جمع الخطب المجهولة لطه حسين

بعد أكثر من 50 سنة على رحيله

جمع الخطب المجهولة لطه حسين
TT

جمع الخطب المجهولة لطه حسين

جمع الخطب المجهولة لطه حسين

بعد أكثر من نصف قرن على رحيله، وعشرات الكتب والدراسات التي تناولت أعماله، ما زال إرث طه حسين الثقافي وإنتاجه المتنوع موضع بحث وتنقيب وإعادة اكتشاف، فقد صدر حديثاً عن دار إشراقة بالقاهرة، كتاب «خطب طه حسين المجهولة» للروائي المصري سامح الجباس، الذي تجشم عناء جمع وتصنيف هذه الخطب الشفاهية التي ألقاها عميد الأدب العربي في فعاليات ثقافية مختلفة، ونشرها في كتاب لأول مرة. كان العميد ضيفاً دائماً في كثير من المناسبات الثقافية والسياسية، وألقى فيها خطباً لا تقل جمالاً أو أهمية عن مقالاته المنشورة.

لم تجمع هذه الخطب في كتاب أثناء حياته، ولم يهتم أحد ممن كتبوا عنه طوال السنين الماضية بالبحث عنها، أو ربما لا يعرف أحد بوجودها، وهو ما يشي بحجم المجهود الذي بذله الجباس في جمع هذه الخطب المجهولة بعد زمن طويل من إلقائها. وفي مقدمته للكتاب يقول الجباس: «وأقرّ أنني لاقيت صعوبات كثيرة، وعوائق متعددة، فأن تبحث في عام 2025 عن خطبة ألقاها الدكتور طه حسين منذ 97 عاماً، مثل خطبته في تأبين السياسي عبد الخالق ثروت عام 1928، فإنك تقوم بمهمة عالم الآثار الذي يبحث عن مقابر فرعونية مجهولة المكان وسط صحراء لا حدود لها، ولكن قيمة الهدف الذي أسعى إليه، وقيمة إعادة الحياة لهذه الخطب كان يستحق ما بذلته من مجهود وتعب للحصول عليها».

يضم الكتاب 20 خطبة، مع تقديم نبذة سريعة عن المناسبة التي ألقيت فيها، وسياقها، وتاريخها ومكان إلقائها، ثم نصّ الخطبة، يعقبها تعقيب كتبه الجباس مدوناً عدداً من الملاحظات عن الخطبة وأهميتها. أما موضوعات تلك الخطب فتتنوع ما بين السياسي والثقافي، وأثار فيها الدكتور طه حسين موضوعات ساخنة وسابقة لزمنها، وتناول كثيراً من القضايا التي لا تزال حاضرة حتى الآن، مثل الصعوبات التي تواجه الأدباء وتصيبهم باليأس، وأهمية الشعر، ومكانة اللغة العربية، وضرورة تبسيطها، مستشرفاً الخطر القادم على اللغة العربية ومستقبلها، محذراً من هوان اللغة العربية على الناس.

ينقسم الكتاب إلى 3 أقسام؛ الأول يضم الخطب التي ألقاها في محافل ثقافية داخل مصر، وهذا القسم يتكون من 13 خطبة، منها خطاب العميد إلى وزير المعارف العمومية محمد حسنين هيكل باشا، سنة 1938، بشأن الدعوة لتيسير النحو وإصلاح الكتابة مع النهضة الحديثة. كما يضم كلمته في جلسة افتتاح مؤتمر مجمع اللغة العربية الذي انعقد في صباح السبت 4 يناير (كانون الثاني) 1948، وكانت بعنوان «فن من الشعر يتطور بأعين الناس». وكذا الخطبة التي ألقاها في حفل مجمع اللغة العربية في 26 يناير عام 1950، لاستقبال الكاتب محمود تيمور، بعد صدور المرسوم الملكي بتعيينه عضواً، وكان العميد آنذاك وزيراً للمعارف إلى جانب عضويته بالمجمع. كما يضم خطابه في الجلسة العلنية التي عقدها المجمع في 8 مايو (أيار) 1954 لاستقبال الزميل الجديد محمد توفيق دياب.

ويضم هذا القسم أيضاً كلمته التي ألقاها بصفته الرسمية وزيراً للمعارف، في الخميس 22 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1951 بمناسبة احتفال الوزارة بحصول زعيم إيران محمد مصدق على الدكتوراه الفخرية في القانون من جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حالياً، وكانت الوزارة تشرف عليها آنذاك). وكذلك كلمته التي ألقاها في الاتحاد الثقافي في يناير 1953، وكانت بعنوان «جناية العصر الحديث على الأديب»، وهي الكلمة نفسها التي سبق أن ألقاها في مؤتمر الفنانين الذي انعقد في البندقية بإيطاليا تحت رعاية اليونسكو سنة 1952، ثم عندما عاد إلى مصر أعاد إلقاءها مختصرة في نادي الاتحاد الأدبي، حسبما يوضح الجباس في تعقيبه عليها. وضمن هذا القسم أيضاً كلمته في الدورة الثالثة من مؤتمر الأدباء العرب الذي انعقد في القاهرة في الفترة من 9 إلى 15 ديسمبر (كانون الأول) 1957، بعنوان «الأدب والقومية العربية». وهناك أيضاً كلمته في مؤتمر تضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية، الذي انعقد في القاهرة في الفترة من 26 ديسمبر 1957 إلى الأول من يناير 1958.

ومن الخطب الطريفة في هذا القسم خطبته في الجلسة التي عقدها مجمع اللغة العربية في 17 مايو 1954 لاستقبال الكاتب توفيق الحكيم، بمناسبة تعيينه عضواً عاملاً في المجمع، وفيها يقول مخاطباً الحكيم ومداعباً له: «أنت تتكلف من الخصال ما ليس فيك، أنت جوّاد وتزعم أنك بخيل، وأنت ماهر ماكر، ومداور ومناور، وتزعم مع ذلك أنك ساذج لا تفرق بين ما ينفع وما يضر. وأنت صاحب جد في حياتك، وصاحب جدٍ منتج، وقد ألقيت في روع الناس أنك لا تحسن إلا العبث والدعابة. وكذلك صورت نفسك للناس بصورة ليس بينها وبين الحق من أمرك صلة، فخير أسلوب يمكن أن يتبع في تقديمك إلى المجمع هو هذا الأسلوب الذي قدم به الجاحظ خصمه أحمد بن عبد الوهاب. ولكنك لست خصمي، فلأصطنع شيئاً من الجد الذي يليق بهذا المجمع».

أما القسم الثاني فيحوي الخطب التي ألقاها العميد في عدد من الدول العربية في مناسبات ثقافية مختلفة، ويبدأ بالخطاب الذي ألقاه بوصفه رئيس اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، في حفل الأساتذة المصريين بمكة في المملكة العربية السعودية في 15 يناير 1955، بحضور وزير المعارف السعودي -وقتها- الأمير فهد بن عبد العزيز (الملك فهد، فيما بعد). ويضم هذا القسم أيضاً محاضرته التي ألقاها في مؤتمر عنوانه «لمن يكتب الأديب... للخاصة أم للعامة؟»، الذي عقدته كلية المقاصد الإسلامية ببيروت في عام 1955. كما يضم كلمته في افتتاح المؤتمر الأول للمجامع اللغوية العربية في دمشق، الذي انعقد في الفترة من 29 سبتمبر (أيلول) إلى 5 أكتوبر (تشرين الأول) 1956، بحضور الرئيس السوري آنذاك شكري القوتلي. إضافة إلى خطب أخرى ألقاها في لبنان وتونس.

القسم الثالث يخصصه الجباس لردود عميد الأدب العربي على القضايا الثقافية التي طرحتها عليه بعض المجلات والصحف، ضمن مجموعات من المفكرين استطلعت آراءهم في هذه القضايا، فكان يرد عليها ردوداً مكتوبة، أشبه بآراء في تحقيقات صحافية، ومنها ردّه على ما طرحته عليه مجلة الهلال عن موضوع بعنوان «نهضة الشرق العربي وموقفه إزاء المدنية الغربية»، وفي هذا الخطاب يشير إلى إفادة مصر وبلاد الشام من الحضارة الغربية، لكن بطريقتين مختلفتين، ويقول: «في العلم، يجب أن نندفع في الطريق العلمية الغربية اندفاعاً لا حدّ له إلا مقدرتنا الخاصة، لأن العلم قد أصبح غربياً خالصاً، وليس لنا فيه نصيب قومي. وعلى العكس من ذلك، في الفن والأدب والحياة الاجتماعية، فلنا فنوننا وآدابنا ونظامنا الاجتماعي. وواجبنا هو أن نحتفظ بشخصيتنا قوية واضحة في هذه الأشياء، وألا نقتبس من أدب الغرب وفنّه ونظامه الاجتماعي إلا ما يمكّن شخصيتنا من أن تنمو وتتطور وتحتفظ بما بينها وبين العالم المتحضر من الاتصال».


مقالات ذات صلة

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون 14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.