حملات عالمية لـ«محو أمية» الذكاء الاصطناعي

قوانين أميركية وأوروبية لتطوير مهارات التفكير النقدي وتقييم استخدامه المناسب

حملات عالمية لـ«محو أمية» الذكاء الاصطناعي
TT
20

حملات عالمية لـ«محو أمية» الذكاء الاصطناعي

حملات عالمية لـ«محو أمية» الذكاء الاصطناعي

مع ازدياد توظيف التكنولوجيا في الحياة اليومية، يواجه الباحثون والمعلمون عقبتين متميزتين: تعليم الناس كيفية استخدام هذه الأدوات بمسؤولية بدلاً من الاعتماد عليها بشكل مفرط، مع إقناع المتشككين في الذكاء الاصطناعي بتعلم ما يكفي عن التكنولوجيا ليكونوا مواطنين مطلعين، حتى لو اختاروا عدم استخدامها، كما كتبت جاكي سنو(*).

هدف نشر الذكاء الاصطناعي

الهدف لا يتعلق بمجرد محاولة «إصلاح» نماذج الذكاء الاصطناعي من هفواتها وهلوساتها، التي تقول عنها ماريا دي أرتيغا، الأستاذة المساعدة في كلية ماكومبس لإدارة الأعمال بجامعة تكساس في أوستن: «إن النماذج لا تفشل. نحن الذين نستخدم النماذج لأشياء لا تصلح للغرض المقصود منها».

بل إن الهدف هو التعرف على أوجه القصور في الذكاء الاصطناعي وتطوير المهارات اللازمة لاستخدامه بحكمة. وهذا يُذكِّرنا بكيفية اضطرار مستخدمي الإنترنت الأوائل إلى تعلم كيفية التنقل عبر المعلومات عبر الإنترنت، إذ إنهم فهموا في النهاية أنه في حين قد تكون «ويكيبيديا» نقطة انطلاق جيدة للبحث، فلا ينبغي الاستشهاد بها كمصدر أساسي. وكما أصبحت معرفة القراءة والكتابة الرقمية ضرورية للمشاركة في الحياة الحديثة، فإن معرفة القراءة والكتابة في مجال الذكاء الاصطناعي أصبحت أساسية لفهم وتشكيل مستقبلنا.

هلوسة الذكاء الاصطناعي

في قلب هذه الحوادث المؤسفة للذكاء الاصطناعي، تقبع الهلوسة والتشوهات التي تدفع نماذج الذكاء الاصطناعي إلى توليد معلومات كاذبة بثقة ظاهرية. وهذه المشكلة منتشرة على نطاق واسع: في إحدى الدراسات التي أجريت عام 2024، أخطأت برامج المحادثة الآلية في الاستشهادات الأكاديمية الأساسية بنسبة تتراوح بين 30 في المائة و90 في المائة من الوقت، مما أدى إلى تشويه عناوين الأوراق البحثية وأسماء المؤلفين وتواريخ النشر.

بينما تَعِد شركات التكنولوجيا بإمكانية ترويض هذه الهلوسة من خلال هندسة أفضل، تقول دي أرتيغا إن الباحثين يجدون أنها قد تكون أساسية لكيفية عمل التكنولوجيا. وتشير إلى ورقة بحثية من OpenAI -شركة «أوبن إيه آي» التي خلصت إلى أن نماذج اللغة «المعايرة جيداً» يجب أن تهلوس كجزء من عمليتها الإبداعية. وإذا جرى تقييدها لإنتاج معلومات واقعية فقط، فإنها ستتوقف عن العمل بشكل فعال. وتضيف دي أرتيغا: «من وجهة نظر رياضية وفنية، هذا هو ما صُممت النماذج للقيام به».

قوانين تعليمية لمحو «أمية الذكاء الاصطناعي»

مع اعتراف الباحثين بأن هلوسات الذكاء الاصطناعي أمر لا مفر منه وأن البشر يميلون بطبيعة الحال إلى وضع كثير من الثقة في الآلات، يتدخل المعلمون وأصحاب العمل لتعليم الناس كيفية استخدام هذه الأدوات بشكل مسؤول.

وقد أقرَّت ولاية كاليفورنيا أخيراً قانوناً يتطلب دمج التعرف وتعليم الذكاء الاصطناعي في المناهج الدراسية من الروضة حتى الصف الثاني عشر بدءاً من هذا الخريف. كما يتطلب قانون الذكاء الاصطناعي للاتحاد الأوروبي، الذي دخل حيز التنفيذ في 5 فبراير (شباط) الحالي، من المنظمات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي في منتجاتها تنفيذ برامج معرفة الذكاء الاصطناعي.

يقول فيكتور لي، الأستاذ المشارك في كلية الدراسات العليا للتربية بجامعة ستانفورد: «معرفة الذكاء الاصطناعي مهمة للغاية الآن، خصوصاً أننا نحاول معرفة السياسات، وما الحدود، وما الذي نريد قبوله بوصفه الوضع الطبيعي الجديد. في الوقت الحالي، يتحدث الأشخاص الذين يعرفون أكثر بثقة كبيرة، وهم قادرون على توجيه الأمور، وهناك حاجة إلى مزيد من الإجماع المجتمعي».

ويرى لي أوجه تشابه مع كيفية تكيف المجتمع مع التقنيات السابقة: «فكر في الآلات الحاسبة - حتى يومنا هذا، لا تزال هناك انقسامات حول متى تستخدم الآلة الحاسبة في الروضة حتى الصف الثاني عشر، وما يجب أن تعرفه مقابل ما يجب أن تكون الآلة الحاسبة مصدراً للأشياء»، كما يقول. ويضيف: «مع الذكاء الاصطناعي، نجري نفس المحادثة غالباً مع الكتابة كمثال».

تدريب على المهارات وفهم أعمق للتكنولوجيا

وبموجب القانون الجديد في كاليفورنيا، يتعين على تعليم معرفة الذكاء الاصطناعي أن يشمل فهم كيفية تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي وتدريبها، وتأثيراتها المحتملة على الخصوصية والأمن، والآثار الاجتماعية والأخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي. ويذهب الاتحاد الأوروبي إلى أبعد من ذلك، حيث يطلب من الشركات التي تنتج منتجات الذكاء الاصطناعي تدريب الموظفين المناسبين على «المهارات والمعرفة والفهم التي تسمح للمزودين والموزعين والأشخاص المتضررين... بنشر أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل مستنير، فضلاً عن اكتساب الوعي بالفرص والمخاطر التي يفرضها الذكاء الاصطناعي والأضرار المحتملة التي يمكن أن يسببها».

ويؤكد الإطاران أن معرفة الذكاء الاصطناعي ليست مجرد معرفة تقنية بل تتعلق بتطوير مهارات التفكير النقدي لتقييم الاستخدام المناسب للذكاء الاصطناعي في مجالات وسياقات مختلفة.

تسويق «سحري»

وفي خضمّ هجوم تسويقي من شركات التكنولوجيا الكبرى، فإن التحدي الذي يواجه المعلمين معقَّد. وتُظهِر الأبحاث الحديثة المنشورة في «مجلة التسويق» Journal of Marketing، أن الأشخاص الذين لديهم فهم أقل للذكاء الاصطناعي هم في الواقع أكثر عرضة لاحتضان التكنولوجيا، واعتبارها سحرية تقريباً. ويقول الباحثون إن هذا الرابط بين «انخفاض معرفة القراءة والكتابة والاستقبال الأعلى» للتكنولوجيا يشير إلى «أن الشركات قد تستفيد من تحويل جهودها التسويقية وتطوير المنتجات نحو المستهلكين الذين لديهم معرفة أقل بالذكاء الاصطناعي».

ويقول المعلمون إن الهدف ليس إضعاف الانفتاح على التكنولوجيا الجديدة، بل الجمع بينها وبين مهارات التفكير النقدي التي تساعد الناس على فهم إمكانات الذكاء الاصطناعي وحدوده. وهذا مهم بشكل خاص للأشخاص الذين يفتقرون إلى القدرة على الوصول إلى التكنولوجيا، أو الذين يشككون ببساطة في الذكاء الاصطناعي أو يخشونه.

بالنسبة إلى الباحث لي، فإن النجاح في محو أمية الذكاء الاصطناعي يتطلب رؤية السحر فيه. يقول: «يغذّي القلق وعدم اليقين الكثير من الشكوك أو عدم الرغبة في تجربة الذكاء الاصطناعي. إن رؤية أن الذكاء الاصطناعي هو في الواقع مجموعة من الأشياء المختلفة، وليس جهاز كمبيوتر حساساً يتحدث، وأنه ليس حتى يتحدث حقاً، بل مجرد يلفظ الأنماط المناسبة، هو جزء مما قد يساعد على محو أمية الذكاء الاصطناعي في غرسه».

تطوير مناهج تدريس الذكاء الاصطناعي

في جامعة مدينة نيويورك يقود لوك والتزر، مدير مركز التدريس والتعلم في مركز الدراسات العليا بالمدرسة، مشروعاً لمساعدة أعضاء هيئة التدريس في تطوير مناهج لتدريس محو أمية الذكاء الاصطناعي ضمن تخصصاتهم.

يقول والتزر إن الطلاب يحتاجون إلى فهم أن هذه الأدوات لها أساس مادي - فهي مصنوعة من رجال ونساء، ولها آثار في العمل، ولها تأثير بيئي».

ويعمل المشروع «CUNY»، المدعوم بمنحة قدرها مليون دولار من «غوغل» مع 75 أستاذاً على مدار ثلاث سنوات لتطوير أساليب التدريس التي تدرس آثار الذكاء الاصطناعي عبر مجالات مختلفة. وسيتم توزيع المواد والأدوات التي تم تطويرها من خلال المشروع علناً حتى يتمكن المعلمون الآخرون من الاستفادة من عمله. يقول والتزر: « ثلاث سنوات تسمح للأمور بالاستقرار. سنكون قادرين على رؤية المستقبل بوضوح أكبر».

مناهج جامعية

تنتشر مثل هذه المبادرات بسرعة عبر التعليم العالي. إذ تهدف جامعة فلوريدا إلى دمج الذكاء الاصطناعي في كل تخصص جامعي وبرنامج دراسات عليا. وابتكرت كلية بارنارد نهجاً «هرمياً» يبني تدريجياً معرفة الطلاب بالذكاء الاصطناعي من الفهم الأساسي إلى التطبيقات المتقدمة. وفي كلية كولبي، وهي كلية خاصة للفنون الليبرالية في ولاية ماين، يعزز الطلاب معرفتهم بالقراءة والكتابة باستخدام بوابة مخصصة تتيح لهم اختبار ومقارنة روبوتات الدردشة المختلفة.

ووفقاً لبحث أجراه مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة، فقد أطلقت نحو 100 جامعة وكلية مجتمعية شهادات الذكاء الاصطناعي، مع زيادة منح الدرجات العلمية في المجالات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي بنسبة 120 في المائة منذ عام 2011.

فصل مزاعم التسويق عن الحقائق

بالنسبة إلى معظم الناس، فإن تعلم كيفية التنقل في الذكاء الاصطناعي، يعني فرز ادعاءات التسويق للشركات مع القليل من التوجيه. على عكس الطلاب الذين سيحصلون قريباً على تعليم رسمي في مجال الذكاء الاصطناعي، يجب على البالغين أن يكتشفوا بأنفسهم متى يثقون في هذه الأدوات المنتشرة بشكل متزايد - ومتى يتم بيعها بشكل مفرط من الشركات الحريصة على استرداد استثمارات الذكاء الاصطناعي الضخمة.

يحدث هذا التعلم الذاتي بسرعة، فقد وجدت «لينكد إن» أن العاملين يضيفون مهارات معرفة الذكاء الاصطناعي مثل الهندسة السريعة والكفاءات مع أدوات مثل «تشات جي بي تي» بمعدل خمسة أضعاف تقريباً من المهارات المهنية الأخرى.

دورات لشركات التكنولوجيا

مع محاولة الجامعات والمشرعين مواكبة ذلك، تقدم شركات التكنولوجيا فصولها وشهاداتها الخاصة. فقد أعلنت «نفيديا» أخيراً عن شراكة مع كاليفورنيا لتدريب 100000 طالب ومعلم وعامل في مجال الذكاء الاصطناعي، بينما تقدم شركات مثل «غوغل» و«أمازون Services» برامج شهادة الذكاء الاصطناعي الخاصة بها.

وتهدف شركة «إنتل» إلى تدريب 30 مليون شخص على مهارات الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، بالإضافة إلى دورات مهارات الذكاء الاصطناعي المجانية عبر الإنترنت التي تقدمها مؤسسات مثل جامعة هارفارد وجامعة بنسلفانيا، يمكن للأشخاص أيضاً تعلم أساسيات الذكاء الاصطناعي من شركات مثل «آي بي إم» و«مايكروسوفت» و«غوغل».

وتقول دي أرتيغا: «إن معرفة الذكاء الاصطناعي تشبه معرفة القراءة والكتابة الرقمية -إنها شيء حقيقي. ولكن من الذي ينبغي أن يعلمك ذلك؟ ستحب شركتا (ميتا) و(غوغل) أن تعلماك وجهتي نظريهما حول الذكاء الاصطناعي».

بدلاً من الاعتماد على الشركات ذات المصلحة في بيعك فائدة الذكاء الاصطناعي، يقترح الخبراء البدء بأدوات الذكاء الاصطناعي في المجالات التي تتمتع فيها بالخبرة، حتى تتمكن من التعرف على فائدتها وحدودها. قد يستخدم المبرمج الذكاء الاصطناعي للمساعدة في كتابة التعليمات البرمجية بكفاءة أكبر مع القدرة على اكتشاف الأخطاء وقضايا الأمان التي قد يغفلها المبتدئ.

يكمن المفتاح في الجمع بين الخبرة العملية والتوجيه من أطراف ثالثة موثوقة يمكنها تقديم معلومات غير متحيزة حول قدرات الذكاء الاصطناعي، خصوصاً في المجالات ذات المخاطر العالية مثل الرعاية الصحية والتمويل والدفاع.

إن معرفة الذكاء الاصطناعي لا تتعلق فقط بكيفية عمل النموذج أو كيفية إنشاء مجموعة بيانات، فالأمر يتعلق بفهم مكانة الذكاء الاصطناعي في المجتمع. الجميع -من الأطفال إلى المتقاعدين- لديهم مصلحة في هذه المحادثة، ونحن بحاجة إلى التقاط كل هذه وجهات النظر.

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».

حقائق

بين 30 و90 %

من الوقت أخطأت برامج المحادثة الآلية في الاستشهادات الأكاديمية الأساسية مما أدى إلى تشويه عناوين الأوراق البحثية وأسماء المؤلفين وتواريخ النشر وفق إحدى الدراسات التي أُجريت عام 2024

حقائق

100

جامعة وكلية مجتمعية أميركية تقريباً تُصدر شهادات الذكاء الاصطناعي


مقالات ذات صلة

خاص التقارب بين الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية يمكن أن يسرع الاكتشافات في مجالات مثل الأدوية والمناخ (أدوبي)

خاص كيف يغير تقارب الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية وجه الاكتشافات العلمية؟

الحوسبة الكمومية والذكاء الاصطناعي يجتمعان لقيادة الابتكار العلمي، مع تقدم سريع في التطبيقات التجارية، من اكتشاف الأدوية إلى الأمن السيبراني.

نسيم رمضان (سياتل)
عالم الاعمال «تكنو» تطلق سلسلة هواتف «CAMON 40» المدعومة بالذكاء الاصطناعي

«تكنو» تطلق سلسلة هواتف «CAMON 40» المدعومة بالذكاء الاصطناعي

أطلقت العلامة التجارية «تكنو TECNO» خلال مشاركتها في معرض برشلونة 2025، سلسلة هواتفها الذكية الجديدة «كامون CAMON 40»، المدعومة بأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي.

تكنولوجيا شعار تطبيق «ديب سيك» الصيني على أحد الهواتف (رويترز) play-circle

بعد ظهور «ديب سيك» الصيني... هل خسرت شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى تفوّقها؟

هزت شركة ديب سيك الصينية الصغيرة قطاع الذكاء الاصطناعي التوليدي، في نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي، مع برنامجها منخفض التكلفة وعالي الأداء في الوقت نفسه.

«الشرق الأوسط» (لاس فيغاس (الولايات المتحدة))
يوميات الشرق الجهاز يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل حركات الجسم أثناء أداء مهام إدراكية وحركية (جامعة ميسوري)

جهاز ذكي يكشف عن مؤشرات الخرف مبكراً

طوّر باحثون من جامعة ميسوري الأميركية جهازاً محمولاً يعمل بالذكاء الاصطناعي للمساعدة في الكشف المبكر عن الاختلال المعرفي المعتدل.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الهرم: هل يحدث على شكل دفعات مفاجئة أم بخط متواصل؟

الهرم: هل يحدث على شكل دفعات مفاجئة أم بخط متواصل؟
TT
20

الهرم: هل يحدث على شكل دفعات مفاجئة أم بخط متواصل؟

الهرم: هل يحدث على شكل دفعات مفاجئة أم بخط متواصل؟

الناس يتقدمون في السن بسرعة أكبر في سن 44 عاماً ومرة ​​أخرى في سن 60 عاماً

يشعر الكثيرون بأن التقدم في السن يحدث بدفعات أي على شكل «توقفات» و«انطلاقات» متقطعة، كما كتب موهانا رافيندراناث(*). ومثلاً في فترة تتمتع فيها بصحة جيدة، قد تشعر في أحد الأيام، وبشكل مفاجئ، بألم في ركبتيك.

قفزات مفاجئة نحو الشيخوخة

يقول الدكتور ستيف هوفمان، أستاذ علم الأحياء الحاسوبي في معهد لايبنيز للشيخوخة في يينا، ألمانيا: «تستيقظ في الصباح وتشعر فجأةً بالشيخوخة... هذه هي خلاصة الأمر».

اتضح أن لهذه التجربة أساساً علمياً. فمن خلال تحليل المؤشرات المرتبطة بالعمر، مثل البروتينات وعلامات الحمض النووي في مجرى الدم، بدأ بعض العلماء يدركون أن التقدم في السن بعد مرحلة البلوغ ليس عملية خطية، بل ربما عملية تقفز بشكل ملحوظ في مراحل معينة من حياة المرء.

إليكم ما تعلمه العلماء حتى الآن، وما قد يعنيه ذلك في النهاية لصحتكم وعمركم.

كيف تبدو «الشيخوخة غير الخطية»؟

لطالما اشتبه العلماء في أن الشيخوخة قد تحدث على دفعات، لكنهم لم يبدأوا باستخدام الإشارات الجزيئية لقياس وتيرة الشيخوخة إلا في العقد الماضي تقريباً.

تتبعت دراسةٌ واسعة الانتشار في جامعة ستانفورد نُشرت العام الماضي العديد من التغيرات الجزيئية المرتبطة بالشيخوخة في عينات دم جُمعت من 108 بالغين تتراوح أعمارهم بين 25 و75 عاماً.

التقدم في السن بسرعة أكبر عند 44 عاماً و60 عاماً

وبمقارنة عينات من أشخاص مختلفين من مختلف الأعمار، وجدت الدراسة أن الناس يبدو أنهم يتقدمون في السن بسرعة أكبر في سن 44 عاماً، ومرة ​​أخرى في سن 60 عاماً.

ويبدو أن مجموعات التغيرات في الارتفاع الأول مرتبطة في الغالب باستقلاب الدهون والكحول، بالإضافة إلى وظيفة العضلات، بينما يرتبط الارتفاع الثاني في الغالب بضعف المناعة ووظيفة العضلات.

وقال مايكل سنايدر، أستاذ علم الوراثة في كلية طب ستانفورد والمؤلف المشارك في الدراسة، إن الارتفاع الأول قد يساعد في تفسير سبب مواجهة الناس صعوبة أكبر في التعامل مع الكحول بدءاً من الأربعينات من العمر، ولماذا يصبحون أكثر عرضة للإصابة بالأمراض في الستينات من العمر.

3 مراحل منفصلة للشيخوخة

في العام الماضي أيضاً، وجدت دراسة على الفئران، شارك في كتابتها هوفمان، أن تعديلات كيميائية مفاجئة في الحمض النووي «دي إن إيه» حدثت لدى القوارض في الفترة من أوائل إلى منتصف العمر، ثم في منتصفه إلى أواخره، ما يشير إلى وجود ثلاث مراحل منفصلة للشيخوخة.

وفي دراسة أجريت عام 2019 على بلازما دم أكثر من 4000 شخص، أفاد العلماء بوجود قفزات كبيرة في تركيزات البروتينات المرتبطة بالشيخوخة في العقود الرابع والسابع والثامن من العمر.

ويعتقد خبراء آخرون أن الشيخوخة لا تحدث بالضرورة على دفعات قصيرة، بل على مراحل أطول. وصرّح ستيف هورفاث، الذي يُعتبر على نطاق واسع رائداً في أدوات الشيخوخة البيولوجية المعروفة باسم «الساعات فوق الجينية» epigenetic clocks، بأن دراسة أجراها عام 2013 وجدت أن معدل الشيخوخة يتبع منحنى حاداً من الطفولة المبكرة حتى البلوغ، ولكنه يصبح خطياً بعد سن العشرين. وهورفاث هو الآن الباحث الرئيس في مختبرات «ألتوس»، وهي شركة تكنولوجيا حيوية تركز على تحسين صحة الخلايا وإبطاء الأمراض المرتبطة بالشيخوخة.

القلب والدماغ قد يشيخان أسرع

وهناك أيضاً بيانات أولية تشير إلى أن بعض الأعضاء -مثل القلب أو الدماغ- قد تشيخ أسرع من غيرها، وفقاً لتوني ويس - كوراي، أستاذ علم الأعصاب بجامعة ستانفورد، والذي كان مؤلفاً لدراسة عام 2019.

وسواء حدثت الشيخوخة على مراحل أو على دفعات، لم يتضح بعد كيف تساهم كل هذه التغيرات الجزيئية في الشيخوخة والأمراض المرتبطة بها. ومع ذلك، قالت أليسون أييلو، أستاذة علم الأوبئة في مركز روبرت ن. بتلر للشيخوخة بجامعة كولومبيا، إن هذه الأنواع من النتائج يمكن أن تقدم المزيد من الرؤى حول البيولوجيا الكامنة وراء التحولات المعروفة في منتصف العمر، مثل تباطؤ عملية التمثيل الغذائي.

من الناحية العملية، قد يعني ذلك أن الناس يمكن أن يكونوا أكثر استهدافاً في إدارة صحتهم، مع التركيز على تغييرات وحالات محددة ترتبط بعمرهم المحدد، كما قالت أديتي جوركار، أستاذة الطب المساعدة في معهد الشيخوخة بجامعة بيتسبرغ.

تصورات مستقبلية

هذه النتائج «مثيرة للاهتمام، لكنها أولية»، كما قال الدكتور إريك فيردين، الرئيس والمدير التنفيذي لمعهد باك لأبحاث الشيخوخة. وأضاف أنها تطرح سلسلة من الأسئلة: «ما الذي يحدث؟ ما العضو أو مجموعة الأعضاء التي تُسبب هذه التغيرات الكبيرة؟»

هناك أسئلة أخرى مفتوحة، منها ما إذا كانت هذه التغيرات تختلف من فرد لآخر أو بين الجنسين، وما مدى مساهمة نمط الحياة والسلوك، إذ تتزايد الأدلة على أن أحداثاً معينة - مثل الحمل والصدمات والمحن أو حتى الإصابة بفيروس كورونا - يمكن أن تُسرّع الشيخوخة البيولوجية.

وأكد الخبراء حرصهم على الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال دراسات طولية تتتبع التغيرات على مدار حياة الشخص. وستراعي هذه الطريقة الاختلافات في البيئة أو نمط الحياة بين المشاركين.

وقال أييلو: «إذا أردنا حقاً تحديد ما إذا كان الأمر يتعلق باتجاه خطي، أو بطفرات تحدث على مدى فترات زمنية محددة للغاية، فمن الأفضل متابعة نفس الأشخاص لمعرفة ما إذا كانت هذه تغيرات بيولوجية».

حتى الآن، لا يزال الباحثون في بداية طريقهم في فهم كيفية ارتباط التغيرات الجزيئية بالشيخوخة، وفقاً للدكتور لويجي فيروتشي، المدير العلمي للمعهد الوطني للشيخوخة. وأضاف أنه من خلال تعلّم المزيد، يُمكنهم مساعدة الناس على عيش حياة أفضل لفترة أطول وتجنب الأمراض. «بدلاً من تدهور الصحة في سن السبعين، يُمكننا محاولة تقليصها في سن الخامسة والسبعين، لنحظى بخمس سنوات من الحياة الجيدة».

* خدمة «نيويورك تايمز»