تسلسل الجينات الموروثة... دور حاسم في تحديد نوع وشدة سرطان الثدي

تأثيره أكبر من الطفرات العشوائية

تسلسل الجينات الموروثة... دور حاسم في تحديد نوع وشدة سرطان الثدي
TT

تسلسل الجينات الموروثة... دور حاسم في تحديد نوع وشدة سرطان الثدي

تسلسل الجينات الموروثة... دور حاسم في تحديد نوع وشدة سرطان الثدي

تعيد دراسة كلية الطب بجامعة ستانفورد في الولايات المتحدة تشكيل فهم العلماء لأصول سرطان الثدي وتطوره بشكل كبير، مع التركيز على الدور القوي لتسلسلات الجينات الموروثة - وخصوصا «جينوم الخلايا الجرثومية» من الأم أو الأب. ويأتي هذا خلافاً لوجهة النظر التقليدية القائلة بأن الطفرات الجسدية العشوائية خلال حياة المرأة هي المحركات الأساسية لهذا النوع من السرطان.

التسلسلات الموروثة والطفرات

وتكشف الدراسة أن تسلسل الجينات الموروثة يلعب دوراً حاسماً في تحديد نوع وشدة سرطان الثدي، ما يتحدى فكرة أن معظم أنواع السرطان تنشأ بشكل عشوائي بسبب الطفرات المتراكمة مع مرور الوقت.

وتؤثر هذه التسلسلات الموروثة على سيرورة اكتشاف الخلايا السرطانية المحتملة وتدميرها بواسطة الجهاز المناعي، أو تجنب الكشف عنها ما يؤدي إلى تطورها إلى أورام.

ويرتبط تباين الجينوم البشري، والطفرة الجسدية بشكل معقد. ويشكلان معاً السمات البشرية، وكذلك مخاطر حدوث الأمراض، حيث تظهر متغيرات في الجينوم البشري منذ الحمل، ولكنها تختلف بين الأفراد وتتراكم عبر الأجيال. وعلى النقيض من ذلك تتراكم الطفرات الجسدية طوال الحياة بطريقة فسيفسائية داخل الفرد بسبب المصادر الداخلية والخارجية للطفرات والضغوط الانتقائية التي تؤثر على الخلايا.

نظرة جديدة على أصل السرطان

توفر الدراسة التي نُشرت في مجلة «ساينس» (Science) في 31 مايو (أيار) 2024 وقادتها الدكتورة كريستينا كيرتس من «معهد ستانفورد للسرطان»، والدكتورة كاثلين هولاهان من قسم علم الوراثة، وكلاهما من «كلية الطب بجامعة ستانفورد» بالولايات المتحدة، تحولاً كبيراً في فهم أصول سرطان الثدي. وتؤكد على دور العوامل الوراثية والمناعة في تطور السرطان، وتقدم فهماً متعمقاً وقوياً للتفاعل بين الخلايا السرطانية الناشئة حديثاً وجهاز المناعة والتنبؤ بسرطان الثدي ومكافحته، حيث إن عدداً قليلاً من الطفرات الجينية المرتبطة بالسرطان تُستخدم حالياً بشكل منتظم للتنبؤ بالسرطان. وتشمل هذه الطفرات جينين، وهما BRCA1 وBRCA2 اللذان يحدثان في نحو واحدة من كل 500 امرأة، وتزيدان من خطر الإصابة بسرطان الثدي أو المبيض، وطفرات أخرى نادرة في جين يسمى TP53 الذي يسبب مرضاً يسمى متلازمة لي فروميني Li Fraumeni syndrome، وهو اضطراب وراثي نادر يعرض حامليه للإصابة بالسرطان في الطفولة والبلوغ.

تفاعل الجهاز المناعي

يعد التفاعل بين الخلايا السرطانية الناشئة حديثاً والجهاز المناعي أمراً محورياً. وعادة ما تقوم الخلايا المصابة بعرض البروتينات على أسطحها لكي تتعرف عليها الخلايا التائية T cells التي هي جزء من الجهاز المناعي. وتؤثر الاختلافات في هذه البروتينات المعروضة التي تتأثر بالجينات الموروثة على مدى احتمالية التعرف على الخلية السرطانية والقضاء عليها.

ووجد الباحثون أن الأنواع الفرعية لسرطان الثدي تتأثر بكمية هذه الجينات المعروفة بالجينات الورمية oncogenes وهي الجينات التي لديها القدرة على التسبب في السرطان، وغالباً ما تتحور هذه الجينات في الخلايا السرطانية المعروضة على سطح الخلية، أي قدرتها على جذب انتباه جهاز المناعة.

ويمكن التعرف على الجين بشكل أكبر من قبل الجهاز المناعي الذي يحمي في البداية من تطور السرطان. كما تكون الأورام التي تمتلك كميات كبيرة من هذه الجينات المعروضة التي تجذب الخلايا المناعية في البداية أكثر عرضة للهجمات المناعية. ولكن إذا تهربت هذه الأورام من الكشف المبكر فإنها تميل إلى أن تصبح أكثر عدوانية وأصعب في العلاج.

تصنيف سرطانات الثدي

تم تصنيف سرطان الثدي إلى أحد عشر نوعاً فرعياً، بناء على أنواع الطفرات الجسدية التي تحدث في الآلاف من حالات سرطان الثدي مع تنبؤات مختلفة وخطر تكرار المرض. وكانت أربعة من هذه الأنواع الفرعية الأحد عشر أكثر عرضة للتكرار حتى بعد 10 أو 20 عاماً من تشخيص الإصابة بالمرض. وهذه المعلومات حاسمة للأطباء عند اتخاذ قرارات العلاج ومناقشة التنبؤات طويلة الأمد مع المرضى.

كما أظهرت الدراسات السابقة أن الأشخاص الذين لديهم طفرات في جيني BRCA1 أو BRCA2 يميلون إلى تطوير نوع فرعي من سرطان الثدي يُعرف بسرطان الثدي الثلاثي السلبي triple negative breast cancer، وهو نوع فرعي من سرطان الثدي لا يستجيب للأدوية التي تستهدف مستقبلات هرمون الإستروجين، كما أنه ينمو بسرعة وقد ينتشر خارج الثدي قبل التشخيص. ومن المرجح أن يتكرر أكثر من سرطانات الثدي الأخرى، ويمثل نحو 15 في المائة من جميع حالات سرطان الثدي، وهو أكثر شيوعاً عند الشباب والنساء الأميركيات من أصل أفريقي أو من أصول إسبانية وهندية كما يقول روبرتو ليون فيري طبيب أورام الثدي الطبي في مركز «مايو كلينك» Mayo Clinic الشامل للسرطان بالولايات المتحدة، والمؤلف الأول للدراسة التي نشرت في مجلة «الجمعية الطبية الأميركية» JAMA في 2 أبريل (نيسان) 2024.

ومن الغرائب البيولوجية أن الخلايا السليمة عادة ما تعرض على أغشيتها الخارجية قطع صغيرة من البروتينات التي توجد في تلك الخلايا، وهو عرض خارجي يعكس نمطها الداخلي. وفي الوقت ذاته تتجول خلايا المناعة المسماة الخلايا التائية في الجسم بحثاً عن أي من هذه البروتينات بشكل مفرط التي قد تشير إلى وجود مشكلة داخل الخلية، فإذا كانت الخلية مصابة بفيروس، فسوف تعرض الخلية المصابة قطعاً من بروتينات الفيروس على سطحها الخارجي، وإذا كانت الخلية سرطانية فستعرض البروتينات غير الطبيعية، وهي ما يدفع الخلايا التائية إلى الهجوم على تلك الخلايا.

«جينوم الخلايا الجرثومية» من الأم والأب يحسن التنبؤات حول النوع الفرعي لسرطان الثدي وعدوانية المرض ومخاطر تكراره

التنبؤ بالسرطان وعلاجه

تشير النتائج إلى أن المعلومات الوراثية من «جينوم الخلايا الجرثومية» يمكن أن تحسن التنبؤات حول النوع الفرعي لسرطان الثدي وعدوانية المرض ومخاطر تكراره ما يساعد في استراتيجيات علاج أكثر تخصيصاً. ويمكن أن يؤدي هذا أيضاً إلى توجيه تطوير العلاجات المناعية للسرطان، والتنبؤ بخطر الإصابة بالسرطان لدى الفرد من خلال اختبار دم بسيط.

ويشير مصطلح جينوم الخلايا الجرثومية germline genome إلى الخلايا الجنسية (البويضات والحيوانات المنوية) التي تستخدمها الكائنات الحية التي تتكاثر جنسياً لنقل جينوماتها من جيل إلى جيل (من الآباء إلى الأبناء). وتسمى خلايا البويضات والحيوانات المنوية بالخلايا الجرثومية، على عكس الخلايا الأخرى في الجسم، التي تسمى الخلايا الجسدية.

ويوفر هذا البحث إطاراً جديداً لفهم أصول السرطان مع التركيز على دور الوراثة والتفاعل المناعي في تطور السرطان. ويفترض أن الأورام ليست مجرد نتيجة لطفرات عشوائية، ولكنها تتأثر بتفاعل معقد بين العوامل الوراثية الموروثة وديناميكيات الجهاز المناعي. وتمهد الدراسة الطريق للبحث المستقبلي في أنواع أخرى من السرطانات باستخدام هذا المنظور الجديد ما قد يحدث ثورة في تشخيص السرطان وعلاجه.


مقالات ذات صلة

دراسة جديدة تحذّر من ارتفاع الإصابة بسرطان الأمعاء تحت سن 50 عاماً

صحتك استهلاك كميات كبيرة من الأطعمة فائقة المعالجة يرتبط بزيادة خطر الإصابة بعديد من أنواع السرطان (أرشيفية - رويترز)

دراسة جديدة تحذّر من ارتفاع الإصابة بسرطان الأمعاء تحت سن 50 عاماً

الارتفاع المذهل في حالات الإصابة بالسرطان بين الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 50 عاماً يرجع إلى الاعتماد المفرط على الوجبات السريعة بين الأجيال الأصغر سناً.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك الأطعمة التي تحتوي على الحليب واللحوم والفول السوداني والمحار والخبز والبيض تقلّل من نمو الأورام في الأمعاء الدقيقة (رويترز)

الحليب واللحوم والفول السوداني قد تمنع أورام الأمعاء

أظهرت دراسة يابانية نُشرت الأسبوع الماضي، أن البروتينات الموجودة في بعض الأطعمة، قد تعمل على قمع الأورام في الأمعاء الدقيقة.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
صحتك عقار «فورتيوكستين» يوصف للبالغين الذين يعانون من نوبات اكتئاب شديدة (رويترز)

دواء مضاد للاكتئاب قد يساعد في علاج أورام المخ

وجد العلماء أن مضادات الاكتئاب الشائعة «فعالة بشكل غير متوقع» ضد أورام المخ العدوانية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق أمل الموجوعين ومَن أنهكهم مسار علاجهم (رالف الخوري وليا كلاسي)

من باريس إلى بيروت بالدراجة... مرضى السرطان لن يُتركوا لأقدارهم

تنطلق رحلتهما الأحد بإرادة عالية لمجابهة ما قد يطرأ. يشاءان تأمين ثمن دواء واحد في كل كيلومتر يتحقّق. إنهما أمل الموجوعين ومَن أنهكهم مسار علاجهم.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق كيت أميرة ويلز (د.ب.أ)

كيت ميدلتون تعود لمهامها الملكية لأول مرة منذ انتهاء علاجها من السرطان

عادت كيت ميدلتون، أميرة ويلز وزوجة الأمير البريطاني ويليام لمهامها الملكية لأول مرة منذ انتهاء علاجها من السرطان.

«الشرق الأوسط» (لندن)

مفارقة المساواة بين الجنسين: الفتيات أكثر ميلاً للآداب والأولاد نحو العلوم

مفارقة المساواة بين الجنسين: الفتيات أكثر ميلاً للآداب والأولاد نحو العلوم
TT

مفارقة المساواة بين الجنسين: الفتيات أكثر ميلاً للآداب والأولاد نحو العلوم

مفارقة المساواة بين الجنسين: الفتيات أكثر ميلاً للآداب والأولاد نحو العلوم

تكشف دراسة جديدة أن الاختلافات بين الجنسين في جوانب القدرات الأكاديمية موجودة في جميع أنحاء العالم، وأن الميزة النسبية لتفوّق الفتيات في القراءة، والأولاد في العلوم، هي الأكبر في البلدان المساوية بين الجنسين.

القدرات الأكاديمية لدى الجنسين

غالباً ما تلفت المساواة بين الجنسين انتباه الباحثين، خصوصاً في المجالات التي لا تحظى فيها النساء بتمثيل كافٍ، مثل المهن ذات المكانة العالية والأجور المرتفعة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.

وتؤثر جوانب القدرة الأكاديمية، أي الموضوع المفضل لدى الطالب، بقوة على مجال دراسته؛ إذ ينجذب الطلاب الذين يتمتّعون بنقاط قوة في الرياضيات أو العلوم نحو مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، بينما ينجذب أولئك الذين يتمتّعون بقوة في القراءة نحو مجالات أخرى، مثل الصحافة.

تحليل قدرات ملايين المراهقين

قام فريق البحث من جامعة «توركو» الفنلندية بتحليل بيانات ما يقرب من 2.5 مليون مراهق في 85 دولة، على مدى 12 عاماً، أو في 5 موجات (2006 - 2018) من برنامج تقييم الطلاب الدوليين (PISA).

وأكّدت نتائج الدراسة أن قوة الفتيات عادةً ما تكون في القراءة، في حين تكون قوة الأولاد عادةً في الرياضيات أو العلوم، ولاحظت الدراسة وجود هذه الأنماط عبر البلدان والأزمنة.

اختلافات أكاديمية برغم مساواة الجنسين

وكان الأمر الأكثر بروزاً هو أن الاختلافات بين الجنسين في القراءة والعلوم قوة أكاديمية تكون أكثر وضوحاً في البلدان ذات المساواة بين الجنسين، مثل فنلندا.

ومن ناحية أخرى، ظلت الاختلافات بين الجنسين في الرياضيات مستقرة، بغضّ النظر عن المساواة بين الجنسين على مستوى الدولة.

وفي بيان صحافي تلقّته «الشرق الأوسط»، ذكر الباحث الدكتور ماركو بالدوتشي من مركز أبحاث «INVEST» في الجامعة: «تشير هذه النتائج إلى أنه في المجتمعات الأكثر مساواةً بين الجنسين، قد تختار النساء مجالات أخرى غير العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، بناءً على قدراتهن في القراءة؛ لذا فإن زيادة حصة النساء في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات تتطلّب أكثر من مجرد تعزيز مهارات الرياضيات والعلوم للفتيات، أو تعزيز المساواة بين الجنسين».

مفارقة تتحدّى الاعتقاد السائد

وجاء في الدراسة الموسومة «مفارقة المساواة بين الجنسين في جوانب القدرة الأكاديمية الفردية: تحليل عبر الزمن»، إن الاكتشاف الذي يفيد بأن الاختلافات بين الجنسين في القدرات الأكاديمية في القراءة والعلوم أكبر في البلدان الإسكندنافية المساوية بين الجنسين مقارنةً بالدول الأكثر تقليديةً في الشرق الأوسط، والمعروفة باسم مفارقة المساواة بين الجنسين؛ يتحدى الاعتقاد السائد بأن الاختلافات بين الجنسين مدفوعة بشكل أساسي بضغوط التنشئة الاجتماعية.

ويضيف بالدوتشي: «الافتراض الشائع هو أنه مع تحسّن المساواة بين الجنسين، يجب أن تتلاشى الأدوار الجنسانية التقليدية، ما يؤدي إلى اختلافات جنسية أصغر، لكن هذا ليس ما وجدناه، بل وبدلاً من ذلك تتوافق نتائجنا مع الأبحاث الحديثة التي تُظهر أن الاختلافات بين الجنسين إما أن تظل كما هي، أو حتى تزداد مع المزيد من المساواة بين الجنسين».

ويلاحظ الأستاذ ديفيد جيري من جامعة ميسوري المشارك في الدراسة أن «الدول المساوية بين الجنسين والثرية والليبرالية توفر المزيد من الفرص، وتسمح بحرية أكبر في الاختيار، وفي هذه السياقات يتخذ الرجال والنساء قرارات مختلفة، ما يؤدي إلى اختلافات جنسية أكبر في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات».

منح الفرص للفتيات الموهوبات

ويشجّع فريق البحث صُنّاع السياسات على إعطاء الأولوية لفرص الإرشاد للفتيات الموهوبات، حيث قد يزيد ذلك من احتمالية التحاقهن ببرنامج لدراسة علمية في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.

ومع ذلك، يضيف بالدوتشي أن «دراستنا تسلّط الضوء على أن تحقيق التكافؤ بين الأولاد والبنات قد يكون تحدياً، حيث تلعب العوامل الأوسع نطاقاً، مثل الاختلافات بين الجنسين في جوانب القدرة الأكاديمية، دوراً رئيسياً في تحديد الفوارق بين الجنسين بمجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات».

وتجدر الاشارة إلى أن جامعة توركو مؤسسة أكاديمية تضم 25 طالباً وموظفاً في جنوب غرب فنلندا.