آيرلندا الستينات في عيني هاينريش بول

آلاف السياح زاروا البلد بعد قراءة كتابه

هاينريش بول (غيتي)
هاينريش بول (غيتي)
TT

آيرلندا الستينات في عيني هاينريش بول

هاينريش بول (غيتي)
هاينريش بول (غيتي)

آيرلندا موجودة، لكن الكاتب لا يتحمل وزر أن زارها أحدهم ولم يجدها. هكذا يقدم الكاتب هاينريش بول لكتابه، الذي صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، بترجمة ماجد الخطيب، والمعنون «يوميات آيرلندية».

لقد كتب بول هذا التقديم لأنه يعرف عن يقين أن الآخرين لن يشاهدوا آيرلندا بعينيه. لكنه ربما كان مخطئاً، فقد أدار كتابه في ستينات القرن الماضي، دفة مئات الآلاف من السياح الألمان نحو آيرلندا. ألمان يودون مشاهدة آيرلندا بعيني الكاتب بعد أن قرأوا القصص الغريبة والطريفة، والانطباعات الذكية، التي ثبتها بول في نصوصه. ويعترف الكاتب الآيرلندي المعروف هوغو هاملتون أنه تحول إلى سائح في بلده، ينظر إلى البشر والحواضر بشكل آخر، بعد أن قرأ كتاب هاينريش بول.

يعدُّ كتاب «يوميات آيرلندية» من أهم أعمال القاص والروائي الألماني، الحائز على نوبل، هاينريش بول. وهو عبارة عن مجموعة قصص قصيرة وانطباعات ومشاهدات من الحياة اليومية للآيرلنديين في ذلك الزمان. تكمن أهمية الكتاب في الأسلوب الطريف الساخر، والغور العميق في نفسية وعقلية البشر، الذي عرف به الكاتب المتحدر من مدينة الكرنفال كولونيا.

كان الشعب الآيرلندي «شعباً يحاول الاستفاقة من كابوس التاريخ في أوروبا» حينما زاره بول، كما يقول جيمس جويس. بقعة منسية من أوروبا على المحيط الأطلسي لا تزال تغط في سباتها رغم أن غبار الحرب العالمية الثانية لم يبلغها.

يصف بول في الكتاب كيف يحول الآيرلنديون في الخمسينات السينما إلى مجتمع صغير يحضره القساوسة واللصوص، وتتطاير فيه أغطية الشمبانيا، ولا يبدأ العرض إلا بعد أن ينهي القساوسة وليمتهم وجدلهم اللاهوتي في قاعة السينما. وكيف يسرد أحدهم في الصف الثالث من السينما نكتة إلى آخر يجلس في الصف العاشر... إلخ.

لم يكتف بول بوصف «قمرة النوتي» في البارات الآيرلندية، بل دخلها وشرب فيها على الطريقة الآيرلندية. وهي كابينات صغيرة لا تزيد مساحتها عن متر مربع ينفرد فيها الآيرلندي، ولا يخرج منها إلا إذا انتهت نقوده أو سقط مغميّاً عليه وتم نقله بالإسعاف.

الآيرلنديون يعزون كل مصائبهم وفقرهم إلى الإرادة الإلهية ولا يفعلون شيئاً لتغيير ذلك. قد يفقد الآيرلندي ساقه في حادث، أو ينهار بيته في حريق، أو يغرق المركب الذي يهاجر فيه إلى الولايات المتحدة، لكنه يكتفي بترديد: كان من الممكن أن يكون الأمر أسوأ. جملة قد تعادل قول البعض «دفع الله ما كان أعظم».

والمطر العاصف ظاهرة يومية في حياة الآيرلنديين. حوَّل المطر البلد إلى بقعة خضراء من الأرض ينمو عليها الخث إلى جانب الفطر على كل جدار. وإذا كان العراقي المسن، مثلاُ، يؤرخ مواليد أولاده بـ«سنة الفيضان» و«ثورة الزعيم» و«دكة رشيد عالي الكيلاني»، فإن الآيرلندي يؤرخ هذه الوقائع باليوم المشمس الفلاني، والصباح المشرق الفلاني بسبب ندرة الأيام المشمسة في حياته.

يحكي له شرطي المرور عن بنته التي ولدت في يوم مشمس، قبل اليوم الذي قتلت فيها امرأة مجنونة القس في الكنيسة بدعوى إرساله إلى الجنة. ويتحدث الشرطي، قبل أن يسأل بول عن أوراق السيارة، عن موت هندي أحمر غريب في بيت منعزل قريب.

وإذا كان الأول من يوليو (تموز) يوم مولد ملايين العراقيين، فإن شهر سبتمبر (أيلول) من كل سنة هو شهر مولد شبه عام للآيرلنديين. وهم أكثر شعوب العالم هجرة ويهاجر ثلثاهم (في الخمسينات) إلى أوروبا وأميركا بعد بلوغ سنة السابعة عشرة. يعمل المهاجرون، في الأغلب، في إنجلترا ودول أوروبا القريبة، ولا يعودون إلى أسرَّة زوجاتهم إلا في فترة أعياد الميلاد. وهكذا يولد معظم أطفال الآيرلندي المهاجر في شهر سبتمبر.

ربما وجد بول قاسماً مشتركاً مع الآيرلنديين في هذه الحالة بالذات؛ لأنه يتحدر من مدينة كولون الألمانية المعروفة بمدينة الكرنفال وعروس كرنفال الراين. هناك أجيال من الكولونيين يحملون اسم «جيل الكرنفال»؛ لأنهم يولدون في ديسمبر (كانون الأول) إثر انقضاء ذروة الكرنفال في مطلع مارس (آذار).

يصف هاينريش بول آيرلندا، في «يوميات آيرلندية»، بألوان زاهية لا يتوقع القارئ أن يشاهدها في حياة الآيرلنديين الواقعية. هي لوحات تقترب في ألوانها الزاهية من لوحات الانطباعيين الهولنديين، التي تتأثر بالضوء المسلط عليها، لكن الضوء لا يشق طريقه إلى الحياة إلا بصعوبة بالغة في سماء آيرلندا الملبدة بالغيوم.

يعترف معظم من قرأوا هذا الكتاب، بمختلف لغات العالم، بأنهم عرفوا بفضله، أن كلمة «بويكوت»، التي تعني «المقاطعة» في اللغة الإنجليزية تعود إلى «قطيعة» أعلنها الفلاحون الآيرلنديون مع وكيل أحد ملَّاكي الأراضي اسمه تشارلز بويكوت.

يرى بعض النقّاد الألمان أن بول كان يبحث في آيرلندا عن هويته التي طمستها، إلى حد ما، سنوات الحكم النازي والحرب. يبحث في هذه البقعة من الأرض عن السلام والاطمئنان الذي فقده في ألمانيا بسبب تهمة التعاطف مع جماعة بادر ماينهوف، التي كانت تلاحقه، ورقابة الأمن المفروضة عليه في إطار قانون الطوارئ الألماني. يبحث عما يفتقده في شخصيته من مرح وسخرية وعفوية. فالألماني نقيض الآيرلندي في العديد من النواحي، فهو منضبط ودقيق وجاد ومبرمج بقدر فوضوية وسخرية وتسيّب وعفوية الآيرلندي. ربما أن قصة «حينما يرغب سيموس بكأس» من أطرف القصص التي ينقلها لنا بول عن الآيرلنديين؛ إذ يرغب سيموس في قريته في الحصول على «باينت» بيرة بعد غداء دسم، لكن القوانين الدينية في البلد آنذاك تمنع المواطن من الشرب في قريته بين الثانية والسادسة من بعد الظهر. إلا أن القوانين تسمح للمواطن بالشرب في هذا الوقت إذا كان على بعد ثلاثة أميال من قريته. ولهذا يأخذ سيموس دراجته الهوائية ويقودها صعوداً إلى الجبل كي ينزل إلى قرية تبعد ستة أميال كي ينال بيرته. يلتقي على القمة بابن عمه العطشان للجعة أيضاً الذي غادر قريته كي يشرب في قرية سيموس.


مقالات ذات صلة

عائشة الأصفر: تناول المقموعين والمهمشين من همومي الجوهرية

ثقافة وفنون عائشة الأصفر

عائشة الأصفر: تناول المقموعين والمهمشين من همومي الجوهرية

برز اسم عائشة الأصفر في المشهد السردي الليبي، عبر مجموعة من الروايات التي توالى إصدارها على مدار سنوات طويلة، بدأتها برواية «اللي قتلوا الكلب»،

عمر شهريار
ثقافة وفنون حسام الدين محمد يبحث في «رسالة اللاغفران» علاقات الثقافة الخفية

حسام الدين محمد يبحث في «رسالة اللاغفران» علاقات الثقافة الخفية

صدر عن منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت وعمّان، كتاب «رسالة اللاغفران: نقد ثقافي على تخوم مضطربة» للكاتب السوري حسام الدين محمد.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

قف أمام «الآنسة جولي» بحلّتها العربية الجديدة، حائراً من أين أبدأ في الكتابة عن هذه التراجيديا التي تعكس قساوة الواقع المعيش؟ مِن مؤلفها،

طالب عبد الأمير
ثقافة وفنون عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

أثير من جديد في الوسط الثقافي السعودي النقاش عن الفيلسوف عبد الله القصيمي، ودعوى «إلحاده ومروقه من الدين»، وأنه مفكر ماديّ،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون «وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

«وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

في روايته الجديدة «وكالة النجوم البيضاء» الصادرة أخيراً عن «دار الشروق» بالقاهرة، يتعامل الكاتب عمرو العادلي مع السينما على مستويين متوازيين؛

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

إعلان الفائزين بجائزة السلطان قابوس للفنون والآداب

«جائزة السلطان قابوس للفنون والآداب»
«جائزة السلطان قابوس للفنون والآداب»
TT

إعلان الفائزين بجائزة السلطان قابوس للفنون والآداب

«جائزة السلطان قابوس للفنون والآداب»
«جائزة السلطان قابوس للفنون والآداب»

أعلن مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم، الأربعاء، نتائج الدورة الثانية عشرة لـ«جائزة السلطان قابوس للفنون والآداب»، في ثلاثة فروع هي: فرع الثقافة (المؤسسات الثقافية الخاصة)، وفرع الفنون (النحت)، وفرع الآداب (السيرة الذاتية).

وخُصصت جائزة هذا العام للعمانيين والعرب، في مجالات المؤسسات الثقافية الخاصة، والنحت، والسيرة الذاتية.

ففي فرع الثقافة (المؤسسات الثقافية الخاصة)، فازت «مؤسسة منتدى أصيلة» (من المغرب)، وتُعد المؤسسة منصة ثقافية دولية تهدف إلى تعزيز الحوار الحضاري، وتنمية مدينة أصيلة المغربية، عبر تنظيم مهرجانات، وأنشطة فنية وأدبية وتعليمية، إضافة إلى مشاريع تنموية وإنسانية تسهم في دعم الشباب والمجتمع المحلي.

وفي فرع الفنون (النحت)، فاز عصام محمد سيد درويش (من مصر)، مواليد 1970، ويعمل أستاذاً للنحت بكلية التربية الفنية بجامعة حلوان، وشغل العديد من المناصب، منها رئيس مجلس أمناء «مؤسسة آدم حنين للفنون»، وأنجز العديد من الأعمال النحتية الميدانية داخل مصر وخارجها، من بينها: تمثال صالح سليم بالنادي الأهلي (2007)، وتمثال فاتن حمامة بدار الأوبرا المصرية (2018)، وتمثال الشيخ زايد بمدينة الشيخ زايد (2015)، وتماثيل توفيق الحكيم وأحمد شوقي وطه حسين بمكتبة الإسكندرية (2015).

وفي فرع الآداب (السيرة الذاتية)، فازت حكمت المجذوب الصباغ (من لبنان)، وهي حاصلة على شهادة الليسانس في الأدب العربي عام 1957، والدكتوراه في الأدب العربي من جامعة السوربون عام 1977، وعملت أستاذة في الجامعة اللبنانية، وشغلت منصب أستاذة زائرة في جامعات عربية وأوروبية، ونالت عدة جوائز مرموقة، منها جائزة مؤسسة العويس الثقافية، واختيرت شخصية العام في معرض الشارقة الدولي للكتاب 2019، وصُنفت ضمن مائة مبدعة عربية أثرت العالم عام 2024.

وتهدف «جائزة السلطان قابوس للفنون والآداب» إلى دعم المجالات الثقافية والفنية والأدبية؛ باعتبارها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني، والإسهام في حركة التطور العلمي، والإثراء الفكري، وترسيخ عملية التراكم المعرفي، وغرس قيم الأصالة والتجديد لدى الأجيال الصاعدة؛ من خلال توفير بيئة خصبة قائمة على التنافس المعرفي والفكري.

وتسعى الجائزة إلى فتح أبواب التنافس في مجالات العلوم والمعرفة القائمة على البحث والتجديد، وتكريم المثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر، والارتقاء بالوجدان الإنساني؛ تأكيداً على المساهمة العُمانية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.


«جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية» تمنح محمد بن راشد جائزة الإنجاز

منحت «جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية» الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «جائزة الإنجاز» تقديراً لمسيرته الاستثنائية في المجال الثقافي والمعرفي حول العالم (الشرق الأوسط)
منحت «جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية» الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «جائزة الإنجاز» تقديراً لمسيرته الاستثنائية في المجال الثقافي والمعرفي حول العالم (الشرق الأوسط)
TT

«جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية» تمنح محمد بن راشد جائزة الإنجاز

منحت «جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية» الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «جائزة الإنجاز» تقديراً لمسيرته الاستثنائية في المجال الثقافي والمعرفي حول العالم (الشرق الأوسط)
منحت «جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية» الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «جائزة الإنجاز» تقديراً لمسيرته الاستثنائية في المجال الثقافي والمعرفي حول العالم (الشرق الأوسط)

أعلنت «جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية» تكريم ومنح الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، «جائزة الإنجاز الثقافية» ضمن دورتها التاسعة عشرة، تقديراً لمسيرته الاستثنائية في المجال الثقافي والمعرفي حول العالم.

وجاء في البيان الصادر عن مجلس أمناء الجائزة: «حيث يُكرَّم الفكر لا الاسم، والمسيرة لا المنصب، وقف مجلس الأمناء أمام تجربة لا تشبه إلا ذاتها، وبعد تأمل عميق في أثر هذه التجربة وما تركته من بصمات في الثقافة والتنمية والإنسان». وأضاف: تقرّر منح «جائزة الإنجاز» للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، «تقديراً لمسيرة استثنائية جعلت من العطاء أسلوب حياة، ومن التنمية رسالة، ومن الإنسان محوراً، ومن المستقبل هدفاً سامياً».

وأكد بيان الجائزة أن مسيرة الشيخ محمد بن راشد، «الممتدة عبر العقود، لم تكن مجرد إنجازات، بل كانت رؤية تحوّل الإنسان إلى محور كل تقدم، والمعرفة إلى أداة للتغيير، والسلام إلى نهج عالمي، والعطاء إلى إرث خالد، وأن كل مشروع، وكل مؤسسة، وكل جائزة أطلقها، كانت شعلة أمل، ومصدر إلهام، ومنارة للعطاء والتميز».

وأضاف المجلس، في بيانه، أن «جائزة الإنجاز» تُمنح للشيخ محمد بن راشد، «اعترافاً بمسيرة استثنائية، وبصمات لا تُمحى، وقيادة صنعت نموذجاً فريداً لنهضة شاملة، تجمع بين الإنسانية، والمعرفة، والثقافة، والاقتصاد، والسلام، وتعيد تعريف مفهوم الإنجاز».

وتطرق البيان إلى جوانب عديدة من إسهامات حاكم دبي والجهود التي قادها وفكره الريادي والمبادرات والمؤسسات النوعية التي أسسها وأطلقها في المجالات المختلفة، مضيفاً أن الشيخ محمد بن راشد لم يقتصر دوره «على الحكم والقيادة السياسية والتنمية الاقتصادية، بل جعل من الثقافة والمعرفة والعلوم والابتكار ركيزة أساسية للنمو المستدام، لتحويل العطاء الإنساني إلى منظومة متكاملة ومستدامة، تدعم المجتمعات، وتمكّن الأفراد، وتفتح أبواب الأمل دون تمييز بين دين أو عرق، عبر محاور رئيسية تعكس فلسفته في التنمية الإنسانية».

ومن بين العديد من المشروعات التي توقف عندها بيان مجلس أمناء الجائزة، إطلاق مبادرة «تحدي القراءة العربي»، بوصفها أكبر تظاهرة قرائية من نوعها باللغة العربية على مستوى العالم، ومسهماً رئيسياً في إحداث تأثير نوعي في مشهد الثقافة العربية، على جميع الصعد من حيث اتساع دائرة المشاركة، وترسيخ ثقافة القراءة في نفوس الأجيال الجديدة، والاهتمام باللغة العربية.

واستطاعت هذه المبادرة الملهمة التي أطلقها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في عام 2015، استقطاب أكثر من 163 مليون طالب وطالبة للمشاركة في منافساتها. كما انتزعت تقديراً كبيراً على المستويين الشعبي والرسمي في الوطن العربي، مرسخة رؤيته الملهمة بأن القراءة هي حجر الأساس لكل نهضة فكرية وتنموية.

كما تضم مبادراته «نوابغ العرب»، وهي جائزة سنوية أُطلقت عام 2022م، وتهدف إلى اكتشاف النوابغ، وتقديرهم، وتمكينهم، وتعظيم أثر عملهم في العالم العربي، وتكريم المتميزين في العالم العربي وتسليط الضوء على أدوارهم الداعمة لاستئناف إسهام المنطقة العربية في الحضارة الإنسانية.

كما أشار البيان إلى تأسيس مكتبة محمد بن راشد، تحت مظلة مؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية، لدعم وتعزيز استراتيجية الدولة الشاملة في القطاع الثقافي والمعرفي، والإسهام في تعزيز وإثراء المشهد الفكري والإبداعي والمعرفي في العالم العربي، وتكريس أهمية تحقيق مكتسبات ثقافية ومعرفية بين أفراد المجتمع بوصف الثقافة والمعرفة من عوامل بناء حياة أرقى ومستقبل أفضل للمجتمعات البشرية كافّة.

وتطرّق كذلك إلى إطلاق «المدرسة الرقمية»، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 ضمن مؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية، أول مدرسة رقمية متكاملة من نوعها، ودورها في تمكين الطلاب بخيارات التعلم الرقمي في المناطق التي لا تتوفر فيها الظروف أو المقومات التي يحتاج إليها الطلاب لمتابعة تعليمهم، وتوفيرها خياراً نوعياً للتعلم المدمج والتعلم عن بُعد، بطريقة ذكية ومرنة، مستهدفة الفئات المجتمعية الأقل حظاً.

كما أشار بيان مجلس أمناء الجائزة إلى إطلاق «جائزة محمد بن راشد للغة العربية»، التي تعكس فِكر الشيخ محمد الاستشرافي وجهوده في تعزيز مكانتها بين لغات العالم، ومواكبة التطورات التكنولوجية والتقنية والمعرفية، وتُسهم في زيادة التقدير العالمي لها ورفع الوعي بجماليات لغة الضاد، مرسخة مكانتها بعد تسع دورات من إطلاقها، منصة عالمية للإبداع والابتكار في خدمة اللغة العربية، بالإضافة إلى مبادرة إصدار معجم للمصطلحات العربية المستحدثة في الجوانب التقنية والعلمية.

كما توقف مجلس أمناء الجائزة عند النتاج الشعري والأدبي الغزير للشيخ محمد بن راشد، وإسهاماته المتنوعة في العديد من المؤلفات والكتب في مجالات عدة التي شكلت إضافة نوعية للمكتبة الوطنية والعربية، ورصيداً وبصمة مميزة للثقافة والإبداع والفكر والمعرفة الإنسانية، ومنها كتب: «علمتني الحياة»، و«رؤيتي»، و«قصتي»، و«ومضات من فكر»، و«تأملات في السعادة والإيجابية»، و«ديوان زايد»، و«ومضات من شعر»، و«40 قصيدة من الصحراء»، و«قصائدي في حب الخيل»، و«القائدان البطلان»، و«عالمي الصغير»، بالإضافة إلى «من الصحراء إلى الفضاء»، و«ومضات من حكمة»، و«أقوال محمد بن راشد آل مكتوم».

كما أشار البيان إلى جانب من الجوائز التي أطلقها في مجالات الثقافة والفنون والأدب والعلوم وتشجيع حفظ وتلاوة القرآن الكريم، ومنها جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، وجائزة «نوابغ العرب في الهندسة والتكنولوجيا، والطب، والاقتصاد، والعلوم الطبيعية، والأدب»، لتؤكد الريادة الإماراتية في الفنون والثقافة على المستويين المحلي والعالمي.


نقوش تصويرية منمنمة من موقع مليحة بالشارقة

3 قطع منقوشة على صدف من عِرق اللؤلؤ مصدرها موقع مليحة في إمارة الشارقة
3 قطع منقوشة على صدف من عِرق اللؤلؤ مصدرها موقع مليحة في إمارة الشارقة
TT

نقوش تصويرية منمنمة من موقع مليحة بالشارقة

3 قطع منقوشة على صدف من عِرق اللؤلؤ مصدرها موقع مليحة في إمارة الشارقة
3 قطع منقوشة على صدف من عِرق اللؤلؤ مصدرها موقع مليحة في إمارة الشارقة

خرجت من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، منها ثلاث قطع منمنمة صُنعت من صدف عرق اللؤلؤ، تزيّنها نقوش تصويرية، تبدو فريدة من نوعها في هذا الميدان. تتشابه قطعتان بشكل شبه كامل، وتُمثّل كل منهما رأس أسد كما يبدو، فيما تمثّل القطعة الثالثة رأس رجل ملتحٍ. تظهر هذه الرؤوس الثلاثة في وضعية جانبية، وتتبع طرازاً فنياً جامعاً يعكس أثر التقليد الفني الذي عُرف به السومريون في صناعة الألواح التصويرية المطعمة بفسيفساء من الصدف.

تقع مليحة في سهل داخلي إلى الغرب من سلسلة جبال الحجر، وأبرز معالمها مجموعة من المقابر كشفت عنها سلسلة متواصلة من حملات المسح والتنقيب. انطلقت أولى هذه الحملات خلال عام 1973، وأشرفت عليها يومذاك بعثة عراقية، تبعتها بعثة فرنسية عملت في هذا الموقع من عام 1984 إلى عام 1994. في المقابل، دخلت بعثة محلية تابعة لـ«هيئة الشارقة للآثار» في هذا الحقل تحت إدارة الأستاذ صباح عبود جاسم، وكشفت عن مدفن كبير حوى 26 قبراً، منها 12 قبراً مخصّصة للجمال، ضمّ قبران منها حصانين. دُفنت هذه البهائم كما يبدو على مقربة من أصحابها الذين احتلوا 14 قبراً، وأظهرت الأبحاث اللاحقة أن رفاتها يعود إلى جِمال في سن اليُفُوع، منها 9 جمال عربية أصيلة و3 جمال هجينة.

تحوّلت هذه المقبرة الغريبة التي تُعرف باسم «البلية» إلى موقع سياحي بعد أن أعيد بناؤها وفقاً للمقاييس العلمية المتبعة عالمياً، ودخلت أبرز اللقى الأثرية التي خرجت منها إلى «مركز مليحة للآثار» الذي شُيّد على مقربة من قبر دائري ضخم يعود إلى العصر البرونزي، يُعرف باسم ضريح أمّ النار، وتمّ افتتاح هذا المركز في مطلع عام 2016. حوت مقبرة «البلية» مجموعات متنوعة من اللقى تشابه تلك التي خرجت من المقابر الأثرية التي تمّ استكشافها في إقليم عُمان، ومنها مجموعة من الأواني المصنوعة من الفخار والزجاج والرخام والبرونز، ومجموعة من الرماح ورؤوس السهام، ومجموعة من الحلى وقطع الزينة الفردية، إضافة إلى مجموعة مميزة تتمثل بفخاخ وأقراص ذهبية وحلقات برونزية، تشكّل جزءاً من الزينة الخاصة بالخيول.

إلى جانب هذه المجموعة المميزة، تحضر ثلاث قطع منمنمة مزيّنة بنقوش تصويرية، صُنعت ممّا يُعرف في قاموس علم الآثار بـ«أمّ اللؤلؤ»، أي من الطبقة الداخلية اللامعة الخاصة بصدفة الرخويات التي يتكوّن منها اللؤلؤ، وتُعرف هذه المادة الصدفية كذلك بعرق اللؤلؤ، وهو المصطلح الأكثر شيوعاً. عُثر على هذه القطع المنمنمة في ركن ضمّ قبرين من قبور مقبرة «البلية»، وهما القبران اللذان حملا الرقم 5 والرقم 6 في التقرير الخاص باستكشاف هذا الموقع، وهي على شكل ثلاثة رؤوس في وضعية جانبية، صُوّرت ملامحها بأسلوب فنيّ واحد.

تُمثّل قطعة من هذه القطع المنمنمة رأساً آدمياً، يرتفع فوق كتفين تشكّلان قاعدة له، وهو رأس رجل ملتحٍ، يعلو جبينه رباط ينعقد فوق شعر كثيف، تتطاير خصلاته الطويلة من الخلف، وتشكّل شبكة من الخطوط الملتوية المتجانسة. تحتل العين المساحة الكبرى من هذا الوجه، وهي على شكل لوزة ضخمة مجرّدة، يحدّها جفن مقوّس عريض، يعلوه حاجب مشابه. وتحضر في وسط هذا المحجر الضخم دائرة صغيرة تمثّل البؤبؤ. الأنف كبير وبارز، وهو على شكل مثلث تتصل قمّته مباشرة بخط الجبين المستقيم. الفم مطبق، ويتمثّل بخط أفقي يفصل بين شفتين تغيبان خلف خصل لحية طويلة، تحتلّ الجزء الأسفل من هذا الوجه.

في موازاة هذا الرأس الآدمي، يحضر رأس بهيمي تتكرّر ملامحه بشكل شبه مطابق على القطعتين المقابلتين. يأتي هذا التكرار بشكل معاكس؛ إذ يظهر رأس محدّقاً في اتجاه اليمين، ويظهر الرأس الآخر محدّقاً في اتجاه اليسار. يبدو هذا الرأس البهيمي من الفصيلة السنورية، ويمثّل على الأرجح رأس أسد مزمجر يكشر عن أنيابه. تماثل عين هذا الأسد في تكوينها عين الإنسان الملتحي، ويشهد هذا التماثل لوحدة الأسلوب المتبع في النقش. الأنف مقوّس، وتعلوه شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية تمثل الوبر، مع دائرة صغيرة في الجزء الأسفل تمثّل المنخر. الفك العلوي مقوّس، والفك الأسفل مستقيم، والشدق مفتوح في وسطهما، وقوامه صف من الأنياب المتراصة. الأذن كتلة بيضاوية مجرّدة، واللبدة ظاهرة في الجزء الخلفي من الرأس، وخصلها أشبه بالحراشف.

كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في المقابر الأثرية الخاصة بدولة الإمارات العربية المتحدة عن مجموعة كبيرة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، تمثّل تقليداً فنياً محلياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية. تخرج قطع مقبرة «البلية» الثلاث عن هذه المجموعة بشكل جليّ؛ إذ تعتمد أسلوباً فنياً مغايراً، واللافت أن هذا الأسلوب الخاص يشبه إلى حد كبير التقليد الفني العريق الذي عُرف به السومريون في صناعة الألواح التصويرية المطعمة بفسيفساء من الصدف، وأشهرها تلك التي خرجت من مدينة أور في جنوب العراق، وتلك التي خرجت من مملكة ماري على الضفة الغربية لنهر الفرات، في طرف الجهة الشرقية من سوريا.

نشأت مستوطنة مليحة في القرن الثالث قبل الميلاد، وازدهرت على مدى ستة قرون من الزمن، والأرجح أن هذه النقوش المصنوعة من عرق اللؤلؤ جاءت من الخارج، كما توحي فرادة أسلوبها في محيطها. صُنعت هذه القطع الفنية على الأرجح في ناحية من نواحي الشرق الأوسط الأوسع، شكّلت فنونها التصويرية استمرارية خلّاقة للتقاليد التي تأسست قديماً في زمن السومريين. وتحديد هويّة هذه الناحية يظلّ افتراضياً، نظراً لتعدّد القراءات والاحتمالات التي تواجه الباحث في هذا الميدان الشائك.