إسطنبول ونجل أربكان… إردوغان يخسر مرتين

الرئيس تراجع حتى في الحي الذي يسكن فيه... و«الرفاه» يشق طريق «الأربكانية» الجديدة

رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو خلال الاحتفال بالفوز... 31 مارس 2024 (إ.ب.أ)
رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو خلال الاحتفال بالفوز... 31 مارس 2024 (إ.ب.أ)
TT

إسطنبول ونجل أربكان… إردوغان يخسر مرتين

رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو خلال الاحتفال بالفوز... 31 مارس 2024 (إ.ب.أ)
رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو خلال الاحتفال بالفوز... 31 مارس 2024 (إ.ب.أ)

2018 كان عاماً ثقيلاً على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، حين ظهر نجم اثنين من السياسيين الشباب؛ الإسلامي فاتح أربكان، زعيم حزب «الرفاه من جديد»، والعلماني أكرم إمام أوغلو، أحد أبرز وجوه المعارضة في البلاد.

في ديسمبر (كانون الأول) ذلك العام، سافر كليتشدار أوغلو، وكان زعيماً لحزب «الشعب الجمهوري»، إلى منزل حسن إمام، والد أكرم، في ولاية طرابزون، وقال: «جئنا نطلب يد ابنك لإسطنبول».

يومها كان أكرم إمام رئيساً لبلدية «بيليك دوزو»، حي الطبقة المتوسطة في إسطنبول الأوروبية، شمال بحر مرمرة، الذي تحول بعد زلزال عام 1999، وبسبب مبانيه الحديثة، إلى تجمع للمهاجرين الخائفين من المنازل المتهالكة في البلدات المجاورة.

في غمرة تحضيرات المعارضة، أعلن فاتح أربكان تأسيس حزب «الرفاه من جديد»، بنزعة إسلامية، وبمباركة من عبد الحميد قايي خان، حفيد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.

في 2019 فاز أكرم إمام بانتخابات محلية خسرها حزب «العدالة والتنمية»، وانتزع حلم إردوغان التاريخي في عمادة إسطنبول.

مؤيدو حزب «الشعب الجمهوري» المعارض يُلوّحون بعَلم تركيا (أ.ف.ب)

بعد 6 سنوات، في الاقتراع المحلي الذي أُجري الأحد الماضي، ينجح عمدة إسطنبول في الاحتفاظ بالقلب التاريخي والاقتصادي لتركيا، أما أربكان، المفاجأة، فقد حوّل جزءاً من أصوات حزب «العدالة والتنمية» لصالحه، بعد منافسة تحكمت بها عوامل متشابكة، لم تكن الحرب في غزة بعيدة عنها.

حقق «الشعب الجمهوري» فوزاً كبيراً بمدينتي إسطنبول وأنقرة الرئيسيتين، وحل أولاً بنحو 37.7 في المائة من أصوات الناخبين في عموم البلاد، وانتزع بـ35 بلدية.

وفاز حزب «الرفاه من جديد» ببلديتين كبريين، من بينهما «يوزغات» و«شانلي أورفا»، المدينة التاريخية جنوب شرقي البلاد، أحد معاقل «العدالة والتنمية».

طريق أكرم إمام

من المرجح أن طريق إمام أوغلو كانت مُعبّدةً إلى حد كبير داخل الحزب المعارض، الذي أجرى مراجعة عاصفة لخسارته الانتخابات البرلمانية، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، انتهت بإطاحة كليتشدار أوغلو من زعامة «الشعب الجمهوري».

لطالما أثار أكرم إمام انتباه المراقبين في تركيا، ولأنه يمثل حزباً قومياً علمانياً يكابد مراجعات تاريخية طويلة بشأن ضموره السياسي في البلاد، قدم الرجل نموذجاً مغايراً إلى حد ما.

لقد كان مفاجئاً أن يحضر عمدة إسطنبول عام 2019 صلاة الغائب على أرواح ضحايا هجوم مسجدين في نيوزلندا؛ شوهد يقرأ آيات قرآنية، بينما كان الجو العام داخل حزبه ينخرط في خطاب كراهية ضد الإسلاميين، حزب «العدالة والتنمية» على وجه الخصوص.

وصاغ أكرم إمام خطاباً معتدلاً مع سكان إسطنبول، وبدا أنه لا يواجه مرشحي الأحزاب المنافسة الأخرى، بل حتى حزبه الذي تتنازع أطرافه على قيادة المعارضة.

خلال حملته الانتخابية، كان أكرم إمام يتجول بين بلدات إسطنبول متحدثاً عن الخدمات والاقتصاد وحرية التعبير، بينما اضطر الرئيس إردوغان إلى خوض حملات مرشحيه في المدينة نيابةً عنهم، ولم يتحدث إلا عن «حماية منجزات تركيا من الآخرين»، وتعهَّد في آخر خطاب قبل الاقتراع، لنحو 16 مليون تركي يعيشون في إسطنبول، بـ«عصر جديد» في المدينة.

رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو (من حسابه على «إكس»)

في النهاية، فاز أكرم أمام بفارق تجاوز مليون صوت عن أقرب منافسيه، وزير التخطيط العمراني السابق، مراد كوروم، المرشح البارز لحزب «العدالة والتنمية».

إردوغان لم يخسر عمادة إسطنبول وحسب، لقد أُزيح حزبه من 9 بلديات مهمة في المدينة، أهمها «أسكودار» حيث يقع منزل إردوغان.

ويتذكر الأتراك حين فاز إردوغان بالرئاسة في يونيو (حزيران)، ذهب إلى «أسكودار» للاحتفال هناك، وصعد على متن حافلة أمام منزله وغنى باللغة التركية أمام حشود: «لمن لا يسأل ومن لا يسمع، نقوله له: نحبه... نحبه كثيراً»، وقال: «من هنا تبدأ مسيرتنا، نحن عشاق إسطنبول».

على ما يبدو، وطبقاً لنتائج الانتخابات، اختارت «أسكودار» مجلساً بلدياً من المعارضة، كما هو حال بلديات أخرى كانت تحت سيطرة الحزب الحاكم مثل «أيوب سلطان»، و«بيرم باشا».

في خطابه الأخير من أنقرة، التي خسرها أيضاً للمعارضة، قال إردوغان: «ما حدث نقطة تحول (...) وكما يقول الأجداد: الخير فيما وقع».

في التوقيت نفسه تقريباً، كان أكرم إمام يُلقي خطاب الفوز وسط إسطنبول أمام آلاف المحتفلين، «انتهت فترة الرجل الواحد. الأمة أعطت التعليمات، والجمهورية ستمضي من الآن وصاعداً، بأقصى سرعة».

كيف فاز أكرم إمام؟ ببساطة لأن إردوغان خسر الانتخابات. صحيح أن العامل الاقتصادي لعب دوراً حاسماً في تقرير مصير النتائج، لكن لماذا لم يكن هذا التأثير حاسماً في الاقتراع الرئاسي الذي فاز به إردوغان العام الماضي رئيساً لتركيا؟ يومها كان التضخم مرتفعاً أيضاً والقوة الشرائية في مستوى متدنٍّ.

«الأتراك يصوّتون للأشخاص الذين يحبونهم»، هذه العبارة ردّدها صحافيون ومراقبون ضيّفتهم وسائل الإعلام التركية خلال اليومين الماضيين، حين حاولوا الإجابة عن سؤال: لماذا خسر «العدالة والتنمية»؟

وانتقد كثيرون إردوغان على سياسته الحزبية التي قدمت للمجتمعات البلدية في تركيا شخصيات لم تحظَ بقبول السكان، وبات الأمر كأن الناخبين يفصلون بين إردوغان وحزبه؛ يصوّتون له، دون مرشحيه.

أربكان الابن... والأب

أكثر من أكرم إمام، كانت ضربة فاتح أربكان توجع أكثر. هذا الأخير كان حليف «العدالة والتنمية» في الانتخابات الرئاسية، ولم يكن كذلك في الانتخابات المحلية.

في خطاب الفوز، قال أربكان: «أصبحنا نجم هذه الانتخابات، ونتائجها أحيت المشروع الوطني»، الذي تبناه والده نجم الدين أربكان، رئيس الوزراء الأسبق، والذي يعده كثيرون عراب إردوغان ومعلمه، قبل أن يتمرد عليه.

صحيح أن حزب أربكان تحالف مع «العدالة والتنمية» في الانتخابات البرلمانية الماضية، لكنّ مسار العلاقة بينهما تَعقّد أكثر، لا سيما مع بدء الحرب على غزة.

ويعتقد كثيرون أن مساهمة أربكان في هذا التحالف لعبت دوراً حاسماً في ترجيح كفة إردوغان على كمال كليتشدار في السباق الرئاسي الأخير.

لقد طالب فاتح أربكان مراراً بقطع العلاقات مع إسرائيل، وضغط أنصاره وقيادات حزبه على الرأي العام لمعرفة حجم التبادل التجاري معها، حتى قرر في فبراير (شباط) الماضي الانشقاق عن «تحالف الجمهور» بقيادة إردوغان، في الانتخابات المحلية.

يربط كثيرون انشقاق أربكان بما فعله إردوغان نفسه حين تمرد على معلمه أربكان الأب، وساعده ذلك على الفوز ببلدية إسطنبول عام 1994، خصوصاً أن غالبية قيادات «الرفاه من جديد» الآن هم من المنشقين عن «العدالة والتنمية».

صورة تعود لعام 1997 تجمع رئيس الوزراء التركي نجم الدين أربكان ورئيس بلدية إسطنبول رجب طيب إردوغان (رويترز)

والد فاتح، نجم الدين أربكان رئيس الوزراء الأسبق بين 1996 و1997، كان زعيماً لحزب «الرفاه»، وتبنى منهج «مللي جورش»، (وتعني الرؤية الوطنية)، الذي يؤمن بأن «تطور تركيا يكون بالمحافظة على قيمها الدينية، ومنافسة الغرب بتحالفات واسعة مع الدول الإسلامية».

يتصاعد هذا الخطاب الآن بين أوساط «الأربكانيين» مع تفاقم الحرب في غزة، وتفاعل أربكان نفسه مع ذلك، حين كان يزرو أنطاكيا مطلع مارس (آذار) بالدعوة إلى «إغلاق قاعدة كوارجيك للرادار»، إلى جانب وقف التجارة مع إسرائيل.

تركيا غداً... مشهد جديد

بينما كانت تركيا تعلن نتائج الانتخابات الأخيرة، وأظهرت تقدم حزب أربكان الابن في عدد من الولايات، أجرى إردوغان مكالمة هاتفية مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، لبحث «الأوضاع في غزة».

يشير صحافيون أتراك إلى أن الرئيس التركي سيُغيّر قليلاً من خطابه السياسي بشأن غزة أمام قاعدة شعبية ناقمة، لكنَّ قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل مرحلة متقدمة ومحل شك حتى الآن.

ماذا يعني كل هذا؟ من المرجَّح أن يتحرك إردوغان سريعاً لمراجعة البنية الهيكلية لحزب «العدالة والتنمية»، لا سيما الكوادر المحلية، بهدف عمليات تجديد قد تظهر خلال الأشهر المقبلة.

كما سيجري إردوغان تغييرات متوقعة على مواقفه السياسية بشأن إسرائيل، دون أن يذهب بعيداً إلى قطع العلاقات الاقتصادية لأن تركيا لا تملك الآن هذه الرفاهية.

في المقابل، فإن انكماش «العدالة والتنمية» في هذه الانتخابات شجع مراقبين على تقديم تصورات بشأن الانتخابات البرلمانية المقبلة، والتي ستكون وفقاً للمعطيات الحالية حلبة منافسة بين فاتح أربكان وأكرم إمام، في مشهد قد يغيّر الكثير في تركيا الحديثة وفي المنطقة.


مقالات ذات صلة

إردوغان وبهشلي ناقشا الدستور الجديد لتركيا وأوزال يصر على الانتخابات المبكرة

شؤون إقليمية بهشلي يهدي إردوغان نسخة من كتاب أصدره حديثاً خلال زيارته له في منزله في أنقرة الخميس (الرئاسة التركية)

إردوغان وبهشلي ناقشا الدستور الجديد لتركيا وأوزال يصر على الانتخابات المبكرة

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع رئيس حزب «الحركة القومية»، دولت بهشلي، في الاستعدادات الجارية لطرح مشروع الدستور الجديد.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية الرئيس التركي رجب طيب إردوغان متحدثاً أمام البرلمان الثلاثاء (الرئاسة التركية)

إردوغان يغلق الباب أمام الانتخابات المبكرة ويتمسك بالدستور الجديد

يسيطر النقاش حول الانتخابات المبكرة والدستور الجديد على الأجندة السياسية لتركيا وسط جدل متصاعد بين الحكومة والمعارضة

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شمال افريقيا محادثات عبد العاطي وفيدان في نيويورك (الخارجية المصرية)

ارتياح مصري - تركي لتقدم العلاقات الثنائية

أكدت محادثات بين وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، ونظيره التركي هاكان فيدان، في نيويورك، «تطلع القاهرة وأنقرة لمواصلة العمل على دفع العلاقات الاقتصادية».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
رياضة عالمية صورة متداولة للمحلل التلفزيوني الكروي سرحات أكين وسط حماية الشرطة (وسائل إعلام تركية)

إصابة سرحات أكين لاعب تركيا السابق بطلق ناري

أدان الاتحاد التركي لكرة القدم الهجوم المسلح الذي تعرض له مهاجم المنتخب الوطني وفناربخشه السابق والمحلل التلفزيوني الحالي سرحات أكين في إسطنبول أمس (الخميس).

«الشرق الأوسط» (إسطنبول)
شؤون إقليمية داود أوغلو خلال استقباله باباجان بمقر حزب «المستقبل» في أنقرة قبل أيام (وسائل إعلام تركية)

تركيا: تعثر جديد لمفاوضات الاندماج بين حزبي باباجان وداود أوغلو

فشلت مفاوضات الاندماج بين حزبي «الديمقراطية والتقدم» برئاسة علي باباجان و«المستقبل» برئاسة أحمد داود أوغلو في التوصل إلى اتفاق على اندماج الحزبين.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

ماذا وراء الخلاف الحاد بين نتنياهو وماكرون؟

نتنياهو يصافح ماكرون في القدس أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
نتنياهو يصافح ماكرون في القدس أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

ماذا وراء الخلاف الحاد بين نتنياهو وماكرون؟

نتنياهو يصافح ماكرون في القدس أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
نتنياهو يصافح ماكرون في القدس أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

قال مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن رئيس الوزراء تحدث هاتفياً مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اليوم (الأحد)، وأبلغه بأن فرض حظر على تصدير السلاح لإسرائيل سيخدم إيران والمتحالفين معها.

وأضاف المكتب، في بيان نقلته وكالة «رويترز» للأنباء، «أكد رئيس الوزراء أن تصرفات إسرائيل في مواجهة حزب الله تخلق فرصة لتغيير الواقع في لبنان وصولاً إلى تعزيز الاستقرار والأمن والسلام في المنطقة بأكملها». وأشار نتنياهو إلى أن «إسرائيل تتوقع دعم فرنسا وليس فرض قيود عليها».

بدوره، أكد ماكرون أن «التزام فرنسا بأمن إسرائيل لا يتزعزع»، لكنه شدد أيضاً على ضرورة وقف إطلاق النار في غزة ولبنان، حسبما أعلن قصر الإليزيه.

وقالت الرئاسة الفرنسية «عشية الذكرى السنوية الأولى لهجوم (حركة) حماس الإرهابي على إسرائيل، أعرب (ماكرون) عن تضامن الشعب الفرنسي مع الشعب الإسرائيلي». كما أعرب الرئيس الفرنسي عن «اقتناعه بأن وقت وقف إطلاق النار حان».

«حرب التصريحات»

واشتعلت «حرب تصريحات» بين ماكرون ونتنياهو وخلفه المنظمات اليهودية في فرنسا، وعلى رأسها المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا.

نقطة البداية تمثلت في جملة جاءت على لسان ماكرون، في حديث إذاعي بث (السبت)، لإذاعة «فرانس إنتر» وسُجل بداية أكتوبر (تشرين الأول)، وجاء في حرفية ما قاله: «أعتقد أن الأولوية اليوم هي العودة إلى حل سياسي، والتوقف عن تقديم الأسلحة المستخدمة في الحرب على غزة».

كما أن ماكرون وجه سهامه إلى نتنياهو الذي «لم يستمع إلينا (في موضوع وقف إطلاق النار)، وهذا خطأ، بما في ذلك بالنسبة لأمن إسرائيل غداً»، مؤكداً أنه سيواصل اتباع السياسة نفسها التي يتبعها بشأن الوضع في قطاع غزة «منذ عام».

ماكرون تطرق كذلك إلى الحرب الإسرائيلية على لبنان، مُنبهاً من أنه «لا يجب أن يتحول لبنان إلى غزة أخرى»، داعياً إلى «عدم التضحية بالشعب اللبناني».

وطالب ماكرون بوقف العمليات العسكرية و«بعودة الجيش اللبناني إلى الحدود»، إضافة إلى حصول الانتخابات الرئاسية لوضع حد للفراغ الرئاسي. وحرص الرئيس الفرنسي على تأكيد أن بلاده لا تقدم السلاح لإسرائيل.

ورغم أن باريس ليست مزوداً رئيسياً بالسلاح لإسرائيل؛ فإنها شحنت إليها معدات عسكرية العام الماضي بقيمة 30 مليون يورو، وفقاً للتقرير السنوي لصادرات الأسلحة الصادر عن وزارة الدفاع.

رسالة ضمنية لبايدن

ومجدداً، طُرحت هذه المسألة مساء السبت في المؤتمر الصحافي، الذي جاء في اختتام أعمال القمة الفرنكوفونية التي استضافتها فرنسا يومي الجمعة والسبت، والتي انتهت ببيان ختامي وآخر للتعبير عن التضامن مع لبنان.

وتوافرت الفرصة لماكرون لتصحيح ما قاله للإذاعة الفرنسية، وذلك بتأكيده أن الأسلحة التي تقدمها فرنسا لإسرائيل «لا تستخدم إطلاقاً» في الحرب على غزة، لا مباشرة، ولا بطريقة ملتوية.

بيد أن الأهم جاء في شرح دعوته لوقف تصدير السلاح لإسرائيل، إذ اعتبر أنه من الضروري التحلي بـ«الانسجام» في المواقف، وبالتالي «لا يمكن أن نطلب وقفاً لإطلاق النار في غزة وفي الأسبوع الأخير في لبنان، مع الاستمرار في توفير الأسلحة الحربية»؛ في الإشارة إلى إسرائيل، ولكن دون أن يسميها.

وكان واضحاً أن ماكرون يوجه خصوصاً رسالة ضمنية للولايات المتحدة الأميركية، وللرئيس بايدن شخصياً.

واستطرد ماكرون: «نعم، الدعوة لوقف النار تفترض الانسجام الذي يعني الامتناع عن توفير الأسلحة الحربية، وأعتقد أن من يدعو معنا كل يوم لوقف النار لا يمكنه الاستمرار في توفير الأسلحة».

وبالنسبة للرئيس الفرنسي، فإن وقف النار الذي وصفه بـ«الأولوية» من شأنه توفير «إيصال المساعدات الإنسانية، والعمل من أجل حل سياسي يفضي إلى (قيام دولتين)، وهو الوحيد الذي يضمن الأمن والسلام للجميع».

فلسطينيون فوق أنقاض مبانٍ دمرها القصف الإسرائيلي على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

كان ماكرون يتوقع أن تثير تصريحاته حفيظة إسرائيل. لذا، حرص على إعادة التأكيد بأن باريس «تطالب بالإفراج عن الرهائن، وأنها تقف إلى جانب إسرائيل في المحافظة على أمنها»، وأن «لا غموض» في هذا الموقف.

وكشف ماكرون أن نتنياهو اتصل به قبل الهجمات الصاروخية الأخيرة على إسرائيل من أجل أن «تشارك فرنسا» في الدفاع «عن أمن إسرائيل»، وأن فرنسا «استجابت لهذا الطلب».

كذلك، أكد ماكرون مجدداً أن الدعوة لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» لمدة 21 يوماً، التي أطلقتها الولايات المتحدة وفرنسا، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، تمت بالتوافق مع لبنان وإسرائيل، وأن نتنياهو «فضل مساراً آخر وهو يتحمل مسؤولية العمليات (العسكرية) الأرضية في لبنان».

الإحباط اللبناني

كان لبنان حاضراً بقوة في القمة الفرنكوفونية التي صدر عنها «إعلان تضامن مع لبنان» من ثماني فقرات، جاء فيها التعبير عن «القلق الكبير»، والتخوف من تصاعد العنف، والخسائر الكبيرة بالأرواح، وتضامن «العائلة الفرنكوفونية» مع لبنان، الذي يتعين أن «ينعم مجدداً بالأمن والسلام». كذلك دعا بيان القمة إلى «وضع حد لانتهاك سيادة لبنان وسلامة أراضيه»، والدعوة إلى «وقف فوري ودائم لإطلاق النار».

بيد أن المؤسف فيما صدر هو «تجهيل الفاعل»؛ بمعنى أن اسم إسرائيل لم يصدر مرة واحدة، بحيث بقيت الاعتداءات على السيادة اللبنانية مجهولة الفاعل، وكذلك الجهة المسؤولة عن مقتل وتهجير آلاف اللبنانيين.

دمار تسببت به الضربات الإسرائيلية الجوية الأحد في منطقة صفير في الضاحية الجنوبية لبيروت (أ.ف.ب)

وعبّر وزير الإعلام اللبناني، زياد مكاري، عن «إحباطه» لكون اسم إسرائيل لم يرد في أي مكان. وعلم من داخل القمة أن مجموعة من الدول وعلى رأسها رومانيا وكندا، بالإضافة إلى مجموعة من الدول الأفريقية، رفضت الإشارة إلى إسرائيل بالاسم؛ ما يبين إلى حد بعيد تسييس «الفرنكوفونية».

ورداً على ذلك، قال ماكرون إنه «لا يتعين التقليل من أهمية» الإعلان الذي يعكس التضامن مع لبنان، منوهاً بالمهمة التي يقوم بها وزير خارجيته، جان نويل بارو، في المنطقة، الذي سيعود مجدداً إلى لبنان بعد أن زاره بداية الأسبوع الماضي.

وبحسب الرئيس الفرنسي، فإن الأيام القادمة «ستكون حاسمة بالنسبة للحصول على وقف لإطلاق النار ومواصلة العمليات الإنسانية». ودعا إلى «عدم التشكيك» بانخراط فرنسا إلى جانب لبنان.

هجوم نتنياهو

وما كانت دعوة ماكرون لوقف إمداد إسرائيل بالأسلحة لتمر من غير رد من نتنياهو، الذي سارع إلى شن هجوم عنيف على ماكرون. وقال نتنياهو: «بينما تحارب إسرائيل القوى الهمجية التي تقودها إيران، يتعين على جميع الدول المتحضرة أن تقف بحزم إلى جانب إسرائيل. إلا أن الرئيس ماكرون وغيره من القادة الغربيين يدعون الآن إلى حظر الأسلحة على إسرائيل؛ إذ عليهم أن يشعروا بالعار».

ورأى نتنياهو أن إسرائيل ستنتصر حتى من دون دعمهم «لكن عارهم سيستمر لوقت طويل بعد الانتصار في الحرب». مضيفاً: «هل تفرض إيران حظر أسلحة على (حزب الله)، وعلى الحوثيين، وعلى (حماس)، وعلى وكلائها الآخرين؟ طبعاً لا».

وخلص إلى القول إن «محور الإرهاب هذا يقف صفاً واحداً، لكن الدول التي يفترض أنها تعارضه تدعو إلى الكف عن تزويد إسرائيل بالسلاح. يا له من عار».

وطالب نتنياهو «جميع الدول المتحضرة بأن تقف بصلابة إلى جانب إسرائيل».

الإليزيه يتدخل

ولأن أزمة حادة لاحت في الأفق، فقد سارع قصر الإليزيه إلى «توضيح»، جاء فيه أن فرنسا «صديقة لإسرائيل لا تتزعزع». وأبدى القصر الرئاسي أسفه لما صدر عن نتنياهو، معتبراً أنه «مُغال» في رد فعله.

لم يتوقف رد الفعل على نتنياهو وحده، بل انضم إليه المجلس التنفيذي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، المعروف بدعمه المطلق لإسرائيل.

وأعرب المجلس عن «أسفه العميق» لتصريحات الرئيس الفرنسي، معتبراً أن «الدعوة لحرمان إسرائيل من السلاح لا تدفع باتجاه السلام، لكنها تخدم (حزب الله) و(حماس)».

وزاد البيان أن دعوة كهذه تأتي قبل 7 أكتوبر مباشرة «تدمي كل الذين يتمسكون بمحاربة الإرهاب، وتشجع حزب فرنسا الأبية (اليساري الفرنسي المتشدد) في تطرفه، وفي استراتيجيته الدافعة إلى تعميم الفوضى في النقاش العام».

كذلك صدرت تصريحات مماثلة عن شخصيات يهودية وغير يهودية داعمة لإسرائيل.

مسيرة مناهضة لمعاداة السامية في باريس نوفمبر الماضي (أ.ف.ب)

الانتقادات غير مقبولة

وليست هذه المرة الأولى التي تتوتر فيها علاقات ماكرون بنتنياهو. ومهما فعل الأول للإعراب عن تمسكه بأمن إسرائيل والدفاع عنها، كما فعلت القوات الفرنسية مؤخراً بطلب من رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، عندما ساهمت في إسقاط الصواريخ الإيرانية المتجهة إلى إسرائيل؛ فإن كل ذلك لا يبدو كافياً بنظر نتنياهو.

فالأخير لا يجيز أي انتقاد له وسبق أن ندد، في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي بقرار رئيس الوزراء البريطاني كير ستامر حظر تصدير أنواع معينة من الأسلحة إلى تل أبيب.

كذلك فعل نتنياهو مع جوستان ترودو رئيس الوزراء الكندي، ومع الرئيس الأميركي بايدن، عندما أمر بتأخير تسليم إسرائيل نوعاً من القنابل؛ مخافة استخدامها في غزة.

وكانت النتيجة أن هذه القنابل الثقيلة «بوزن 2000 رطل» أعيد تسليمها، كما أغدقت واشنطن على إسرائيل بمساعدة عسكرية من 20 مليار دولار، وسلمتها مؤخراً مساعدة من 8 مليارات دولار.

من هنا، فإن فرنسا إن حظرت أسلحتها أو لم تحظرها، فإن تأثيرها يبقى محدوداً، إن عسكرياً أو لجهة الضغوط التي يمكن أن تمارسها على إسرائيل، سواء أكان بالنسبة للبنان أو غزة والضفة الغربية.