انْسَ المثالية... حان الوقت للاحتفاء بغرابتك

سمات فريدة تميز شخصية الإنسان عن «المعايير السلوكية السائدة»

انْسَ المثالية... حان الوقت للاحتفاء بغرابتك
TT

انْسَ المثالية... حان الوقت للاحتفاء بغرابتك

انْسَ المثالية... حان الوقت للاحتفاء بغرابتك

كلمة «غريب»، أو عبارة مثل: «غريب الأطوار»: تعبيرات بحد ذاتها تُبهج النفس، إنها ليست سريعة وحيوية فحسب، بل «بهلوانية» بامتياز؛ فهي تقفز لتنفذ حركة سريعة في الهواء قبل أن تدغدغ عقلك.

سمة بشرية فريدة

تُعرّف القواميس «الغرابة» أو «غرابة الأطوار» (quirk) بأنها «عادة سلوكية غريبة»، أو «سمة فريدة، مختلفة، وساحرة أحياناً، تجعل الشخص مميزاً في قلب الحشود»، أو كما يُعرّفها «قاموس أكسفورد»: «جانب من شخصية أو سلوك شخص ما غريب بعض الشيء»... ومع ذلك، تبقى هذه مجرد تجريدات باهتة.

لكن إليك الأمثلة التالية: من الاستحمام في الهواء (بنجامين فرانكلين) إلى الكتابة وقوفاً (فرجينيا وولف)؛ والاكتفاء بالقيلولة المتقطعة، بدلاً من النوم (ليوناردو دافنشي) إلى التحدث بصوت عالٍ مع النفس في أثناء العمل، أو الإجابة عن الأسئلة بفيض من المعلومات. إنها أمثلة تدل على أن غرابة الأشياء بكلّ خصائصها يتعذر حصرها، ما يُعد إحدى الدلائل على التباين اللانهائي في صور السلوك البشري. (وبالطبع، للحيوانات كذلك طباع غريبة. لدى صديقي كلب يسارع إلى مهاجمة شاشة التلفزيون كلما أطل وجه رئيس أميركي معين عليها).

انحرافات حميدة

ويكاد يكون لدى كل منا سمة غريبة أو اثنتان، ويقصد بها انحرافات حميدة عن معيار سلوكي «قياسي» مفترض - أو خرافي، حسبما يرى الكثيرون - أبسط من أن تُحدث احتكاكاً مع الآخرين أو أنها تُعيق الأداء، وغالباً ما تعزز القدرة على التفاعل مع العالم. ومهما كانت بسيطة، فإنها تميل إلى أن تكون سمات مميزة للأفراد، وبمثابة توقيعات فريدة للأشخاص، ووسائل لتيسير التواصل، وأعمدة للوعي الذاتي، ومصادر للنجاح الشخصي والمهني. ومع ذلك، فقد تجاهل علم النفس هذه الصفات وقيمتها تقريباً، وركز بدلاً من ذلك على صور الاضطرابات.

* قد تشكل توقيعاً متميزاً للأفراد ووسائل لتيسير التواصل ومصادر للنجاح الشخصي والمهني*

في هذا الصدد، قال عالم النفس المقيم في نيويورك، باري لوبيتكين: «للكثيرين، فإن الطباع الغريبة عبارة عن علامة مميزة: أنا فريد، ومختلف بشكل فريد. ولا شيء يُسعد الناس أكثر من الشعور بالتميز، والتفرد، والاختلاف».

وهنا يحمل مصطلح «الغرابة» وظيفة دلاليةً أخرى، إذ يُحوّل ما يُمكن اعتباره عيباً، أو بؤرةً للمرض، إلى مصدر فخرٍ. وأشار لوبيتكين إلى أن «الغرابة مصطلحٌ مُسلٍّ، فهو خفيفٌ على اللسان؛ فالناس لا يُريدون معرفة عاداتهم، لكنهم يستمتعون بفكرة امتلاك غرابةٍ مُعيّنة».

ولا يُمكن إنكار وجود حدودٍ مُبهمةٍ غالباً حول فكرة الغرابة، مثلاً بين الغرابة على جانبٍ من النظام الاجتماعي، والغرابة والمرض النفسي، خصوصاً اضطراب الوسواس القهري، على الجانب الآخر. ومع ذلك، فإن هناك فرقاً مهماً: فبالإضافة إلى عدم إضعاف قدرة الناس على العمل، فإن الغرابة لا تُؤذي أو تُعيق بأي شكلٍ من الأشكال تفاعل الآخرين مع أصحابها، كما أوضح لوبيتكين.

ولا يعني هذا أن الغرابة لا يُمكن أن تُؤدّي وظيفةً نفسيةً مُهمة. إن الأشخاص الذين يتحدثون بصوت عالٍ إلى أنفسهم في أثناء العمل قد يفعلون ذلك لتقليل مستوى القلق، أو لإنهاء صوت النقد الداخلي.

إطار ذهني لسلوك مختلف

هناك كذلك تمييز داخلي مهم، يتعلق بالإطار الذهني الذي يبتكره الشخص لسلوكه المختلف: هل يرى اختلافه باعتباره نقيصة أم تفرداً؟

في الغالب، ينظر الناس إلى غرابتهم السلوكية على نحو سلبي في مرحلة الطفولة، في خضم محاولاتهم فهم تعقيدات الأعراف الثقافية ـ أعراف كثيراً ما يجري فرضها بقسوة عبر تنمّر زملاء المدرسة الإعدادية والثانوية. ومع ذلك، فإنهم عندما يكبرون وينضجون، ويشرعون في اكتشاف ذواتهم الحقيقية، يبدأون في الاستمتاع بتلك الغرائب.

ومع ذلك، هناك مَن لا يتجاوز أبداً استبداد تلك المعايير الاجتماعية المبكرة، فيبذلون قصارى جهودهم لإخفاء غرائبهم عن الآخرين. وقد تكون الغرائب محبّبة للغاية، ففي الواقع، فإن هذه السمات تضفي طابعاً إنسانياً على الفرد، من خلال تمييزه عن الآخرين، وخلق نقطة جاذبة للمشاعر الإيجابية.

وغالباً ما تُثير السمات الغريبة البهجة والدهشة، وتُعد أمثلة حيّة على تفرد الإنسان. وهناك جانب آخر يجعل الغرائب سمات محببة؛ فهي بريئة، لا تخدم غرضاً خفياً أو مصلحة شخصية.

في هذا الصدد، شرحت المعالجة المعنية بقضايا الأسرة سوزان بيرن - ستون، أن «الغرائب ليست تبادلية، أي أنها لا تُوجد لغرض تحقيق مكسب ما، بل هي تعبيرات صافية عن الشخصية». وأضافت: «إنها تُضيف متعة إلى التفاعل مع الشخص».

نموذج لفهم الغرابة: التنوع العصبي

إذا كان هناك نموذج لفهم الغرائب، فهو مفهوم «التنوع العصبي» (neurodiversity)، الذي يدور حول فكرة أن أدمغة البشر تعمل بطرق مختلفة، وإنه ضمن حدود معينة، لا تُعدّ الاختلافات في الإدراك والسلوك «نواقص» أو «اضطرابات»، وإنما اختلافات طبيعية وعضوية.

يكمن الهدف الرئيسي من هذا المفهوم في قبول الفردية: الامتناع عن إصدار أي حكم سلبي على التنوع البشري؛ وبدلاً من ذلك فتح الباب أمام الاستمتاع بهذه الاختلافات والاستفادة منها.

غالباً ما يرتبط مفهوم التنوع العصبي بـالتوحُّد؛ إذ نشأ أصلاً ضمن النقاشات المتعلقة بهذه الحالة. ونتيجة لذلك، كثيراً ما يجري وضع جميع مظاهر التنوع العصبي تحت مظلة التوحد.

غير أنه في الواقع، كما شرح الطبيب النفسي المقيم في نيويورك، غرانت برينر، أن التنوع العصبي يتجاوز طيف التوحد بكثير.

وعلى سبيل المثال، فإن التوحُّد لا يشمل كل أشكال معالجة الحواس غير التقليدية أو صعوبات التعلم غير اللفظية، ناهيك من الاختلافات الشخصية أو طرق التكيّف مع التجارب التنموية والشدائد، وكلها تسهم في تشكيل الطيف الواسع من الغرائب، التي تُضفي نكهة مميزة على صور السلوك البشري.

وأضافت عالمة النفس المقيمة في لوس أنجليس، ديبرا براوس، وهي أم داعمة للتنوع العصبي، ولديها ابن مصاب بالتوحد، أن هناك أبعاداً في التفكير أو الشعور أو السلوك يكون فيها كل إنسان غير نمطي بطريقة ما.

وأوضحت: «ليس بهم نقيصة أو بحاجة إلى إصلاح، بل لديهم فقط نظام تشغيل مختلف».

وأشارت إلى أن المشكلة تكمن في أن تربيتنا تجري على فكرة أن هناك طريقة واحدة صحيحة لفعل الأمور، وطريقة واحدة صحيحة لنكون «أشخاصاً طبيعيين» في هذا العالم. غير أنه في الحقيقة، نحن نستفيد من تعدد وجهات النظر وتنوع الأساليب.

ومع ذلك، نتولى الحكم على الآخرين ـ عادةً على نحو سلبي ـ بناءً على مقياس واحد ضيق، ونتولى «تجريم» أو «تشخيص» الاختلافات، باعتبارها اضطرابات.

وفي ظل تزايد تعقيد العالم ومشكلاته، يبدو جلياً أن التفكير المختلف أصبح ضرورةً متزايدة، خصوصاً أنه يُسهم في إيجاد طرق مبتكرة لحل المشكلات، فالأعمال الرقمية والتكنولوجية تُركز على التفاصيل ـ سمةٌ غالباً ما تكون من سمات التوحد.

وهم الكمال - احترام تباينات الطبيعة

وعلى نحو مماثل، تدحض الغرائب فكرة الكمال؛ فهي تُمثل دليلاً قاطعاً على أن الكمال ليس سوى وهمٍ وخيال، وأنه ليس مستحيلاً فحسب، بل غير ضروري وغير ذي أهمية، وأن السعي وراء الكمال ليس سوى عبث.

وتتجسد الغرائب الجمالية والفلسفة اليابانية المعروفة باسم «وابي سابي (Wabi-sabi)». وحسبما شرحها ليونارد كورين في كتابه «(وابي سابي) للفنانين والمصممين والشعراء والفلاسفة»، فإن «وابي سابي» نهجٌ يصعب استيعابه تجاه جميع جوانب الحياة، يُدرك عدم كمال الأشياء وزوالها، ويُقدّر ما هو شخصي وفريد، ويحترم الطبيعة، خاصة تبايناتها، ويتقبل عدم قدرتها على التحكم في جوهرها.

ويتجلى «وابي سابي» بوضوح في فن «الكينتسوغي (kintsugi)» الياباني، حيث لا يُغض الطرف عن العيوب فحسب، بل إنها تُبرز وتمنح مساحة لتتألق. عادةً، تُرمم قطعة فخار مكسورة، وتُغلّف الشظايا المتكسرة معاً بورنيش يحتوي على مسحوق ذهبي أو فضي مضيء. وبذلك، يصبح الإناء، عملياً، أقوى من ذي قبل، وفي الوقت ذاته لا يُخفى العيب، بل يجري عرضه وتحويله إلى ميزة.

في عالم البشر، تُعزّز الغرائب الود؛ فهي تربط بين الناس، وتُحفّز الألفة. عن ذلك، قال لوبيتكين: «إن النظر إلى عيوب الآخرين باعتبارها سمات محببة، تُمكّنني من تقبّل عيوبي والامتناع عن إصدار أحكام على الآخر».

إن تقدير النقائص لدى الآخرين يسمح للناس بأن يكونوا ضعفاء. في هذا الصدد، قال لوبيتكين: «إن رؤية صفة غريبة يُوظّفها شخص ما بشكل إيجابي تُعطي الإذن للآخرين (ليظهروا غرابتهم). إن الشيء الغريب الذي أحبه فيك يُساعدني على تقبّل ضعفي».

وكما قال برينر: «لهذا الأمر تأثير يضفي على الآخرين شعوراً بالتحرر».

نقاط قوة

في الواقع، إن النظر إلى الصفات المميزة باعتبارها نقاط قوة يُحرر الناس ويشجعهم على استخدامها كأدوات للتفاعل مع العالم. ويُقال إن أحداً لم يستفد من صفاته المميزة بقدر مارشال غولدسميث، الذي يُعتبر منذ زمنٍ طويلٍ المدرب التنفيذي الرائد في العالم، والرجل الذي ابتكر هذه المهنة بمفرده.

وأضاف: «سيخبرك أي شخص عملت معه أنني شديد المواجهة. أُلقي عليهم اللوم. أسخر منهم. في برنامج تدريب المدربين، أتحول إلى رمز لكل ما لا ينبغي فعله».

لن يتهم أحدٌ غولدسميث أبداً بأنه شخصٌ رتيب أو ممل، لكن صراحته المُفرطة تُناسب تماماً زبائنه المميزين - أشخاصٌ في القمة ليس لديهم أقرانٌ للتحدث معهم، ولا يسمعون الحقيقة أبداً ممن حولهم، وليس لديهم وقتٌ يُضيعونه - أضف إلى ذلك أن هؤلاء الأشخاص مفعمون بالوقاحة.

استغلال الصفات الغريبة إيجابياً

من ناحيةٍ أخرى، فإنّ اعتبار الصفات الغريبة عيوباً يجب إخفاؤها يدفع العقل نحو اتخاذ موقف دفاعي، لتجنب كشفها؛ وبذلك يُهدر الطاقة التي يُمكن توظيفها في مساعٍ إيجابية، بينما يسمح تقبّل الصفات الغريبة - ودمجها بسلاسة في الشخصية - باستغلالها على الوجه الأكمل. وبحسب برينر، فإنها صورة من صور «تعظيم الشخصية» - أي أن تكون أفضل نسخة من شخصيتك. وأضاف: «يشبه الأمر تعلّم استخدام التوابل المناسبة بالطريقة الصحيحة، فالأمر يصبح سمةً مُميّزةً». في الواقع، الأمر يصبح أشبه بتوقيع، أو علامة تجارية، أو أداة لتأكيد الأصالة.

ويبدأ إنجاح غرابتك عبر الوعي الذاتي، بمعنى معرفة نفسك، وقبولها، واختيار التعبير عنها. وكما الحال مع أي سمة، معرفة متى تُوظّفها. وهنا، أوضح برينر: «أنت بحاجة إلى القليل من الشجاعة أو الثقة لإظهار غرابتك الحقيقية». ويتطلب الأمر بعض الممارسة. «لا تخشَ المخاطرة. عليك أن تكون على استعداد لمواجهة الفشل. عليك أن تختبر، وأن تتبنى نهجاً ارتجالياً، وأن تسمح لنفسك بالخروج عن المألوف. عليك أن تجعل ذلك هدفاً نصب عينيك، وأن تُطلق العنان لنفسك لتكون النسخة الأفضل من غرابتك».

* مجلة «سيكولوجي توداي» - خدمات «تريبيون ميديا»


مقالات ذات صلة

لصحة نفسية أفضل... 5 عادات يجب أن تحملها معك لعام 2026

يوميات الشرق الحرمان من النوم يؤثر على المزاج والذاكرة والانتباه (بيكسلز)

لصحة نفسية أفضل... 5 عادات يجب أن تحملها معك لعام 2026

يقترب عام 2025 من النهاية، ويستعد العديد من الأشخاص لدخول العام الجديد بعادات جيدة ومتينة، على صعيد الصحة العامة والصحة النفسية أيضاً.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك ساعات ذكية تُساعد الآباء في التحكم بنوبات غضب الأطفال

ساعات ذكية تُساعد الآباء في التحكم بنوبات غضب الأطفال

ترتبط بتطبيق هاتفي يتنبأ بحدوثها بعد تحليل المؤشرات البيولوجية

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
صحتك الضحك له فوائد صحية كثيرة (رويترز)

«الضحك من القلب» مرتين أسبوعياً... مفتاحك لصحة أفضل

بالإضافة إلى تعزيزه المناعة وتقليله مستويات التوتر، يعدّ الضحك أيضاً مفيداً للقلب، وله فوائد صحية أخرى كثيرة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الاستخدام المفرط لتطبيقات المواعدة يرتبط بمشاكل نفسية (رويترز)

استخدام تطبيقات المواعدة مرتبط بتدهور الصحة النفسية

يستخدم مئات الملايين من الأشخاص حول العالم تطبيقات المواعدة للعثور على شريك حياة. ورغم مزاياها العديدة، فإنها ليست إيجابية للصحة النفسية دائماً.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك 7 أمور تجعل أطفالك قريبين منك حين يكبرون

7 أمور تجعل أطفالك قريبين منك حين يكبرون

يأمل كل والد أن يظل طفله يلجأ إليه بعد سنوات ليقضي معه وقتًا، ويشاركه أفراحه وأحزانه، ويطلب منه النصح والإرشاد.

«الشرق الأوسط» (لندن)

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟
TT

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

يعتمد العلماء منذ سنوات طويلة على خرائط الجينات البشرية لفهم كيفية عمل الجسم وتفسير أسباب الأمراض، بل أيضاً لتطوير علاجات دقيقة لها.

بيانات وراثية أوروبية

لكنّ دراسة علمية حديثة كشفت أن هذه الخرائط رغم أهميتها لا تُمثل البشرية جمعاء بعدالة؛ لأنها بُنيت في الأساس على بيانات وراثية لأشخاص من أصول أوروبية، ما أدّى إلى تجاهل جزء كبير من التنوع الجيني العالمي.

وتُشير الدراسة التي نُشرت في مجلة «Nature Communications» في 3 ديسمبر (كانون الأول) 2025 إلى أن هذا الخلل العلمي ليس تفصيلاً بسيطاً، بل قد يؤثر مباشرة في فهمنا للأمراض، وكيف تختلف بين الشعوب، ولماذا تظهر بعض الحالات الصحية بشكل أكثر شيوعاً أو بشدة أكبر لدى مجموعات سكانية دون غيرها.

ما هي خرائط الجينات؟

خرائط الجينات بمثابة دليل إرشادي يوضح مواقع الجينات في الحمض النووي «دي إن إيه» (DNA)، ويشرح كيف تُستخدم هذه الجينات داخل الخلايا لإنتاج البروتينات، وهي الجزيئات المسؤولة عن معظم وظائف الجسم. لكن الجين الواحد لا يعمل دائماً بالطريقة نفسها، إذ يمكنه إنتاج أكثر من نسخة من التعليمات الجينية تُعرف بجزيئات الحمض النووي الريبي «RNA»، من خلال عملية تُسمى «التضفير» (splicing). وقد تؤدي هذه النسخ المختلفة إلى بروتينات متباينة، ومن ثم إلى اختلافات في وظائف الخلايا والاستجابة للأمراض.

ما التضفير الجيني؟

عند قراءة الخلية للتعليمات الوراثية لا تستخدم النص الخام كما هو، فبعد نسخ الجين إلى الحمض النووي الريبي «RNA» تقوم الخلية بعملية تُسمى التضفير؛ حيث تُزال الأجزاء غير الضرورية، وتُربط الأجزاء المفيدة فقط لتكوين رسالة جينية جاهزة لصنع البروتين.

الأهم من ذلك أن الخلية قد تُغيّر طريقة الربط أحياناً في عملية تُعرف بـالتضفير البديل، ما يسمح للجين الواحد بإنتاج عدة بروتينات مختلفة، وهذه الآلية تفسر التنوع الكبير في وظائف الخلايا، كما تُساعد العلماء على فهم سبب اختلاف الأمراض واستجابتها للعلاج بين الأفراد والشعوب.

أين تكمن المشكلة؟

المشكلة الأساسية، حسب الدراسة، أن معظم خرائط الجينات الحالية اعتمدت على عينات وراثية من أشخاص ذوي أصول أوروبية. ورغم أن البشر يتشابهون جينياً بنسبة تقارب 99.9 في المائة فإن النسبة المتبقية تعكس تاريخاً طويلاً من التطور والاختلافات التي نشأت بسبب العزلة الجغرافية والبيئية.

ويضيف المؤلف المشارك الرئيسي الدكتور روديريك غويغو من مركز «تنظيم الجينوم» بمعهد «برشلونة للعلوم والتكنولوجيا» بإسبانيا، أنه وبسبب هذا التركيز الأوروبي لم تُسجَّل الكثير من النسخ الجينية الموجودة لدى سكان أفريقيا وآسيا والأميركتين، ونتيجة ذلك ظلّت أجزاء مهمة من النشاط الجيني البشري غير مرئية للعلماء.

ماذا اكتشف الباحثون؟

واستخدم فريق البحث تقنية متطورة تُعرف باسم «تسلسل الحمض النووي الريبي طويل القراءة»، وهي تقنية تسمح بقراءة جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» كاملة، وليس على شكل أجزاء صغيرة كما في الطرق الأقدم.

وقام الباحثون بتحليل خلايا دم من 43 شخصاً ينتمون إلى مجموعات سكانية متنوعة حول العالم. وكانت النتيجة مفاجئة؛ حيث جرى اكتشاف نحو 41 ألف نسخة من جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» لم تكن مدرجة في خرائط الجينات الرسمية. والأهم من ذلك أن نسبة كبيرة من هذه النسخ يمكن أن تنتج أشكالاً جديدة أو مختلفة من البروتينات لم يكن العلماء على علم بوجودها من قبل.

وتبيّن أن هذه النسخ الجديدة تظهر بشكل أكبر لدى الأشخاص من أصول غير أوروبية، في حين كانت معظم النسخ لدى الأوروبيين معروفة مسبقاً، ما يؤكد وجود تحيّز علمي غير مقصود في قواعد البيانات الجينية.

لماذا يهمنا هذا الاكتشاف؟

وتكمن أهمية هذه النتائج في ارتباط بعض النسخ الجينية المكتشفة حديثاً بجينات معروفة لها علاقة بأمراض مثل الربو والذئبة الحمراء والتهاب المفاصل الروماتويدي واضطرابات الكولسترول. وهذا لا يعني بالضرورة أن هذه النسخ تسبب الأمراض، لكنه يعني أن العلماء قد يكونون قد أغفلوا إشارات جينية مهمة تُساعد على فهم اختلاف المرض بين الشعوب.

فإذا كانت الخرائط الجينية لا تتضمن كل النسخ الموجودة فعلياً فإن الأبحاث الطبية التي تعتمد عليها قد تكون ناقصة، وقد لا تُفسر بدقة لماذا يستجيب بعض المرضى للعلاج في حين لا يستجيب آخرون.

نحو طب أكثر عدالة

تُشير الدراسة إلى أن الاعتماد على «جينوم مرجعي واحد» لجميع البشر لم يعد كافياً، فعندما استخدم الباحثون خرائط جينية شخصية لكل فرد ظهرت نسخ إضافية لم تكن مرئية من قبل، خصوصاً لدى ذوي الأصول الأفريقية.

ولهذا يدعو العلماء إلى العمل على إنشاء ما يُعرف بـ«البانترانسكريبتوم البشري» (pantranscriptome) وهو مشروع طموح يهدف إلى جمع كل نسخ الحمض النووي الريبي «RNA» المستخدمة في مختلف أنسجة الجسم وعبر مراحل العمر ولدى جميع الشعوب.

الخطوة التالية

ويعترف الباحثون بأن دراستهم ما زالت محدودة، إذ شملت نوعاً واحداً من الخلايا وعدداً صغيراً نسبياً من الأشخاص. ومع ذلك فإن حجم الاكتشافات يُشير إلى أن ما نعرفه اليوم قد لا يكون سوى «قمة جبل الجليد».

ويؤكد العلماء أن بناء خرائط جينية أكثر شمولاً لن يكون مجرد إنجاز علمي بل خطوة أساسية نحو طب جينومي أكثر دقة وعدالة يراعي التنوع الحقيقي للبشرية، ويضمن أن يستفيد الجميع من التقدم العلمي، لا فئة واحدة فقط.


بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
TT

بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض

لم يعد الذكاء الاصطناعي في الطب ضيفاً تجريبياً، ولا فكرةً مستقبلية تُناقَش في مؤتمرات النخبة. لقد دخل العيادة بهدوء، وجلس إلى جوار الطبيب دون معطف أبيض، وبدأ يشارك في قراءة الأشعة، واقتراح خطط العلاج، وكتابة ملاحظات السجل الطبي، وأحياناً في ترتيب أولويات المرضى أنفسهم.

تساؤلات أخلاقية

ومع هذا الدخول الصامت، وُلد سؤال أكبر من التقنية ذاتها: ما الذي يجب أن يعرفه المريض؟ ومَن يضمن عدالة القرار؟ ومَن يتحمّل الخطأ إن وقع؟

هذه ليست أسئلة فلسفية مجردة، بل أسئلة أخلاقية يومية، يواجهها الطب الحديث في عام 2025، في غرف الطوارئ، وعيادات الأورام، ومراكز الأشعة، وحتى في التطبيقات الصحية التي يحملها المرضى في جيوبهم.

حين يُصبح القرار مشتركاً... مَن المسؤول؟

في الطب التقليدي، كانت المسؤولية واضحة نسبياً: الطبيب يشخّص، ويقرّر، ويتحمّل تبعات قراره. أما في الطب المدعوم بالذكاء الاصطناعي، فقد أصبح القرار مشتركاً، ولكنه غير متكافئ:

- خوارزمية تقترح.

- طبيب يراجع أو يثق.

- مريض لا يرى إلا النتيجة.

فإذا أخطأت الخوارزمية في قراءة صورة، أو بالغت في تقدير خطر، أو تجاهلت متغيراً نادراً... من يُسأل؟ هل هو الطبيب الذي اعتمد عليها؟ أم المستشفى الذي اشترى النظام؟ أم الشركة التي درّبت الخوارزمية على بيانات غير مكتملة؟

هنا، لا يكفي أن نقول إن الذكاء الاصطناعي «أداة مساعدة»، فالأداة التي تُغيّر مسار قرار علاجي قد تُغيّر مصير إنسان.

قرار واحد... ووجوه مختلفة: سؤال العدالة الخوارزمية

عدالة الخوارزمية... هل هي محايدة حقّاً؟

يُروَّج للذكاء الاصطناعي بوصفه أكثر عدالة من البشر، لأنه لا يتعب ولا يتحيّز عاطفياً، لكن الحقيقة العلمية تقول شيئاً أكثر تعقيداً: الخوارزمية ترث تحيّزات البيانات التي دُرِّبت عليها. فإذا كانت البيانات تمثّل فئات عمرية أو عرقية أو جغرافية دون غيرها، فإن القرار الناتج قد يكون دقيقاً لفئة... وخاطئاً لأخرى.

وإذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تُدرَّب في بيئات صحية غربية متقدمة، فهل تكون قراراتها عادلة حين تُستخدم في سياقات صحية مختلفة في العالم العربي أو الدول النامية؟

العدالة هنا ليست شعاراً أخلاقياً، بل شرط علمي وسريري. خوارزمية غير عادلة قد تكون أخطر من طبيب متعب.

حق المريض في المعرفة... إلى أي حدّ؟

أحد أكثر الأسئلة حساسية اليوم هو: هل يحق للمريض أن يعرف أن قرار علاجه أسهم فيه ذكاء اصطناعي؟ أخلاقياً، يميل الجواب إلى «نعم»، فالمريض ليس مجرد متلقٍّ للعلاج، بل شريك في القرار، ومن حقه أن يعرف كيف صُنِع هذا القرار، وبأي أدوات، وعلى أي افتراضات.

لكن الواقع السريري أكثر تعقيداً. لا أحد يريد أن يُربك المريض بتفاصيل تقنية لا يفهمها، أو أن يُضعف ثقته بالعلاج، أو أن يحوّل العيادة إلى قاعة شرح خوارزميات. هنا يظهر التحدي الحقيقي: كيف نُفصح دون أن نُرهق؟ وكيف نُصارح دون أن نُقلق؟

الطريق الأخلاقي ليس في الصمت، ولا في الإغراق بالمصطلحات، بل في الإفصاح الذكي: أن يُقال للمريض، بلغة إنسانية بسيطة، إن النظام ساعد الطبيب في التحليل، لكن القرار النهائي بقي بيد الإنسان، وتحت مسؤوليته.

الطبيب بين الثقة والكسل المعرفي

مع ازدياد دقة الأنظمة الذكية، يواجه الأطباء خطراً صامتاً لا يُناقَش كثيراً: الكسل المعرفي. إذ حين يعتاد الطبيب على أن «الخوارزمية لا تخطئ»، قد يتراجع دوره من ناقد علمي إلى مُصدِّق تقني. وهنا لا يصبح الذكاء الاصطناعي مساعداً، بل سلطة خفية.

الطب، في جوهره، ليس قراءة أرقام فقط، بل فهم سياق: مريض قلق، تاريخ اجتماعي، عوامل نفسية، تفاصيل لا تظهر في البيانات. والخطر الحقيقي ليس أن تُخطئ الخوارزمية، بل أن يتوقف الطبيب عن مساءلتها.

أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لا تُطالب الأطباء برفض التقنية، بل تطالبهم بشيء أبسط وأعمق: أن يبقى الضمير يقظاً، والعقل ناقداً، وألا يُسلِّم القرار الطبي النهائي إلا بعد فهمه، لا بعد نسخه.

حين يتقدّم القرار الآلي... مَن يقود الضمير؟

الشفافية... حين لا نفهم كيف وصل القرار

واحدة من أعقد المعضلات الأخلاقية اليوم هي ما يُعرف بـ«الصندوق الأسود»، فكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تصل إلى قرارات دقيقة إحصائياً، لكنها تعجز عن شرح كيف ولماذا وصلت إلى هذه النتيجة.

فكيف يُحاسَب قرار لا يمكن تفسيره؟ وكيف يُناقَش تشخيص لا نعرف مساره المنطقي؟ وهل يجوز أخلاقياً أن نُخضع مريضاً لعلاج، لأن «الخوارزمية قالت ذلك»، دون تفسير قابل للفهم البشري؟

الطب لا يعيش على الدقة وحدها، بل على الشرح والثقة. والمريض لا يطلب دائماً نسبة مئوية، بل يريد أن يفهم. ولهذا، فإن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الطب تدفع اليوم بقوة نحو ما يُسمّى «الذكاء القابل للتفسير»، لا لأنه أجمل علمياً، بل لأنه أكثر إنسانية.

المساءلة القانونية... فراغ يتّسع

إذا حدث الخطأ، يبدأ السؤال الأصعب: مَن يُحاسَب؟ القوانين الصحية في معظم دول العالم لم تُصمَّم لعصر تشارُك القرار بين الإنسان والآلة. فلا هي تُدين الخوارزمية، ولا تُعفي الطبيب، ولا تُحدِّد بوضوح مسؤولية الشركات المطوِّرة.

هذا الفراغ القانوني ليس تفصيلاً إدارياً، بل خطر أخلاقي حقيقي.

فمن دون مساءلة واضحة، قد يُغري الذكاء الاصطناعي بعض الأنظمة الصحية بتوسيع استخدامه بلا ضوابط، أو تحميل الطبيب وحده مسؤولية قرار لم يصنعه منفرداً، ولهذا، فإن النقاش الأخلاقي اليوم لم يعد ترفاً أكاديمياً، بل ضرورة تشريعية: قوانين تُحدِّد المسؤولية، وتحمي المريض، وتُعيد رسم حدود الثقة بين الإنسان والتقنية.

الخلاصة: حين تسبق الخوارزمية... يجب أن يتقدّم الضمير

الذكاء الاصطناعي في الطب ليس شراً ولا خلاصاً. إنه مرآة لما نضعه فيه: بياناتنا، وقيمنا، وانحيازاتنا.

فإن قُدِّم بلا أخلاق، تحوّل إلى أداة باردة، وإن وُضع في يد طبيب بلا مساءلة، أصبح سلطة صامتة. وإن أُدير بحكمة، أعاد للطب جوهره الأصيل: أن يُنقذ الإنسان دون أن يُلغيه.

وكما قال ابن سينا قبل ألف عام: «العلم بلا ضمير خطر على النفس». وفي عصر الخوارزميات، لعل أخطر ما نخسره ليس الخطأ التقني... بل أن ننسى أن الطب، في النهاية، فعل رحمة قبل أن يكون قراراً ذكياً.


دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
TT

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة

لطالما كان توقيت وصول الإنسان الحديث إلى أستراليا وكيفية حدوث ذلك واحداً من الأسئلة المثيرة في تاريخ البشرية. وتشير دراسة جينية جديدة إلى أن البشر وصلوا إلى القارة القديمة المعروفة باسم «ساهول» قبل نحو 60 ألف عام، وقد سلكوا في ذلك مسارَيْن مختلفَيْن عبر البحر، في واحدة من أقدم الأدلة المعروفة على الملاحة البحرية المتعمدة.

وقد نُشرت نتائج الدراسة في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 بمجلة «Science Advances»، إذ دعّمت ما يُعرف بفرضية «التسلسل الزمني الطويل» التي تفترض أن أولى موجات الاستيطان البشري في أستراليا حدثت قبل ما بين 60 و65 ألف سنة، وليس في فترة لاحقة، كما افترضت بعض النظريات السابقة.

قارة قديمة ونقاش طويل

كانت «ساهول» (Sahul) قارة واحدة تضم ما يُعرف اليوم بأستراليا وغينيا الجديدة وتسمانيا. ومع ارتفاع مستويات البحار بعد العصر الجليدي الأخير قبل نحو 9 آلاف عام انفصلت هذه اليابسة إلى القارات والجزر الحالية.

وعلى مدى عقود اختلف العلماء حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى هذه المنطقة، ففي حين افترضت بعض الدراسات وصولاً متأخراً نسبياً قبل نحو 47 إلى 51 ألف عام، قدمت الدراسة الجديدة أدلة قوية على استيطان أقدم بكثير.

ويقول عالم الآثار كريستوفر كلاركسون، من جامعة غريفيث في أستراليا الذي لم يشارك في الدراسة، إن هذه أول دراسة شاملة تربط بين علم الآثار والوراثة والمناخ والملاحة البحرية، وتقدم حجة قوية للغاية حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى أستراليا.

تتبع الأصول عبر خط الأم

وقد اعتمد الباحثون على نوع خاص من الحمض النووي (دي إن إيه) DNA يُعرف بالحمض النووي للميتوكوندريا، الذي يُورث غالباً من الأم فقط. وتُعد هذه المادة الوراثية أداة مهمة لتتبع السلالات البشرية عبر آلاف الأجيال.

وحلل الفريق الجينومات الميتوكوندرية لنحو ألف شخص معظمهم من السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة إلى جانب نحو 1500 جينوم منشور سابقاً. ومن خلال تتبع الطفرات الوراثية الصغيرة تمكّن الباحثون من إعادة بناء سلالات بشرية قديمة تعود إلى نحو 60 ألف عام.

مساران للهجرة نحو «ساهول»

ومن أبرز نتائج الدراسة أن البشر الأوائل لم يصلوا إلى «ساهول» عبر طريق واحد فقط بل عبر مسارَين مختلفين في الفترة الزمنية نفسها تقريباً.

كما يرجّح الباحثون أن إحدى المجموعتَين سلكت مساراً شمالياً عبر ما يُعرف اليوم بالفلبين وشرق إندونيسيا، في حين جاءت مجموعة أخرى عبر مسار جنوبي انطلقت فيه من جنوب شرق آسيا القارية مع عبور مساحات من البحر المفتوح.

وتشير النتائج إلى أن معظم السلالات الحية اليوم بين السكان الأصليين لأستراليا وغينيا الجديدة تعود إلى أسلاف اتبعوا المسار الشمالي.

ويقول عالم الآثار، آدم بروم، من جامعة غريفيث الأسترالية الذي لم يشارك أيضاً في الدراسة، إن هذه النتائج تقدم دعماً قوياً لفكرة أن المسار الشمالي كان المفتاح في الاستيطان الأول لأستراليا، مشيراً إلى اكتشافات حديثة لفنون كهوف قديمة جداً في إندونيسيا تدعم هذا الطرح.

أصل أفريقي واحد

وعلى الرغم من اختلاف المسارات تشير الدراسة إلى أن المجموعتَين تنحدران من سلالة بشرية واحدة خرجت من أفريقيا قبل نحو 70 إلى 80 ألف عام. ويُعتقد أن هذا الانقسام حدث في جنوب أو جنوب شرق آسيا قبل 10 إلى 20 ألف عام من الوصول إلى «ساهول».

ويؤكد الباحث المشارك في كلية العلوم التطبيقية بجامعة هدرسفيلد في المملكة المتحدة، مارتن ريتشاردز، أن السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة يمتلكون أقدم سلالة بشرية متصلة خارج أفريقيا دون انقطاع.

دليل مبكر على الملاحة البحرية

ولا تقتصر أهمية الدراسة على الجانب الجيني فحسب، بل تسلط الضوء أيضاً على القدرات التقنية للإنسان القديم، فالوصول إلى «ساهول» تطلّب عبور مسافات طويلة من البحر المفتوح حتى في فترات انخفاض مستوى سطح البحر.

وتقول الباحثة المشاركة هيلين فار، من مركز علم الآثار البحرية بقسم الآثار في جامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، إن هذه الرحلات لم تكن نتيجة انجراف عشوائي بل دليل على استخدام القوارب والقيام برحلات بحرية محددة ومقصودة قبل نحو 60 ألف عام.

إعادة رسم تاريخ الهجرة البشرية

وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن الإنسان الحديث كان أكثر قدرة على التخطيط والتنقل والاستكشاف عما كان يُعتقد سابقاً، وأن استيطان أستراليا لم يكن حدثاً واحداً بسيطاً بل عملية معقدة شاركت فيها مجموعات متعددة ومسارات مختلفة.

ومع استمرار تطور تقنيات تحليل الحمض النووي واكتشاف مواقع أثرية جديدة يتوقع العلماء أن تتضح صورة أكثر دقة عن بدايات انتشار الإنسان الحديث حول العالم، لتؤكد أن أستراليا كانت من أوائل محطات هذه الرحلة البشرية الكبرى.