عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

«الحياة ليست رواية» لعبده وازن بطلها «القارئ»

عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع
TT

عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

غالباً ما يقوم العمود الفقري للقصص على ثنائيات، أو ثنائي واحد. هذه المرة يأخذنا عبده وازن في روايته «الحياة ليست رواية» الصادرة عن «دار المتوسط» إلى علاقة ثلاثية. لكل واحد من أقطابها حكايته الخاصة، وخلفياته، وظلاله، لكنهم معاً، يشكلون مشهداً بيروتياً متكاملاً، حيث تحضر الحروب المتوالية، والهجرة، واليتم، والتبني، والقتل، والضياع، والبحث المحموم عن الهوية، والحب الضائع.

الراوي هو قارئ أو «القارئ» الذي لا مهنة له غيرها. له من المقومات الحياتية والمادية ما يتيح له أن يتفرغ للكتب وخاصة الروايات، التي يعيشها حتى الثمالة، يحفظ أسماء أبطالها، ويستعيدهم، يربط مسارهم بما يعيشه، ويستوحي حيواتهم ليستنبط منها ويستلهم. ومع أنه يقرأ ليقرأ، وتلك غاية جعلته «تلميذاً أبدياً... يمضي جلّ أوقاته حاملاً بين يديه كتاباً، هو رواية في معظم الأحيان»، إلا أن الظروف تضع في طريقه جوسلين التي سيواصل القراءة معها، ويرى فيها امتداداً لما قرأ. هو وريث أب ميسور، لم يشعر بحاجة لأن يجهد نفسه بما لا يحب. كسول، درس الأدب الفرنسي، ولم يكمل ليحصل على شهادته الجامعية، وما حاجته إلى ذلك؟ إنه مفتون بالقراءة فقط! وهذا وحده يكفي، حتى الكتابة ليست هدفاً، ولا رغبة.

أما وقد قرر الراوي (القارئ) الخروج عن معهوده والمباشرة بكتابة رواية، فالغاية هي فقط «أن أتخلص من العبء الذي يثقل نفسي، ومن الشجن الذي يربض عليّ». ينبهنا الراوي الذي هو «القارئ» نفسه، منذ البداية إلى أنه ليس بأديب محترف. «أكتب، إذن، كما يحلو لي، فأنا قارئ يكتب، ولست كاتباً، ولن أكون. أكتب بالقلم، وليس على الكمبيوتر، فأنا لا أجيد الكتابة عليه بإتقان». هو عبء حكايته مع جوسلين وجوزف الذي يدفعه لأن يعدّل من مهمته الأثيرة.

ففي تلك الشقة التي جعلها مكتباً أو مكتبة إلى جانب شقة والدته، تقتحم عزلته جوسلين اللبنانية من أم فرنسية، الواصلة للتو من باريس، لزيارة جدتها أنجل (جارته) وإعادة اكتشاف وطنها، حيث مات والدها قتلاً خلال الحرب الأهلية في خضم نزاع مسلمين ومسيحيين. بعد الحادث الأليم اصطحبتها أمها مع شقيقها إلى فرنسا عائدة بهما إلى وطنها. لكن ها هي جوسلين تعود لتخوض مغامرتها اللبنانية الاستكشافية، ولا بد أنها في أشد الحاجة إلى معونة صديق، وتشاء الصدف أن يكون جار جدتها الذي تلتقيه بمجرد وصولها. لكن رغم انجذاب الراوي لها، وإعجابه السريع بها، سيميل قلبها إلى المحامي جوزف صديق طفولته والأقرب إليه. خيار موجع، لكن الراوي يبقى على هدوئه، وصمته ويترك لها أن تعيش خيارها.

في استسلام يشبه انسياقه صوب الروايات التي يقرأها، يترك الراوي لقصة الحب بين جوسلين وجوزف أن تأخذ مداها، وكأنما القدر يسوق الخطى. كل الرواية تسير فيها شخصياتها، وكأنها منساقة أو هائمة في حياة، تبحث فيها عن شيء ما فاتها. جوسلين في رحلة النبش عن ماضي والدها الذي فقدته، تلاحق تفاصيل قصة حب عاشها مع منى قبل أن يتزوج بوالدتها، ورسائل تبادلها معها، كل هذا يتزامن مع محاولة الابنة معرفة ظروف مقتله بعد أن اختُطف على نقطة البربير في بيروت. الراوي (القارئ) يساندها في مهمتها، بينما يكتفي جوزف بدور الحبيب، الذي سرعان ما يعيش قصة غير منتظرة هي معرفته المتأخرة بأنه ابن بالتبني لعائلة كان يظن أنها امتداده البيولوجي. أمر سيخلق للراوي أيضاً انشغالاً جانبياً آخر. فهو صديق العمر، لكنه غريم في الوقت نفسه. جوسلين تحب جوزف بحق، لكنه لا يبادلها الشغف نفسه، ومع ذلك فالراوي يترك الأمور تمضي بينهما، ولو كان متحرقاً متشوقاً، متألماً بصمت.

في خضم هذه العلاقة الثلاثية نتنقل مع الشخصيات في بيروت بمبانيها، ومقاهيها، وشوارعها بأسمائها الحقيقية، ومناطقها من ساسين إلى البربير، التباريس، الطيونة، مونو، الجميزة. تزور جوسلين المتحف الوطني فتكون مناسبة لنتعرف على حقبات تاريخية من خلاله، وعلى دور المتحف في الحرب الأهلية، وما يعنيه في ذاكرة اللبنانيين، كونه جغرافياً، يقع على ما كان يعتبر خط تماس بين البيروتين.

الأحداث العامة التي تستدعيها ذاكرة الثلاثي، وخاصة الراوي، هي أيضاً مستلة من تاريخ المدينة، والثلاثي يعيش حياة نعرف ملامحها جيداً، يتحركون في أماكن نسكنها معهم، وربما نكون عشنا الأحداث نفسها.

يسمح الراوي لنفسه أن يجول في الزمن جيئة وذهاباً، تبعاً لحاجة القص. جوسلين لا بد أن تبحر في الماضي، هي الآتية للبحث عنه. هناك استدعاء لأحداث رافقت الحرب، ذكريات انقضت، كل ذلك يحتاج إلى التحرك على خط الزمن بحرية. أما النص فجاء دفقاً واحداً متتالياً، لا تقسيمات ولا أبواب ولا عناوين فرعية. يكفي أن تقرأ على الغلاف «الحياة ليست رواية» لتكتشف سريعاً من الصفحات الأولى أنك تدخل في خضم لعبة أدبية، فيها الكثير من التجريب. لا بل إن الراوي يحمل الكثير من ملامح عبده وازن نفسه؛ بحيث إن الخلط بين المؤلف والراوي، لا يأتي صدفة بل هو جزء من التجربة النصية نفسها. يشرح لك الراوي أنه يهوى هذا الصنف من الروايات التي تُدخل قارئها وكاتبها في لعبة أدبية. «أحب كثيراً الروايات القائمة على لعبة الرواية داخل الرواية».

يتبارى الراوي مع جوسلين في استعادة روايات عديدة، لكتّاب مشهورين، لجأوا إلى ألعاب أدبية من هذا النوع، بينهم شكسبير مثلاً، بيرندللو، أندريه جيد، ناتالي ساروت. تقول جوسلين: «أحب لعبة التوهم السردي، لعبة الوجه والقناع. كأن الرواية تشكك بنفسها، تنتفص، تزدوج. أي رواية نصدق، الأولى أم الثانية؟ الكاتب أم الراوي؟».

يغيب جوزف، يرحل في حادثة، ويبقى الراوي يفكر إذا ما كان هو السبب في الكارثة، أو كان بمقدوره أن يمنعها. يعود زخم الأدب ليظهر وكأنما هو البداية كما في النهاية. لم تكن الأحداث إلا وسيلة القارئ أو الراوي، ليكتب روايته التي في الأصل هي لعبة تجريبية أدبية، من وحي هذا الصنف من الروايات.

كأنما يعيش الثلاثة وهم يحاولون أن يعيشوا حياة جديرة بالكتابة، كما تقول جوسلين: «ليتنا نجد من يكتب عنا رواية نحن الثلاثة، كيف التقينا، وكيف أصبحنا ثلاثياً نادراً؟! ثلاثي رائع، نحب، نقرأ، نتناقش، نعيش معاً، نسهر معاً، حتى ليصعب علينا أن ننفصل واحداً عن الآخر، على رغم حفاظ كل منا على مزاجه وأسراره».

فعل القراءة يحتل جانباً واسعاً من الكتاب، وحيزاً مهماً من حياة الشخصيتين جوسلين والراوي. وكأنما حياتهما مع النصوص الروائية هي محاولة حثيثة، للعثور على وجود بديل عن حياة غير مكتملة. أو كأنما القراءة والكتب، وعوالمها الشاسعة التي تشغل الشخصيات، هي في حياتهم بدل عن ضائع؛ إذ بمجرد أن تغيب جوسلين، عائدة إلى فرنسا بعد موت جوزف، تاركة وراءها الرجل الذي أحبها ولم تلتفت إليه، يقع في فراغ اللاقراءة.

بعد أسابيع من الضيق والحسرة وهجران الكتب، يتوجه في محاولة لنفض الحداد واستعادة الحياة، إلى مكتبة أنطوان، للبحث عن كتب جديدة. هناك، وكي لا نمسّ متعة القراءة واكتشاف النهاية، نعرف أننا لسنا في لعبة رواية داخل رواية، وإنما ثمة طبقة روائية أخرى، وأن صاحبنا ليس عاشقاً للمرأة بقدر ما هو عاشق لها حين تصبح كتاباً أو نصاً أو عملاً روائياً.

وبالتالي فإن عبده وازن في روايته التي لم يردها تقليدية، ولا مشدودة إلى حبكة، إنما يروي حكاية أفراد يلتقون بقدر ما يفترقون، يتواصلون بقدر ما تبعد بينهم الظروف، ويمكن لأحدهم أن ينفصل عن الآخر، تماماً كما يشعر بأن هذا الفطام صعب، وأن الأمر الوحيد الذي لا يمكن الاستغناء عنه هو الكتاب، والنص.

رواية تغرس جذورها في جغرافيا بيروت وتفاصيل أحيائها وحاناتها ومقاهيها، جامعة بين التخييل الشخصي والواقع الجمعي المألوف.


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.