الدبلوماسية الفرنسية تنشط لتجنب الحرب الواسعة والرئيس ماكرون يسير على خُطى سلفه جاك شيراك

تشارك فرنسي - أميركي في السعي لمنع تفجر الحرب الواسعة... وتساؤلات حول مدى جدية الانخراط الأميركي في البحث عن حل

البحث عن ناجين بعد ضربة جوية إسرائيلية شمال بيروت الخميس (رويترز)
البحث عن ناجين بعد ضربة جوية إسرائيلية شمال بيروت الخميس (رويترز)
TT

الدبلوماسية الفرنسية تنشط لتجنب الحرب الواسعة والرئيس ماكرون يسير على خُطى سلفه جاك شيراك

البحث عن ناجين بعد ضربة جوية إسرائيلية شمال بيروت الخميس (رويترز)
البحث عن ناجين بعد ضربة جوية إسرائيلية شمال بيروت الخميس (رويترز)

كثّفت الدبلوماسية الفرنسية نشاطها في نيويورك؛ حيث حضر في وقت واحد الرئيس إيمانويل ماكرون ومستشاروه وكذلك وزير الخارجية الجديد جان نويل بارو. وبذلت باريس جهوداً في العمل من أجل احتواء التصعيد العسكري بين «حزب الله» وإسرائيل، والتوصل إلى وقف للعمليات العسكرية.

ويأتي هذا الحراك الدبلوماسي بدفع من الرئيس ماكرون، الذي يريد أن يكون لبلاده دور في حماية لبنان، بعد الإخفاق الذي واجهه منذ العام 2020 وقت انفجاري المرفأ، ورغم الزيارتين اللتين قام بهما إلى بيروت خلال أقل من شهر (في 6 أغسطس «آب» والأول من سبتمبر «أيلول»)، مقدماً خطة إنقاذ اقتصادية وسياسية ومالية واجتماعية، ودفع الطبقة السياسية من أجل التفاهم فيما بينها لإخراج البلاد من ورطتها متعددة الأشكال.

بيد أن شيئاً من هذا لم يتحقق، كما لم تنجح الجهود الفرنسية في الدفع لملء الفراغ على رأس المؤسسات اللبنانية، رغم تعاقب زيارات وزراء الخارجية الفرنسيين من جان إيف لودريان إلى كاترين كولونا وستيفان سيجورنيه، إضافة إلى المكلفين في قصر الإليزيه بالملف اللبناني.

سيجورنيه زار لبنان 3 مرات، بتكليف من ماكرون، ومنذ زيارته الأولى، بداية العام 2024، حمل خطة مفصلة لخفض التصعيد على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، وعمد إلى صياغة بعض فقراتها نزولاً عن طلب رئيس الوزراء المستقيل نجيب ميقاتي، الذي استقبله ماكرون في قصر الإليزيه، كما استقبل قائد الجيش العماد جوزيف عون، والرئيس السابق للحزب الاشتراكي، وليد جنبلاط، وشخصيات لبنانية أخرى.

وخلال أشهر طويلة، كانت رسالة باريس للسلطات والسياسيين اللبنانيين، بمن فيهم مسؤولون من «حزب الله»، دعوتهم إلى التنبه من المخططات الإسرائيلية، ومن أن «حرب الإسناد» التي يقوم «حزب الله» «لن تبقى محصورة الإطار، ويمكن أن تتطور في أي يوم»، وفق تأكيدات مصادر فرنسية واكبت الجهود الدبلوماسية. كذلك نبهت باريس من «الخفة» التي يتعامل بها اللبنانيون مع المخاطر المقبلة.

ورغم التنافس بين باريس وواشنطن، التي قدمت هي الأخرى بشخص مبعوثها الرئاسي، آموس هوكشتاين، خطة موازية، فإن العاصمتين توصلتا، في النهاية، إلى العمل معاً، وفي اتجاه واحد. إلا أن النتيجة جاءت مخيبة، إلى أن حلّ التصعيد الأخير.

على خطى شيراك

اليوم تغير الوضع، والكارثة حلّت، ويمكن أن تتبعها كوارث أكبر، ومن عناوينها قد تكون الحرب البرية، وسعي إسرائيل لاحتلال أقسام من الجنوب اللبناني (وهو ما فعلته سابقاً) وتمددها لتتحول إلى حرب إقليمية مع احتمال أن تتدخل بها إيران المتأرجحة حالياً بين رغبتها في الانفتاح على الغرب، وعدم التصادم مع إسرائيل والقوات الأميركية المنتشرة بقوة في المنطقة وبين «واجبها» دعم «حزب الله» ومنع هزيمته.

من هنا، فإن الحراك الفرنسي ارتقى إلى درجة أعلى، فالرئيس ماكرون لم يتردد في بث شريط فيديو قبل 5 أيام وجهه إلى «اللبنانيين واللبنانيات الأعزاء»، ليؤكد «مساندتهم في أي محنة يمرون بها»، وليشدد على أن لبنان «لا يمكن أن يعيش في حالة التخوف من حرب مقبلة».

ومع انتقاله إلى نيويورك، كان ماكرون الرئيس الغربي الوحيد الذي التقى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان؛ حيث عمد إلى «تسليط الضوء على مسؤولية إيران في دعم تهدئة عامة (في الشرق الأوسط بما فيه لبنان) واستخدام نفوذها في هذا الاتجاه لدى الأطراف المزعزعة للاستقرار التي تتلقى دعمها».

وزاد ماكرون: «نحضّ إسرائيل على وقف هذا التصعيد في لبنان، ونحضّ (حزب الله) على وقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل. نحضّ كل من يزوّد (حزب الله) الوسائل اللازمة للقيام بذلك على التوقف»، عادّاً في الوقت نفسه أنّه لا يمكن لإسرائيل أن «توسّع عملياتها في لبنان من دون عواقب».

ونبه ماكرون، متحدثاً عن التطورات على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية من أن «الخطر الرئيسي راهناً هو (خطر) التصعيد» في الشرق الأوسط، معرباً عن تعاطفه مع لبنان والشعب اللبناني. وإذ انتقد «حزب الله» الذي «يجازف منذ وقت طويل جداً بجر لبنان إلى الحرب»، دعا جميع الفرقاء إلى الوفاء بالتزاماتهم على طول الخط الأزرق الذي رسمته الأمم المتحدة بين إسرائيل ولبنان.

وأكد أن باريس ستتحرك «من أجل بلورة مسار دبلوماسي لا غنى عنه، يهدف إلى تحييد السكان المدنيين والحؤول دون انفجار إقليمي». وأعلن أنه طلب من وزير خارجيته التوجه إلى لبنان نهاية الأسبوع. وبطلب من فرنسا، عقد مجلس الأمن لبحث التصعيد العسكري والتطورات الخطيرة.

باريس تسعى لدفع واشنطن للتحرك الجدي

لم يتوقف الحراك الفرنسي عند هذا الحد، إذ إن باريس ترى أن مساعيها لا يمكن أن تؤتي أُكلها من غير مشاركة أميركية فاعلة. من هنا، انكب فريقا البلدين على بلورة مبادرة مشتركة، كشف عنها وزير الخارجية في كلمته أمام مجلس الأمن؛ حيث قال إن «فرنسا عملت، في الأيام الأخيرة، مع شركائنا الأميركيين على وقف مؤقت لإطلاق النار لمدة 21 يوماً لإفساح المجال أمام المفاوضات»، مضيفاً أن اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل و«حزب الله» «ليس حتمياً» بشرط أن تنخرط كل الأطراف «بحزم» في إيجاد حلّ سلمي للنزاع.

ووفق القراءة الفرنسية، فإن «التوترات بين (حزب الله) وإسرائيل اليوم تُهدّد بدفع المنطقة إلى صراع شامل لا يمكن التكهن بعواقبه». وما كان للمبادرة المشتركة المستعجلة أن ترى النور من غير حصول اجتماع في نيويورك بين الرئيسين الفرنسي والأميركي. وما تتخوف منه باريس، وفق مصادرها، أن يكون الانخراط الأميركي في الملف اللبناني - الإسرائيلي شبيهاً بانخراطها فيما خص حرب غزة، حيث «الخطوط الحمراء» التي وضعتها واشنطن لإسرائيل ول نتنياهو تهاوت تباعاً، ولم تنجح واشنطن في إلزام الأخير بهدنة دعت إليها مراراً وتكراراً وتوقعت حصولها.

ويتضح مما سبق أن الرئيس ماكرون يريد أن يكون له دور فاعل في الأزمة الراهنة، وربما أنه استوحى الدور الذي لعبه جاك شيراك، الرئيس الأسبق، في وضع حد للحربين اللتين شنتهما إسرائيل على لبنان في 1996 وفي 2006. ففي الأولى، أرسل شيراك وزير خارجيته هيرفيه دو شاريت إلى المنطقة، وطلب منه البقاء فيها حتى انتزاع اتفاق. وفي الثانية، كان لباريس دور كبير في دفع مجلس الأمن لتبين القرار الشهير 1701 الذي وضع حدّاً للحرب، ولكن ليس للنزاع المستمر بين إسرائيل ولبنان، الذي ما زال الأساس الذي تدور حوله المناقشات في الأمم المتحدة.

وثمة أسئلة كثيرة تطرح نفسها؛ أولها يتناول مدى الجدية الأميركية، وثانيها الطريق إلى بلورة آلية تمكن من تنفيذ القرار المذكور، وثالثها الموقف الإيراني ورغبة طهران في المساعدة، ورابعها المدة الزمنية اللازمة للحصول على موافقة الأطراف المعنية المبادرة المشتركة، وآخرها معرفة ما يريده حقيقة نتنياهو من حربه الراهنة على لبنان، والأهداف التي يريد تحقيقها قبل أن يقبل الهدنة.


مقالات ذات صلة

ماكرون يندد بموقف روسيا «التصعيدي» إزاء أوكرانيا ويدعو بوتين «للتعقّل»

أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متحدثاً في ريو دي جانيرو (د.ب.أ)

ماكرون يندد بموقف روسيا «التصعيدي» إزاء أوكرانيا ويدعو بوتين «للتعقّل»

ندّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الثلاثاء، بموقف روسيا «التصعيدي» في الحرب في أوكرانيا، داعياً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى «التعقّل».

«الشرق الأوسط» (ريو دي جانيرو)
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بوينس أيرس (أ.ف.ب)

ماكرون: بوتين «لا يريد السلام» في أوكرانيا

أوضح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن نظيره الروسي فلاديمير بوتين «لا يريد السلام» مع كييف و«ليس مستعداً للتفاوض».

«الشرق الأوسط» (بوينس أيرس)
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (رويترز)

«الإليزيه»: ماكرون يزور السعودية بين 2 و4 ديسمبر القادم

يزور الرئيس إيمانويل ماكرون السعودية في الفترة بين الثاني والرابع من ديسمبر المقبل، حسبما أعلن قصر الإليزيه.

«الشرق الأوسط» (باريس)
الخليج ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (الخارجية السعودية)

ولي العهد السعودي والرئيس الفرنسي يستعرضان التطورات هاتفياً

استعرض الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي، الخميس، مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تطورات الأوضاع الإقليمية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (إ.ب.أ)

ماكرون قبل مباراة فرنسا وإسرائيل: «لن نرضخ لمعاداة السامية»

أعلن الرئيس الفرنسي، الخميس، أن بلاده «لن ترضخ إطلاقاً لمعاداة السامية»، قبل ساعات من مباراة كرة القدم بين إسرائيل وفرنسا سيحضرها الرئيس في ملعب استاد دو فرنس.

«الشرق الأوسط» (باريس)

جرائم غزة تكرّس نتنياهو «مطلوباً دولياً»

فلسطيني داخل «مستشفى كمال عدوان» يحمل طفلاً من ضحايا غارة إسرائيلية استهدفت بيت لاهيا شمال قطاع غزة أمس (أ.ف.ب)
فلسطيني داخل «مستشفى كمال عدوان» يحمل طفلاً من ضحايا غارة إسرائيلية استهدفت بيت لاهيا شمال قطاع غزة أمس (أ.ف.ب)
TT

جرائم غزة تكرّس نتنياهو «مطلوباً دولياً»

فلسطيني داخل «مستشفى كمال عدوان» يحمل طفلاً من ضحايا غارة إسرائيلية استهدفت بيت لاهيا شمال قطاع غزة أمس (أ.ف.ب)
فلسطيني داخل «مستشفى كمال عدوان» يحمل طفلاً من ضحايا غارة إسرائيلية استهدفت بيت لاهيا شمال قطاع غزة أمس (أ.ف.ب)

في سابقة تاريخية، كرست مذكرة اعتقال أصدرتها «المحكمة الجنائية الدولية»، أمس، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو «مطلوباً دولياً» جراء اتهامه مع آخرين بارتكاب «جرائم حرب» في غزة التي تجاوز عدد ضحاياها، أمس، 44 ألف قتيل.

وجاء أمر المحكمة ليشمل كلاً من نتنياهو ووزير دفاعه السابق، يوآف غالانت، وقائد «كتائب القسام» محمد الضيف. وقالت المحكمة إنها وجدت أسباباً وجيهة لاتهامهم بارتكاب «جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب».

وبعدما أعلن نتنياهو رفضه القرار، اتهم «الجنائية الدولية» بـ«معاداة السامية» على حد زعمه. أما المدّعي العام للمحكمة، كريم خان، فقد طالب الدول الأعضاء في المحكمة والبالغ عددها 124 دولة بالتحرك لتنفيذ مذكرات التوقيف.

وأعرب متحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي عن رفض واشنطن بشكل قاطع للقرار بحق المسؤولين الإسرائيليين.

لكن دولاً أوروبية، أكدت التزامها القانون الدولي بشكل عام، مع تحفظ البعض عن تأكيد أو نفى تنفيذ أمر الاعتقال. وشدد مسؤول السياسة الخارجية لدى الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، على أن «جميع الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، ومنها دول أعضاء في الاتحاد، ملزَمة تنفيذ قرارات المحكمة».

ورحبت السلطة الوطنية الفلسطينية بالقرار، ورأت أنه «يُعيد الأمل والثقة في القانون الدولي ومؤسساته»، وكذلك أيدته حركة «حماس» وعدّته «سابقة تاريخيّة مهمة»، من دون الإشارة إلى المذكرة بحق الضيف.