قرون من العزلة ترسم مشهداً وراثياً فريداً لسكان جزيرة غرينلاند

أدّت إلى تضخيم المتغيرات النادرة والجينات المتنحية

قرون من العزلة ترسم مشهداً وراثياً فريداً لسكان جزيرة غرينلاند
TT

قرون من العزلة ترسم مشهداً وراثياً فريداً لسكان جزيرة غرينلاند

قرون من العزلة ترسم مشهداً وراثياً فريداً لسكان جزيرة غرينلاند

على مدى أكثر من ألف عام، لم تؤثر التضاريس الجليدية الشاسعة في غرينلاند على استراتيجيات البقاء لسكانها فحسب، بل انعكست على حمضهم النووي أيضاً. وقد كشفت دراسة جديدة كيف نحتت قرون من العزلة ملفاً وراثياً مميزاً لسكان غرينلاند، ما يوفر رؤى حول التكيف البشري ودروساً للرعاية الصحية العادلة.

وقد قاد فريق دولي من العلماء هذه الدراسة، التي نُشرت في مجلة «Nature» في 12 فبراير(شباط) 2025، حيث قاموا بتحليل جينومات 5996 بالغاً من سكان غرينلاند، أي ما يقرب من 14 بالمائة من السكان البالغين. وأكدت البيانات أن أسلاف الإنويت (Inuit) وصلوا إلى غرينلاند في موجة هجرة واحدة من سيبيريا عبر أميركا الشمالية منذ نحو ألف عام، حيث بلغ عدد المجموعة المؤسسة أقل من 300 فرد.

والإنويت هي مجموعة من الشعوب الأصلية المتشابهة ثقافياً وتاريخياً التي تسكن تقليدياً المناطق القطبية الشمالية وشبه القطبية الشمالية في أميركا الشمالية، بما في ذلك غرينلاند. وظل سكان غرينلاند معزولين إلى حد كبير، ما خلق «عنق زجاجة» وراثياً، أدى إلى تضخيم المتغيرات النادرة والجينات المتنحية.

التكيفات القطبية والمخاطر الوراثية

وكان أحد أبرز الاكتشافات في الدراسة هو انتشار التكيفات الجينية الخاصة بالقطب الشمالي، مثل المتغير في جين «CPT1A» الذي ينظم استقلاب الأحماض الدهنية. وقد ساعد هذا التكيف أسلاف الإنويت على البقاء في بيئة فقيرة الموارد من خلال اتباع الأنظمة الغذائية الغنية بالثدييات البحرية.

لكن العزل الجيني لم يكن دائماً ميزة، فقد أدى أيضاً إلى زيادة تواتر الطفرات المتنحية الضارة، مثل الطفرة المسؤولة عن الركود الصفراوي المألوف في غرينلاند (Cholestasis Familiaris Groenlandica – CFG)، وهو اضطراب كبدي شديد. وينتشر هذا الاضطراب بشكل خاص في شرق غرينلاند حيث أدى العزل الجغرافي إلى الحد من التنوع الجيني. ونتيجة لذلك، يتم الآن فحص الحوامل في غرينلاند بشكل روتيني لهذا المتغير، ما يسهم في تحسين الرعاية الصحية.

والركود الصفراوي هو انخفاض أو توقف تدفق الصفراء، الذي عادة ما يحدث أثناء الحمل، ولكن يمكن أن يحدث أيضاً للذكور والإناث غير الحوامل بسبب ضعف إفراز الصفراء من خلايا الكبد أو انسداد يمنع تدفق الصفراء، أو مزيج من الاثنين. كما يمكن أن يتسبب الركود الصفراوي في ظهور الجلد وبياض العينين باللون الأصفر. وقد يسبب أيضاً حكة في الجلد والتعب والغثيان وبراز كريه الرائحة. حيث يمكن أن تؤثر هذه الحالة على الأشخاص من جميع الأعمار.

ويسلط المشهد الوراثي الفريد لسكان غرينلاند الضوء على التحديات الأوسع في علم الوراثة، حيث تظل المجتمعات الأصلية والسكان الصغار ممثلين بشكل ضئيل في قواعد البيانات الجينية التي تهيمن عليها بيانات الأوروبيين. وقد تؤدي هذه الفجوة إلى تفاوتات صحية، إذ التشخيصات والعلاجات المصممة لمجموعة معينة قد لا تكون مناسبة لمجموعات أخرى.

ووفقاً لعالم المعلومات الحيوية في جامعة كوبنهاغن، أندرس ألبريشتسن، فإن سكان غرينلاند لا يمتلكون عدداً أكبر من الطفرات الوراثية مقارنة بالأوروبيين، لكن عزلتهم زادت من انتشار بعض السمات المتنحية، مثل الاضطرابات الأيضية والحالات العصبية.

الهجرة والتحولات الجينية

وقد شهد منتصف القرن العشرين تحولاً جذرياً في غرينلاند مع تزايد التحضر وانتقال السكان إلى العاصمة نوك. وتشير الدراسة إلى أن هذه الهجرة الداخلية يمكن أن تخفف من انتشار الأمراض الوراثية المتنحية عن طريق تعزيز تدفق الجينات.

لكن هذه التغيرات تطرح تساؤلات مهمة؛ هل سيؤدي التحضر والتغيير في النظام الغذائي إلى اختفاء التكيفات الجينية التي ساعدت السكان على البقاء في القطب الشمالي؟ وكيف يمكن لأنظمة الرعاية الصحية أن توازن بين فوائد التنوع الوراثي والحفاظ على المعرفة البيولوجية الفريدة؟

يؤكد أندرس كوخ، طبيب أول في مستشفى كوين إنغريد في الدنمارك، أن دراسة الجينوم لدى السكان الصغار يمكن أن يكون لها تأثير كبير على صحتهم. وعلى سبيل المثال، بينما لا يكون من المنطقي فحص الركود الصفراوي في الدنمارك، فإن ذلك ضروري في غرينلاند.

وتشير الدراسة أيضاً إلى أن انتقال مزيد من سكان غرينلاند من القرى الصغيرة إلى المناطق الحضرية قد يقلل من انتشار الأمراض المتنحية، مثل الركود الصفراوي المألوف. لكن هذه التحولات قد تعني أيضاً فقدان بعض التكيفات الجينية الفريدة التي ساعدت السكان على البقاء لقرون.

إن دراسة السكان المعزولين مثل سكان غرينلاند لا تعطي لمحة فقط عن التاريخ الوراثي البشري، بل توفر معلومات قيّمة أيضاً يمكن أن تحسن الرعاية الصحية العالمية. ومع استمرار العالم في التغير، تبقى مسألة التكيف الوراثي والموازنة بين الحفاظ على الهوية الجينية والتنوع البيولوجي أمراً بالغ الأهمية لمستقبل الصحة العامة.


مقالات ذات صلة

علماء يطوّرون طريقة رائدة للقضاء على أمراض قاتلة محتملة

صحتك الطريقة الجديدة تستخدم تقنية حقن «النانو» لإدخال مواد جينية مستهدفة في بيض البعوض مما يعطل قدرته على حمل الأمراض (رويترز)

علماء يطوّرون طريقة رائدة للقضاء على أمراض قاتلة محتملة

طوّر علماء تقنيةً ثوريةً لتعديل الجينات تهدف إلى منع البعوض من نقل الأمراض القاتلة مثل الملاريا، التي تقتل نحو 600 ألف شخص سنوياً، معظمهم أطفال دون الخامسة.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
علوم خلايا (صورة أرشيفية)

تقرير: علماء ينجحون في تكوين فأر من جينات كائن وحيد الخلية

قالت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية إن علماء نجحوا لأول مرة في تكوين فأر من جينات كائن حي وحيد الخلية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
علوم «اختراقات علم الوراثة» لدراسة الرضّع... يمكن أن تغير حياة البشر

«اختراقات علم الوراثة» لدراسة الرضّع... يمكن أن تغير حياة البشر

لِفَهم وتحديد التأثيرات الجينية

د. وفا جاسم الرجب (لندن)
علوم الإجراء يهدف لمنع الأم من نقل الجينات المعيبة في الميتوكوندريا لطفلها (رويترز)

دراسة وراثية تشير إلى الأوكسيتوسين بوصفه علاجاً محتملاً للسمنة واكتئاب ما بعد الولادة

حددت دراسة حديثة جيناً معيناً بعدّه عاملاً حاسماً في تطور السمنة والمشكلات السلوكية واكتئاب ما بعد الولادة لدى الأمهات. 

د. وفا جاسم الرجب (لندن)
علوم جين بشري فريد يعزز وظيفة المناعة لدى غالبية البشر

جين بشري فريد يعزز وظيفة المناعة لدى غالبية البشر

يعزز السمات الوقائية

د. وفا جاسم الرجب (لندن)

ثورة في جراحة العظام: كيف تحسّن «الغرسات المطبوعة» زراعة المفاصل؟

تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد حققت قفزات متوالية في مجال جراحة العظام (جامعة برنو للتكنولوجيا)
تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد حققت قفزات متوالية في مجال جراحة العظام (جامعة برنو للتكنولوجيا)
TT

ثورة في جراحة العظام: كيف تحسّن «الغرسات المطبوعة» زراعة المفاصل؟

تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد حققت قفزات متوالية في مجال جراحة العظام (جامعة برنو للتكنولوجيا)
تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد حققت قفزات متوالية في مجال جراحة العظام (جامعة برنو للتكنولوجيا)

مع التطور السريع في تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد، شهد قطاع الرعاية الصحية تحولاً جذرياً في تصنيع الغرسات الطبية، لا سيما في جراحة العظام واستبدال المفاصل.

وتتيح هذه التقنية إنتاج غرسات مخصصة تتناسب مع البنية التشريحية لكل مريض، مما يعزّز الراحة ويُسرّع عملية الشفاء. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات تتعلّق بمتانة المواد المستخدمة وتجانس خصائصها الميكانيكية، وهذا قد يؤثر في كفاءة وأمان هذه الغرسات على المدى الطويل.

تطوير صيني

في هذا السياق، توصل فريق بحثي من مختبر مواد «سونغشان ليك» في الصين إلى تطوير أول ركبة اصطناعية في العالم مصنوعة بالكامل بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد بالليزر التي حصلت رسمياً على موافقة إدارة المنتجات الطبية الوطنية في الصين بصفتها جهازاً طبياً مبتكراً. وركز الفريق في دراسته على تحسين قوة وثبات سبائك «الكوبالت-الكروم-الموليبدينوم» (CoCrMo) المستخدمة في زراعة المفاصل، التي تُصنَّع باستخدام تقنية الانصهار بالليزر، وهي إحدى طرق الطباعة ثلاثية الأبعاد التي تتيح تصنيع هياكل دقيقة ومخصصة للمرضى.

غير أن هذه التقنية تُنتج مواد ذات بنية متباينة الخصائص الميكانيكية، حيث أظهرت الاختبارات الأولية أن الغرسات كانت أكثر مرونة في اتجاه معين مقارنة بآخر، مما يؤدي إلى تفاوت في القوة الهيكلية ويؤثر في أدائها الطبي.

لمعالجة هذه المشكلة، طبّق الفريق عملية معالجة حرارية من خطوتَيْن، الأولى تضمّنت تسخين المادة إلى 1150 درجة مئوية لمدة ساعة واحدة، ثم تبريدها سريعاً بالماء؛ مما أدى إلى إعادة تبلور الحبيبات المعدنية وتحسين انتظام بنيتها، أما الأخرى فشملت إعادة تسخين المادة إلى 450 درجة مئوية لمدة 30 دقيقة؛ مما عزّز توازن الخصائص الميكانيكية، وقضى على التباين بين الاتجاهات المختلفة في المادة.

وبعد تطبيق هذه المعالجة الحرارية، أظهرت الاختبارات تحسّناً ملحوظاً في قوة الغرسات ومرونتها، حيث تساوت تقريباً قيم الاستطالة القصوى في جميع الاتجاهات. كما ساعدت هذه العملية في التخلص من العيوب البنيوية وتكوين حبيبات متجانسة، وهذا ما عزّز مقاومة الغرسات للتآكل والإجهاد الميكانيكي. ونُشرت النتائج في عدد 4 مارس (آذار) 2025 من دورية «Materials Futures».

تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد ساهمت في تحسين نتائج جراحات العظام (مستشفى تامبا العام بالولايات المتحدة)

غرسات مخصصة

يقول الباحث الرئيسي للدراسة من مختبر مواد «سونغشان ليك» في الصين، الدكتور تشانغوي سونغ، إن الطباعة ثلاثية الأبعاد تتيح تصنيع غرسات طبية مخصصة وفقاً للقياسات التشريحية الدقيقة لكل مريض، مما يعزّز التوافق مع العظام ويقلّل المضاعفات.

وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن تقنية الانصهار بالليزر تتيح التحكم الدقيق في البنية المجهرية، ما يسمح بتكوين هياكل معقّدة يصعب تحقيقها بطرق التصنيع التقليدية مثل الصب أو التشكيل. كما توفّر كفاءة إنتاجية أعلى من خلال تسريع عمليات التصنيع وتقليل الفاقد من المواد، مقارنة بالأساليب التقليدية.

ونوه بأن الغرسات الجديدة تتمتع بمتانة وموثوقية أعلى، مما يقلّل من مخاطر الكسر أو الفشل في أثناء الاستخدام المطوّل. كما أن تحسين بنية المعدن يُسهم في توزيع الإجهادات بالتساوي، ما يجعل الغرسة أكثر قدرة على تحمّل الضغوط المختلفة بكفاءة أكبر، وهذا يقلّل الحاجة إلى عمليات استبدال متكررة. كما يساعد التصميم المخصص والهيكل المحسّن على تقليل الالتهابات والرفض المناعي، مما يسرّع تعافي المرضى بعد الجراحة.

وتوقّع سونغ أن تُحدث الطباعة ثلاثية الأبعاد تحولاً كبيراً في تصنيع الغرسات العظمية، إذ تتيح إنتاج غرسات مخصصة بدقة تتناسب مع البنية العظمية لكل مريض. ومستقبلاً، قد يؤدي دمج المواد الحيوية مع الطباعة ثلاثية الأبعاد إلى تطوير غرسات تتكامل مع أنسجة الجسم بشكل طبيعي.

قفزات تقنية

وحقّقت الطباعة ثلاثية الأبعاد قفزات متوالية في مجال جراحة العظام. ففي أكتوبر (تشرين الأول) 2024، طوّر باحثون من جامعة تكساس في دالاس تقنية طباعة ثلاثية الأبعاد منخفضة التكلفة، لإنشاء نماذج واقعية لعظم الفخذ لدى البشر، يمكن أن تساعد الأطباء في التحضير للعمليات الجراحية لإصلاح العظام وتطوير علاجات لأورام العظام.

وتهدف هذه التقنية إلى توفير بديل أقل تكلفة وأسرع للاختبارات البيوميكانيكية، مقارنة بالعظام الاصطناعية التقليدية أو العظام المتبرع بها. وتتكوّن النسخة المطبوعة من حمض «البولي لاكتيك»، وهو بوليمر حيوي منخفض التكلفة وقابل للتحلل، يتميز بخصائص بيوميكانيكية مماثلة للعظام البشرية، حيث تبلغ تكلفة كل نسخة نحو 7 دولارات فقط. كما أشار الباحثون إلى إمكانية استخدام هذه العظام المطبوعة في إصلاح العظام أو اختبار علاجات الأورام، بل ربما في زراعة أنسجة عظمية بشرية مستقبلاً.

كما طوّر فريق بحثي من جامعة واترلو الكندية في أغسطس (آب) 2024، مادة جديدة تحاكي خصائص أنسجة العظام، مما يفتح المجال لاستخدامها في الطباعة ثلاثية الأبعاد لإنتاج رقع عظمية مخصصة للمرضى الذين يحتاجون إلى ترميم أو جراحة إعادة بناء العظام.

وتوفّر هذه التقنية بديلاً مبتكراً للغرسات المعدنية والعظام المتبرع بها التي قد لا تتناسب تماماً مع تشريح المريض أو قد يرفضها الجسم. وتتكون المادة الجديدة من مركب نانوي حيوي يتمتع بقوة ميكانيكية عالية وقابلة للطباعة، مع إمكانية تحوله لاحقاً إلى نسيج عظمي طبيعي داخل الجسم؛ مما قد يقلّل من الحاجة إلى عمليات جراحية متكررة.

وكان فريق من جامعة نيو ساوث ويلز في سيدني بأستراليا، نجح في يناير (كانون الثاني) 2021، في تطوير حبر حيوي يمكن استخدامه في الطباعة ثلاثية الأبعاد للعظام مباشرة داخل جسم المريض، دون الحاجة إلى درجات حرارة عالية أو مواد كيميائية قاسية. يعتمد هذا الابتكار، المسمى «COBICS»، على طباعة مادة فوسفات الكالسيوم الحيوية التي تتحول إلى مصفوفة نانوية مسامية تحاكي بنية العظام الطبيعية عند وضعها في حمام هلامي بدرجة حرارة الجسم. وقد أظهر الحبر توافقاً حيوياً عالياً، حيث استطاعت الخلايا الالتصاق به والتكاثر بنسبة نجاح بلغت 95 في المائة بعد الطباعة.

ووفق الباحثين، يمثّل هذا النهج تقدماً كبيراً في إصلاح العظام التالفة بسبب الإصابات أو السرطان. ويُجري الفريق حالياً اختبارات لتقييم قدرة الطباعة على إصلاح الجروح العظمية الكبيرة، ويخطط للتعاون مع الجراحين وأطباء الأسنان لاستكشاف التطبيقات الطبية لهذه التقنية.