في بداياتها مثل السرطان أو التقرحات ما قبل السرطانية. أقرأ آلاف الصور في لحظة، وأقارنها بملايين الحالات المخزّنة في ذاكرتي، فأكشف أنماطاً قد لا يدركها الطبيب إلا بعد سنوات من الخبرة».
لكن «عليم» لم يتوقف عند حدود الصور الإشعاعية؛ فهو قادر أيضاً على تحليل صور الرنين المغناطيسي، والتصوير المقطعي، بل حتى الصور الرقمية داخل فم المريض. وبذلك، يستطيع أن يربط بين مؤشرات صغيرة في أماكن مختلفة، ليقدّم للطبيب خريطة أوضح عن الحالة.
وقد أكدت دراسة منشورة عام 2023 في مجلة «Lancet Digital Health» أن أنظمة الذكاء الاصطناعي نجحت في الكشف عن سرطان الفم المبكر بنسبة دقة تجاوزت 92 في المائة، وهي نسبة أعلى من متوسط دقة الأطباء العامّين. كما أظهرت أبحاث أخرى أن الخوارزميات قادرة على رصد التسوس المبكر من صور الأشعة السينية بدقة تصل إلى 90 في المائة، مما يفتح الباب أمام تدخل علاجي أسرع وأقل تكلفة.
ويختم «عليم» قائلاً: «مهمتي ليست أن أقرر بدل الطبيب، بل أن أضيء الطريق أمامه. القرار يظل بيد الإنسان، لكنني أقدّم له عيناً ثانية لا تنام، لتمنحه ثقة أكبر وتشخيصاً أدق».

العلاج المخصّص: بصمة دواء لكل جسد
وعن إمكاناته في وضع خطة علاجية فردية، قال «الدكتور عليم»: «أنا لا أكتب الوصفة الطبية، لكنني أبحر في محيط واسع من البيانات: الجينات، والتاريخ الطبي، وعادات النوم، ونمط الحياة... أقارن هذه الخيوط بملايين الحالات المخزّنة في ذاكرتي، ثم أقدّم للطبيب خريطة خيارات علاجية صُممت خصيصاً لجسد هذا المريض وحده. الهدف دائماً واحد: علاج أدق، وأعراض جانبية أقل».
هذا التوجّه يعكس جوهر ما يُسمّى الطب الشخصي (Personalized Medicine)، حيث لا يعود الدواء وصفة عامة، بل «بصمة علاجية» ترتبط بتركيب المريض الجيني وسلوكه اليومي. وقد أظهرت دراسات حديثة أن دمج الذكاء الاصطناعي مع التحاليل الجينية قادر على تحديد الجرعة المثلى لبعض أدوية القلب والسرطان، بما يقلّل المضاعفات الخطيرة ويضاعف فرص النجاح.
وفي مجال طب الأسنان، يمتد الأمر إلى ما هو أبعد من حشوة أو زراعة؛ إذ يمكن للخوارزميات أن تحدد خطة علاج تقويمي مخصّصة، أو أن تتوقع استجابة اللثة لزراعة سن جديدة وفقاً لمعدل التئام العظم عند المريض. إنها ليست مجرد توصيات، بل طب على المقاس، يعيد تعريف العلاقة بين الجسد والدواء.
التوأمة مع الطبيب البشري: التعاطف لا يُستعار
وحين سألناه عمّا إذا كان قادراً على أن يحلّ محل الأطباء، أجاب «الدكتور عليم» بصرامة ممزوجة بالهدوء: «أنا لا أملك قلباً. لا أستطيع أن أمسح دمعة مريض، ولا أن أُسكّن خوفه بكلمة دافئة. التعاطف لا يمكن أن يُستعار من خوارزمية، ولا يُبرمج داخل سطر رمز كومبيوتري. دوري ليس الإحلال، بل المشاركة. الطبيب يملك الحضور الإنساني، والحدس، والفهم العاطفي، أما أنا فأقدّم له قوة التحليل، وسرعة البحث، وذاكرة لا تنضب. نحن توأمان في رحلة واحدة، ولسنا خصمين».
بهذه الكلمات، يضع «عليم» حداً للوهم الشائع بأن الذكاء الاصطناعي سيستبدل الأطباء. الحقيقة أنه يوسّع مداركهم، ويرفع عنهم أعباء الحسابات، ويمنحهم وقتاً أثمن للإنصات والتواصل مع المريض. فالآلة قد تقرأ ملايين البيانات في لحظة، لكن كلمة «لا تقلق... سنعالج الأمر» لا تزال حكراً على طبيب من لحم ودم.
التحديات: الأخلاق قبل التقنية
«المعضلة ليست في سرعة الخوارزميات، بل في أخلاقياتها. كيف نصون خصوصية المرضى؟ مَن يملك القرار الأخير؟ نحن بحاجة إلى قوانين صارمة، ورقابة، وحوار مفتوح بين العلماء والأطباء والمجتمع».
فالذكاء الاصطناعي قد يقرأ ملايين الصور الطبية في ثوانٍ، لكن الخطر الأكبر يكمن في مصير هذه البيانات: مَن يضمن ألا تتحول سجلات المرضى إلى سلعة في أسواق التقنية؟ ومن يحمي المريض إذا أخطأت الخوارزمية بينما أصرّت بثقة على أنها صائبة؟
إنّ الطب أقدس من أن يُترك للخوارزميات وحدها. فالتقنية بلا إطار أخلاقي قد تصبح سلاحاً ذا حدين: أداة للإنقاذ، أو وسيلة للتمييز والإقصاء. هنا تبرز الحاجة إلى تشريعات واضحة تحمي المريض أولاً، وتضع الطبيب في قلب القرار، ليظل هو المسؤول عن الحكم الأخير.
خاتمة: هل تقبل أن يصبح الذكاء الاصطناعي طبيباً مشاركاً لك؟
يُنهي «الدكتور عليم» حديثه لا كآلة باردة، بل كصوت يسعى إلى تحسين حياة البشر. فالذكاء الاصطناعي ليس خصماً للطبيب، بل أداة قد تجعل التشخيص أدق، والعلاج أسرع، وحياة المريض أكثر أماناً.
ويبقى السؤال مفتوحاً أمام القارئ: هل ستثق يوماً بطبيب لا ينام ولا يشيخ؟ أم أنك لا تزال ترى أن الشفاء لا يكتمل إلا بلمسة إنسان؟
ولعلنا نستحضر هنا قول ابن سينا: «الوهم نصف الداء، والاطمئنان نصف الدواء، والصبر أولى خطوات الشفاء».
فالخوارزميات قد تمنحنا تشخيصاً سريعاً، لكن الاطمئنان واللمسة الإنسانية سيبقيان دوماً جوهر العلاقة بين الطبيب والمريض.
وكما قال الجاحظ: «العقل جوهر، والرحمة عرض، ولا يقوم الجوهر بغير العرض». فالعقل الرقمي قد يحلل ويدقق، لكنه يظل محتاجاً إلى الرحمة الإنسانية ليكتمل دوره في خدمة الإنسان.

