النساء العربيات ومعركة التحرر من قمع الخوارزميات

«تجمّع الباحثات اللبنانيات» يطرح أسئلة عن المرأة والرقمنة

النساء العربيات ومعركة التحرر من قمع الخوارزميات
TT

النساء العربيات ومعركة التحرر من قمع الخوارزميات

النساء العربيات ومعركة التحرر من قمع الخوارزميات

أسئلة طازجة يطرحها الكتاب الجديد الذي صدر عن «تجمع الباحثات اللبنانيات» حول أحوال النساء بعد الانقلابات الاقتصادية والسياسية التي يعيشها العالم، والأهم في ظل التحولات التكنولوجية الهائلة والسريعة. ويسأل الكتاب الذي يحمل عنوان «النساء العربيات والمرجعيات في ظل الرقمنة وفوضى المعلومات»، إن كانت هذه التطورات قد فتحت الباب للمرأة للخروج إلى آفاق أرحب، بالفعل، أم أن الفضاء الافتراضي الذي تديره مجموعات من المحتكرين، وتحركه المصالح، وضع النساء تحت وطأة قيود من نوع آخر، وأعاد تأطير نظرتهن إلى الحياة؟ كما يحاول الكتاب أن يكشف عن مدى استفادة النساء واقعياً من المستجدات التكنولوجية، وكيف أثّرت في حياتهن؟ وكيف تتموضع النساء في الفضاء الافتراضي؟

موضوع واسع وطموح، لكنَّ الباحثات واجهن التحدي وأقبلن على دراسات أنارت زوايا كانت لا تزال مظلمة، خصوصاً أن المساهَمات في الكتاب تأتي من جيلين مختلفين؛ جيل تعامل مع التكنولوجيا باكراً، وآخر انكبّ عليها متأخراً، مما يجعل الرؤية أكثر بانورامية.

في المحور الأول من الكتاب الذي قُسم إلى أربعة محاور، ست دراسات تحت عنوان «مساءلة النساء للمرجعيات وإغراءات الفضاء الرقمي». تستهلها نهوند القادري عيسى، بالتركيز على فهم مدى تعلق النساء بالمرجعيات التقليدية وانفتاحهن في الوقت عينه على الخبرات وشبكات علائقية جديدة، والموازنة الصعبة بين الاثنين، في مرحلة انتقالية، بحيث يصعب التنبؤ بما ستكون عليه حال الجيل الجديد، الذي بدأ يرتبط بشكل أوثق بالشاشة.

اعتمد بحث نهوند القادري عيسى على الاستماع إلى آراء وتجارب عينة من النساء لمعرفة كيف يستخدمن الفضاء الرقمي، ويتعاطين مع واقعهن وقيودهن الاجتماعية، وإلى أي درجة حقق لهن ذلك استقلالية حقيقية.

صحيح أن الفضاء الرقمي سهَّل على النساء الوصول إلى المعلومات، واكتساب خبرات جديدة، وتكوين شبكة علاقات تتخطى الحدود الجغرافية، لكن في الوقت نفسه، ولّد لديهن نوعاً من فقدان الثقة بالمعلومات، وتسبب بشيء من الإرباك. فالمعلومات المتدفقة والمتناقضة، جعلت النساء يتعاملن بحذر أحياناً، وحيرة في أحيان أخرى. ومنهن من تقع ضحية لوصفات جاهزة، أو أفكار متطرفة.

وبالتالي فنحن أمام أشكال جديدة للهيمنة الناعمة، وتشّكل مرجعيات جديدة كالمؤثرين والخبراء، ومدعي المعارف، ممن يمارسون سلطة بديلة عن السلطات التقليدية التي هي في طور التفكك.

وتُرينا الدراسات تفاعلاً تبادلياً بين العالمين الرقمي والواقعي. فسلوكيات النساء وخياراتهن في الفضاء الرقمي تتأثر بواقعهن الاجتماعي، والعكس بالعكس.

باختصار، يخلص هذا المحور إلى أن الفضاء الرقمي ليس أداة للتحرر، بل ساحة معقدة تمنح فرصاً، ولكنها تطرح في الوقت نفسه إشكاليات جديدة حول السلطة والثقة والهوية، مما يستدعي تعاملاً نقدياً وحذراً من النساء.

المنصات عزّزت حضور المرأة في الفضاء العموميّ، ومنحتها الأدوات الفعّالة للمطالبة بحقوقها، لكنها أسهمت أيضاً في إضعافها في الوقت ذاته. فهذه التكنولوجيا لم تغيِّر في طرق الحصول على الأخبار والمعلومات وطبيعتها فقط، بل غيّرت نمط المعيشة والعلاقة بين الأفراد، بالنسبة إلى نصر الدين لعياضي. بينما رأت رفيف صيداوي أن وصول النساء العربيات إلى المعلومات لم يؤدِّ بالضرورة إلى المعرفة المتمنَّاة، بسبب تنشئة ترسخت فيها قيم الجمال الأنثوي والشعور الزائف بالتمكين المتأتي من منطق الاستهلاك.

هكذا فإن آليات تشغيل الخوارزميات فرضت على النساء، اللواتي طمحن إلى الاستفادة من المعرفة الرقمية، والفرص التكنولوجية، نوعاً آخر من السيطرة، تمارسه عليهن الشركات الكبرى، التي حصرت المستخدمين في حلقات محددة، بحيث يبقى المستهلك يدور في فلك من يشاركه الأفكار، مما يعزز الانعزالية الفكرية، ويبعث على خفض مستوى التسامح وتقبُّل الآخر، ويعزز الانقسامات الاجتماعية والشعور بالكراهية، حسبما توصلت إليه بيسان طي.

على الضدّ من ذلك تجد تغريد السميري أن ثمة نماذج إيجابية، وأن المنصات الرقمية تسمح بالتفاعل بين الأجيال، مستدلَّةً بتجربة دلال أبو آمنة في برنامجها «مشوار ستّي»، الذي أعاد التواصل مع ذاكرة الجدات، وضخها بالحياة، عبر الفضاء الرقمي. ونرى بصحبة السميري كيف تتجوَّل النساء بين المدن والأحياء الفلسطينيّة، وتقام اللقاءات والحفلات بين الأهالي وهم يحتفلون بإحياء التقاليد الفنّية والاجتماعيّة، ويستمعون إلى قصص إنسانيّة، في محاولة لاستعادة ما مزَّقه الاحتلال، وربط المناطق بعضها ببعض. تكتب السميري: «هؤلاء الحفيدات استطعن عبر الفضاء الرقمي أن يُعِدن الاعتبار لمرجعيّة الجدّات وأن يُصَدّرن ذاكرتهن عن وطنهن المسلوب إلى العالم».

في المحور الثاني الذي يُعنى بـ«سلوك النساء المعلوماتي وأصواتهنّ في العالم الرقمي»، تعقد مود اسطفان مقارنةً بين الدراسات النسائيّة الأجنبيّة المعنيّة بالسلوك المعلوماتي، والدراسات العربية. وتبيَّن لها أن مقاربات الباحثات الأجنبيات جاءت تجديديّة خارج التقاليد الذكورية السائدة، ولها اهتمامات إنسانية وبالفئات الاجتماعية المهمشة، وهو ما تفتقر إليه دراسات الباحثات العربيّات حول السلوك المعلوماتي في البيئة الرقميّة. إذ ترينا اسطفان أن إسهامات النساء العربيات بقيت محدودة، وأغلبيّتها تبحث في مناطق تقليدية، وتتمحور حول استخدام مصادر المعلومات، لا سيَّما الشبكات الاجتماعيّة، والفوارق الجندريّة.

وتتساءل هاجر خنفير عن تمثلات الأنوثة التي تصنعها المؤثّرات العربيات في الفضاء الرقمي، وتَبيَّن لها أنّه على الرغم ممّا أتاحته لهن التكنولوجيا من تحرر من القيود بقي التغيير محدوداً والسمات التقليديّة للأنوثة ثابتة، تدور في دائرة الاستهلاك، الخاضع لمنطق الربح الذي فرضته الوصاية الرأسماليّة على تلك التقنيات. وإن كانت بعض التصورات النمطية عن الأنوثة انتقلت من كونها الموضوع لأن تصبح هي المنتج نفسه.

ومن خلال دراسة حالة 25 امرأة لبنانية على شبكات التواصل وبمعاينة المحتوى الذي يقدمنه، الذي قُسِّم إلى ثلاث فئات: محتوى المعلومة، ومحتوى الاستعراض الذاتي، ومحتوى الترويج للعلامات التجاريّة. وجدت لمى كحّال أن المعلومات المُستقاة من العلم والخبرة العملية التي تقدمها النساء على الشبكة هي الأمتن رغم اعتماد صانعاتها على صورتهن الشخصيّة. في حين أن المحتوى القائم على الاستعراض الذاتي يكرِّس النموذج النمطي حول جمال المرأة. أما ما يتحكم في محتوى الترويج، فهي الماركات التجاريّة. وتلحظ كحّال أنه رغم صعوبة الواقع اللبناني، ثمة غياب مدوٍّ للقضايا الكبرى عن المحتوى النسائي. وتخلص إلى أن صانعات المحتوى لا يلتفتن إلى الواقع وما يشوبه من حروب ولا حتّى إلى قضايا النساء ومشكلاتهنّ في لبنان. مما يعني أن هاجس الربح المادّي السريع هو أحد العوامل الرئيسية المُؤَثّرة بعملهن.

في حين تدرس دينا الخواجة حالة عشرين امرأة مصرية، وتتبع تفاعلهن مع حرب غزة، لتخلص إلى أن النساء ابتعدن عن التسييس، وتمكنَّ من تفادي الخسارة المادية ورقابة الخوارزميات، وتعاطين مع هذه الكارثة من منطلقات إنسانيّة ودينية، ووجدن أنفسهنّ أمام ضرورة تطوير أدوات تضامنهنّ، في ظل حرب الإبادة، لتجييش المشاعر، وجمع التبرعات، وحشد التأييد، من منطلقات دينية وإنسانية، بعيداً عن التسييس، متهرباتٍ من التضييق السياسي.

أما رانية جواد ومادلين الحلبي فتركَّز اهتمامهما على شهادات الفلسطينيات الحية، التي روينها من خلال شبكات التواصل. قصص روت عمق المعاناة اليوميّة. النساء الغزَّيات في رواياتهن تحايلن على سياسات المنع، وفي المساحة الممكنة من استخدام شبكة الإنترنت، سردن يومياتهن، مستغلات كلّ دقيقة إنترنت قبل أن يقرر الاحتلال عزلهن عن العالم. هكذا أصبحت شبكة الإنترنت مكاناً للحصول على الدعم النفسي ومصدراً لتبادل المعلومات والاطمئنان على الأقارب، وكذلك توثيق الارتكابات والمجازر التي تغيب عن وسائل الإعلام. خلصت الباحثتان إلى أن المنصّات صارت أداةً للتوثيق والمقاومة في وجه الإبادة والعنف الاستعماري، وفعل مواجهة.

«تحدِّيات تفلُّت النساء من المرجعيَّات في البيئة الرقميَّة» هو عنوان المحور الثالث، حيث ضاعفت التكنولوجيا مشكلةَ البطالة، وأحدثت شرخاً بين شرائح المجتمع، وباعدت بين المستجد والثقافة التقليديّة، وأعلت من شأن الفردانية، وطغت ثقافة الاستهلاك. عزّة سليمان تجد أن النساء ُفعّلنَ وجودهنّ من خلال أدوات الثورة الرقميّة، من جهة، لكنهن وجدن أنفسهنّ ضحايا لأدوات السوق، من جهة أخرى، مما حولهن إلى أدوات، أكثر من كونهن عنصراً فاعلاً.

وحول الاقتصاد الرقمي ودوره في التنمية، تطرح زهور كرّام، من المغرب، أسئلة حول إذا ما أمكن تحقيق التوازن بين استثمار التكنولوجيا والمحافظة على خصوصيات النسق المجتمعي المغربي، وتخلص كزميلاتها الباحثات في الكتاب إلى أن الرقميّة قد تسهم في دمقرطة فرص العمل للنساء، لكنها في الوقت عينه تطرح تحدّيات جديدة عليهن.

إصلاح جاد تحاول أن تفهم أسباب نجاح جهات دينية في تأليب الرأي العام على منظمات حقوق المرأة، وتحديداً تلك التي حاولت التسويق لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو). تعتمد الدراسة على مراجعة رسائل وسائل التواصل الاجتماعيّ للمشاركات في الترويج للاتفاقيّة وكذلك الرسائل المضادة لها التي شهَّرت بالاتفاقية، وحصدت التعاطف والتأييد.

ويخلص البحث إلى أن نجاح هؤلاء في التأثير في الرأي العام، يعود إلى تجاهل الوضع الخاص في فلسطين. إذ ركزت الاتفاقية بشدّة على حقوق المرأة والطفل، فيما تم تجاهل حقوق الشعب بأكمله، مما جعل الطرح غير مقنع.

ويُختم الكتاب بفصل رابع فيه شهادات حية لنساء تروين تجاربهن حول اهتزاز المرجعيات وانعدام اليقين عند النساء. النساء الغزَّيات تحايلن على سياسات المنع فسردن يومياتهن على الإنترنت قبل أن يعزلهن الاحتلال عن العالم


مقالات ذات صلة

«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

كتب «انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

بعد خمسة عشر عاماً من طرحه نظرية «صراع العواطف» في كتابه المؤثر «الجغرافيا السياسية للعواطف»، يعود دومينيك مويسي ليطلق حكماً قاطعاً في عمله الجديد.

ندى حطيط
كتب «سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

«سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

تطرح رواية «سقوط جنتلمان» للكاتب الأميركي هربرت كلايد لويس سؤالاً عن اختبار الإنسان حين يُنتزع فجأةً من سياقه، فيجد نفسه وجهاً لوجهٍ مع الفراغ

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب حكاياتٌ وعِبر عن «الذئب الحكيم»

حكاياتٌ وعِبر عن «الذئب الحكيم»

انطلاقاً من تلك المكانة المتميزة، التي تحظى بها الذئاب، في الوجدان الجمعي الإنساني بعامة، والعربي بخاصة، يقدم الكاتب والشاعر السوري محمد الحمصي مجموعة من القصص

«الشرق الأوسط» (عمّان)
ثقافة وفنون صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

إذا كان الاحتفاء بالجمال بوجوهه وتعبيراته المختلفة سمة مشتركة بين الشعوب والحضارات، فلم يكن العرب الأقدمون بعيدين عن هذا الاحتفاء أو بمنأى عنه.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون 3 شواهد قبور من مدافن البحرين الأثرية

3 شواهد قبور من مدافن البحرين الأثرية

خرجت من مقابر البحرين الأثرية خلال السنوات الأخيرة مجموعة كبيرة من الأنصاب، تتميّز بنقوش تصويرية آدمية.

محمود الزيباوي

فيلم إسرائيلي مرشح للأوسكار يثير تعاطفاً مع الفلسطينيين ويزعج الحكومة

خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)
خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)
TT

فيلم إسرائيلي مرشح للأوسكار يثير تعاطفاً مع الفلسطينيين ويزعج الحكومة

خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)
خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)

يأمل مخرج فيلم إسرائيلي مرشح لجوائز الأوسكار لعام 2026 ويجسد رحلة فتى فلسطيني يسعى لرؤية البحر أن يسهم العمل السينمائي في إيقاظ التعاطف داخل إسرائيل وسط العديد من الحروب.

وقليلاً ما بدت آفاق السلام الدائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين أكثر قتامة مما هي عليه الآن، وذلك بعد الهجوم الذي قادته حركة «حماس» الفلسطينية في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وحرب غزة التي استمرت عامين وتصاعد عنف المستوطنين في الضفة الغربية.

لكن المخرج والكاتب شاي كارميلي بولاك شعر بالارتياح بعد الترحاب الذي حظي به فيلمه «البحر» وبعد حصوله على أهم جائزة سينمائية في إسرائيل، ما أدى إلى ترشيحه تلقائياً للتنافس على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية، والتي سيجري إعلان الفائز بها في مارس (آذار) المقبل.

وقال كارميلي بولاك في مقابلة خلال الأسبوع الحالي عقب عرض الفيلم: «التقيت بالجمهور الذي حضر لمشاهدة الفيلم، أدهشني تعاطفهم وبكاؤهم في بعض الآحيان بسبب قصة الفيلم حيث وقعت أعمال عنف وفظائع في مكان ليس بعيداً عن هنا».

ويروي فيلم «البحر» قصة خالد، وهو فتى فلسطيني يقطن في الضفة الغربية المحتلة يخشى أن يكبر دون أن يرى البحر، فيخوض رحلة محفوفة بالمخاطر وحيداً ودون أوراق سفر إلى إسرائيل سعياً لبلوغ الشاطئ.

ومُنع خالد قبلها عند نقطة تفتيش من استكمال رحلة مدرسية متجهة إلى البحر، ويؤدي اختفاؤه المفاجئ من المنزل إلى مخاطرة والده، وهو عامل غير موثق في إسرائيل، بالتعرض للاعتقال من خلال بدء عملية البحث عنه.

ووفق وكالة «رويترز» للأنباء، حصل «البحر» على جائزة أفضل فيلم في حفل توزيع جوائز «أوفير» في سبتمبر (أيلول) الماضي، وهو أمر قوبل بتنديد وزير الثقافة ميكي زوهر، الذي سحب تمويلاً للحفل بسبب الصورة التي جسدها الفيلم للجيش الإسرائيلي.

بوستر فيلم «البحر»

وأصبحت حكومة إسرائيل منذ عام 2022 أكثر الحكومات يمينية في تاريخها، وتعارض بشدة قيام دولة فلسطينية وتتمسك بتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية.

«التعاطف والحب»

وأدى الهجوم الذي قادته «حماس» عام 2023 على إسرائيل، وأسفر عن مقتل أكثر من 1200 شخص، إلى تشدد مواقف كثير من الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين وجعل انتقاد الجيش مسألة أكثر حساسية.

وقال كارميلي بولاك وباهر إغبارية، وهو منتج إسرائيلي فلسطيني للفيلم، إن من المهم صنع أفلام تساعد الناس على سماع قصص بعضهم بعضاً.

وقال كارميلي بولاك لـ«رويترز»: «تنتابني حالة من الأمل أن يفتح الفيلم قنوات جديدة من التعاطف والحب، وأن يقدم سبلاً جديدة تمكننا من العيش معاً في هذا المكان».

وقال إغبارية إن عرض قصة فلسطينية في دور السينما الرئيسية في إسرائيل بدا أمراً مُدهشاً في ظل أجواء الحرب.

وأضاف: «بسبب ما يجري، فهذا هو الوقت المناسب أيضاً لهذا الفيلم... لهذا النوع من القصص، من أجل الإصغاء لقصص الآخرين».

وأُطلق الفيلم في دور السينما بإسرائيل في يوليو (تموز) ولا يزال يُعرض حتى الآن.

وفي حفل توزيع جوائز الأوسكار لعام 2025، أُعلن فوز الفيلم الإسرائيلي الفلسطيني «لا أرض أخرى» بجائزة أفضل فيلم وثائقي، ما أثار غضب الحكومة الإسرائيلية. ويتناول الفيلم قصة تهجير إسرائيل لمجتمع فلسطيني في الضفة الغربية.

وقال كارميلي بولاك، وهو ناشط معني بالسلام منذ فترة طويلة، إنه على الرغم من رغبة الحكومة في ألا يمثل إسرائيل، لكنه يشعر بالفخر كونه جزءاً من مجتمع صناع الأفلام الذين اختاروا تكريم «البحر».

وأضاف: «أمثل كل الشعوب، مثل الإسرائيليين والفلسطينيين، الذين يتطلعون إلى إحلال السلام والمساواة والعيش معاً بطريقة تختلف عن الطريقة التي تنتهجها هذه الحكومة».


صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي
TT

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

إذا كان الاحتفاء بالجمال بوجوهه وتعبيراته المختلفة سمة مشتركة بين الشعوب والحضارات، فلم يكن العرب الأقدمون بعيدين عن هذا الاحتفاء أو بمنأى عنه. لا بل إن ظروف حياتهم القاسية، واتساع المكان الصحراوي المفتقر إلى الماء، جعلاهم يرون في الجمال الأنثوي المياه الرمزية التي تعصمهم من العطش، والواحة الظليلة التي ترد عنهم وحشة المتاهات ووطأة الشموس الحارقة.

وفي ظل الشروط القاسية للحياة الصحراوية القائمة على الترحل وفقدان الأمان والصراع من أجل البقاء، كان من الصعب على الجاهلي أن يبتكر للجمال نماذجه وتصاميمه العليا، كما كان حال الحضارة اليونانية المدينية، بل بدا النموذج الجاهلي للجمال متصلاً بالمنفعة والحياة العملية، أكثر من اتصاله بمعايير الجسد المثالي والمتناغم الأجزاء.

وقد عكس الشعر الجاهلي في الكثير من نصوصه أشكال التضافر الخلاق بين الجغرافيا الصحراوية وجغرافيا الجسد، بما جعل من الثانية امتداداً الأولى، وإحدى تمثلاتها الحية التي تظهر في طرائق العيش وأنماطه، وفي البحث عن طريقة للتكيف مع البيئة القاسية والمفتقرة إلى الثبات. لذلك فإن مواصفات الصبر والجلد والقدرة على الاحتمال، لم تكن من الأمور التي ينبغي توفرها في الرجال وحدهم، أو في الأنعام بمفردها، بل كان مطلوباً من المرأة أيضاً أن تمتلك صفات مماثلة، تستطيع من خلالها أن تساعد الجماعة القبلية على مواجهة مخاطر العيش ومشقات الترحل وأهوال الحروب.

ولأن مثل هذه المهمات الصعبة لا تنهض بها إلا امرأة صلبة العود ومتينة الجسد، فقد بدا تفضيل الجاهليين للمرأة السمينة وتغزلهم بها، متصلاً بمعايير مركبة، يشكل الجمال البحت جزءاً منها، فيما يشكل العامل النفعي والوظيفي بعدها الآخر. وكان العرب يعتبرون أن «السُّمن نصف الحسن»، ويصفون السمينة بخرساء الأساور، لأن بدانتها تمتد إلى الرسغ فلا ترتطم إسوارة بالأخرى.

كما انتقلت عدوى التغزل بالمرأة السمينة إلى الشعر، فاعتبر طرفة بن العبد أن تعلقه بالحياة يجد مسوغاته في الارتباط بامرأة سمينة، يختلي بها في ظلمة «الخباء المعمد»، وتسهم في تقصير ليله المثقل بالوحشة والخوف. أما امرأة عمرو بن كلثوم فهي من الضخامة بحيث «يضيق الباب عنها». والملاحظ أن معظم المواد التعبيرية التي تم توظيفها للتغزل بجمال المرأة المعشوقة كانت منتزعة من العالم المشترك الذي يتضافر لإحيائه البشر والبهائم والطير ونباتات الصحراء. ومع أن ثمة وجوهاً عديدة للتقاطع بين البيئتين الحضرية والبدوية، من حيث الفضاء التخييلي، فإن النصوص التي قدمها الشعراء الحضريون، كانت أكثر جرأة في التركيز على التفاصيل المختلفة للجسد المشتهى.

لعل قصيدة «سقط النصيف» التي نظمها النابغة الذبياني في وصف المتجردة، زوجة النعمان بن المنذر، هي أحد أكثر النماذج الشعرية تعبيراً عن مواصفات الجمال في تلك الحقبة، فهي كالغصن الطويل تتأود من النعمة، وعيناها الشبيهتان بعيني الغزال جارحتا الألحاظ كالسهام، وشعرها أسود ومدلى كعناقيد العنب، وفمها بارد عذب، ونحرها الأملس مزين بقلائد الذهب. كما أنها «بضة الجسم، ريّا الروادف، وغير واسعة البطن».

على أن طغيان الطابع الحسي على النصوص الجاهلية المتعلقة بالحب والجمال لم يحل دون عثورنا على بعض اللقى الثمينة، التي تتقاطع في غرابتها وعمقها مع كشوفات علم النفس الحديث، كأن يعتبر الشنفرى أن الجمال في مآلاته القصوى، قد لا يتسبب بجنون عشاقه فحسب، بل بجنون حامله في الوقت ذاته، كما في قوله:

فدقّتْ وجلّتْ واسبكرّتْ وأكملتْ

فلو جُنَّ إنسانٌ من الحسن جُنّتِ

وإذا كانت معايير الجمال قد بدأت بالتبدل في العصرين الأموي والعباسي، بحيث باتت متصلة بالرشاقة وطول القوام، والتناسب أو التضاد بين أعضاء الجسد، كاستحسان ضمور الخصر واكتناز الأرداف، فقد كان ذلك التبدل من مفاعيل الحياة الجديدة والاجتماع المديني وتمازج الثقافات.

كما لم تعد معايير الجمال مقتصرة على المفاتن الظاهرة وحدها، بل كان يُراعى فيها الجاذبية وقوة الحضور والدماثة وخفة الظل، بحيث ميز العرب بين الجمال والملاحة والحسن والحلاوة والوسامة والبهاء وغيرها. وقد ذكر أبو الفرج في «الأغاني» أن كلاً من سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وهما من جميلات العرب، كانت تدعي أنها أجمل من الأخرى، وحين احتكمتا إلى عمر بن أبي ربيعة ليبت في الأمر، نظر إليهما ملياً وقال: «أنت يا عائشة أجمل، وأما سكينة فأملح». وإذ عنى عمر بالملاحة الرقة وخفة الروح، فقد أرضى المرأتين في الوقت ذاته.

وإذا كان في القصيدة «اليتيمة» المنسوبة إلى دوقلة المنبجي، ما يتناول الجسد الأنثوي بالوصف المفصل، فلأنه لم يكن باستطاعة المنبجي، الذي لم يكن قد رأى دعداً، أميرته الموعودة، إلا أن يرسم من عندياته تفاصيل النموذج الجمالي المثالي، مستعيناً بالتصورات الأولى التي رسمها الشعراء الجاهليون في مخيلاتهم. ومن بين أبياتها قوله:

فكأنها وسْنى إذا نظرتْ أو مدْنفٌ لمّا يفقْ بعدُ

وتُجيلُ مسواكَ الأراك على ثغرٍ كأنّ رضابهُ الشهدُ

ولها بنانٌ لو أردتَ لهُ عِقْداً بكفكَ أمكن العقدُ

وبخصرها هَيَفٌ يحسّنها فإذا تنوء يكاد ينقدُّ

اللافت أن من سمُّوا بالشعراء الإباحيين في العصر الأموي، لم يعمدوا إلى تناول الجمال الأنثوي على نحو سافر ومتهتك، لا بل إن ما تغزلوا به من ملامح المرأة ومفاتنها لا يتجاوز إلا قليلاً نطاق عمل العذريين ومجالهم الجمالي الحيوي كوصف الثغر والعنق والعينين والشعر والخصر. وقد تكون الفوارق بين الفريقين متمثلة في إلحاح الإباحيين على نقل وقائع غزواتهم العاطفية بتفصيلاتها وحواراتها الساخنة، إضافة إلى تبرمهم بالعلاقة الواحدة وبحثهم عن الجمال في غير نموذج ومثال، وهو ما يعكسه قول عمر:

إني امرؤ موكلٌ بالحسن أتبعهُ

لا حظَّ لي فيه إلا لذة النظرِ

كان من الصعب على الجاهلي أن يبتكر للجمال نماذجه وتصاميمه العليا كما كان حال الحضارة اليونانية المدينية

الأرجح أن مناخات الحرمان والكبت وتعذر الامتلاك قد أسهمت في مضاعفة سلطة الجمال الأنثوي على العاشق العذري، بما جعل الأخير يترنح مصعوقاً تحت ضرباته القاصمة. وقد ورد في غير مصدر تراثي أنه «قيل لامرأة من بني عذرة: لماذا يقتلكم العشق؟ فأجابت: فينا جمال وتعفف، والجمال يحملنا على العفاف، والعفاف يورثنا رقة القلوب، والعشق يُفني آجالنا، وإنا نرى عيوناً لا ترونها».

ولعل تلك العيون بالذات هي التي استطاع العشاق أن ينفذوا من خلالها إلى ما وراء الملامح الظاهرة لمعشوقاتهن، وتزين لهن نوعاً من الجمال مطابقاً للنموذج المثالي الذي ابتكرته مخيلاتهم. وليس أدل على ذلك من سؤال عبد الملك بن مروان لبثينة حين قامت بزيارته: ما الذي رآه فيك جميل حتى أحبك؟ فأجابته قائلة: «يا أمير المؤمنين، لقد كان يراني بعينين ليستا في رأسك». ومع أن الحادثة المذكورة تُروى على غير وجه، فإن ذلك الأمر لا يلغي دلالتها المتلخصة بأن الجمال نسبي وحمال أوجه، وخاضع لذوق الرائي ومشاعره وتهيؤاته.

ومع ما أصابته الحقبة العباسية من تطورات دراماتيكية على مستويات الثقافة والفكر والاجتماع، فقد بدأت الرؤية إلى الجمال تتعدى المتعة والانتشاء الحسي، لتتحول إلى أسئلة فلسفية معقدة تتصل بطبيعة الجمال ومصدره وأسباب سطوته على «ضحاياه». وهو ما يجد شاهده الأمثل في حيرة ابن الرومي إزاء جمال وحيد المغنية، وقوله متسائلاً:

أهي شيءٌ لا تسأم العين منه

أم لها كل ساعةٍ تجديدُ؟

أما أبو الطيب المتنبي فقد بدا لبيته الشهير في وصف امرأته المعشوقة (تناهى سكون الحسن في حركاتها/ فليس لرائي وجهها، لم يمت، عذرُ»، نوعاً من التوأمة الفريدة بين الحيّزين الشعري والفلسفي، حيث الحركات المتناغمة للجسد تصل بالجمال إلى سكونه المطلق، والمقيم على التخوم الفاصلة بين الحياة والموت. وإذ رأى أبو الطيب أن في الأعمار القصيرة للبشر الفانين، ما يوجب اغتنام الحياة كفرصة ثمينة للتمتع بجمال الوجود والوجوه، هتف بحبيبته، الممعنة في جمالها ونأيها على حد سواء:

زوّدينا من حسْن وجهكِ

ما دام فحسْنُ الوجوه حالٌ يحولُ

وصِلينا نصلْكِ في هذه الدنيا

فإنّ المقام فيها قليلُ


3 شواهد قبور من مدافن البحرين الأثرية

ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
TT

3 شواهد قبور من مدافن البحرين الأثرية

ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة

خرجت من مقابر البحرين الأثرية خلال السنوات الأخيرة مجموعة كبيرة من الأنصاب، تتميّز بنقوش تصويرية آدمية. لا نجد ما يماثل هذه الأنصاب في حواضر سواحل الخليج العربي إلى يومنا هذا، ويرى البحاثة أنها رُفعت في الأصل كشواهد للقبور التي رافقتها. بدأ اكتشاف هذه الشواهد في منتصف القرن الماضي، ومنها 3 قطع عُثر عليها في مواقع معزولة، دخلت متحف البحرين الوطني بالمنامة، ضمن مجموعة من المكتشفات التي تمّ العثور عليها خلال الفترة الممتدة من عام 1954 إلى عام 1974.

اختلفت الآراء في تصنيف هذه القطع كما في تحديد هويّتها ووظيفتها خلال تلك الفترة، غير أن الصورة اتّضحت بشكل كبير في مرحلة لاحقة، نتيجة ظهور عدد كبير من القطع المشابهة في سلسلة من المقابر الأثرية تقع اليوم في المحافظة الشمالية، كشفت عنها أعمال المسح والتنقيب المتواصلة في حقبة التسعينات. تحضر هذه القطع الثلاث في كتاب من إعداد مجموعة من البحاثة، صدر في عام 1989، وجاء على شكل كتالوغ حوى مجموعة مختارة من مجموعة محفوظات متحف البحرين الوطني، تعود إلى الحقب التي سبقت ظهور الإسلام. افترض البحاثة يومها أن هذه الأنصاب الآدمية قد تكون مسيحية، ورأوا أنها نُقشت بين القرنين الخامس والسادس للميلاد. ويتّضح في زمننا أن هذه الأنصاب هي شواهد قبور لا تمتّ إلى المسيحية بأي صلة، وهي من نتاج الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وقد تمّ نقشها بين القرنين الأول والثالث للميلاد.

تتفاوت هذه القطع في الحجم، وهي من الحجر الجيري، وأكبرها قطعة يبلغ طولها 41 سنتيمتراً، وعرضها 23.5 سنتيمتراً، وسماكتها 11 سنتيمتراً، وتمثّل قامة تنتصب بين عمودين يعلوهما قوس. العمودان مجردان من الزينة، ويكلّل كلّاً منهما تاج زُيّن بنقش على شكل حرف «إكس». أما القوس، فتعلوه 3 حزوز متوازية تأخذ شكل 3 أقواس ناتئة، يفصل بين كلّ منها شقّ غائر. وسط هذه المشكاة المتواضعة، تقف قامة آدمية تتبع في بنيتها تكويناً يبتعد عن محاكاة المثال الواقعي الحي. الرأس ضخم للغاية، والكتفان صغيرتان، والجسد قصير، وهو مكوّن من الصدر وأعلى الساقين فحسب. اللباس بسيط، قوامه معطف يلتفّ فوق رداء، وفقاً للزي اليوناني التقليدي. الوجه أنثوي، ويعلوه شريط يغلف الشعر على شكل حجاب. العينان لوزتان كبيرتان، فارغتان، وتخلوان من البؤبؤ. الأنف قصير، وهو على شكل عمود مستطيل بسيط ناتئ. الثغر منمنم، ويتّسم بشق أفقي يفصل بين شفتيه الذائبتين في كتلة الحجر الجيري.

تحجب ثنايا المعطف هذه القامة، وتنسدل بشكل متناسق من الأعلى إلى الأسفل. تنسلّ اليد اليمنى من خلف هذا الرداء، وترتفع كفّها المنبسطة نحو أعلى الصدر، وتظهر أصابعها الخمس المرصوصة والمتلاصقة. في حركة موازية، تخرج اليد اليسرى، وتبدو أصابعها قابضة على حزمة تشكّل كما يبدو طرف المعطف الأيسر. تتتبع هذه الحركة في الواقع تقليداً ثابتاً، يتكرّر في عدد كبير من القامات الأنثوية التي خرجت من مدافن تايلوس الأثرية التي عُرفت بأسماء القرى المجاورة لها، وأبرزها الشاخورة، وأبو صيبع، والحجر.

يظهر هذا التأليف على قطعة أخرى من هذه القطع الثلاث، مع اختلاف جليّ في التفاصيل. يبلغ طول هذا الشاهد 32 سنتيمتراً، وعرضه 21 سنتيمتراً، وسمكه 9 سنتيمترات. وهو على شكل كوّة نصف بيضاوية يحدّها في الأسفل شريط عريض يشكّل جزءاً من إطارها المجرّد من أي نقش تزييني. تقف قامة وسط هذا المحراب في وضعية المواجهة الثابتة، باسطة كفّها اليمنى أمام أعلى صدرها، ممسكة بقبضة يدها اليسرى طرف ردائها. نتوء هذه القامة طفيف، وصورتها أشبه برسم منقوش غابت عنه خصائص النحت البارز. يأخذ هذا الرداء شكل عباءة تلتف حول الهامة، وتتكوّن ثناياه من أربع مساحات مستطيلة متوازية، تقابلها ثلاث مساحات عمودية أصغر حجماً تزيّن طرف العباءة الأيسر. الوجه مهشّم للأسف، وما بقي منه لا يسمح بتحديد ملامحه. حافظت اليدان على تكوينهما بشكل كامل، وأصابعهما محدّدة وفقاً للأسلوب التحويري المتّبع.

نصل إلى القطعة الثالثة، هي أجمل هذه القطع من حيث التنفيذ المتقن، وتتميّز برهافة كبيرة في النقش والصقل. يبلغ طول هذا الشاهد 24 سنتيمتراً، وعرضه 10 سنتيمترات، وسماكته 7 سنتيمترات، يحدّه عمودان يعلوهما القوس التقليدي. يزيّن هذا القوس شق في الوسط، ويزيّن كلاً من العمودين مكعّب محدّد بشريطين يشكّل تاجاً له، ويقابل هذا التاج مكعّب مماثل يشكّل قاعدة لهذا العمود. تحتل القامة وسط هذا المحراب، وتمثّل شاباً فتياً أمرد يحضر كذلك في وضعية المواجهة. الرأس كتلة بيضاوية، وملامح وجهه واضحة. العينان لوزيتان مجرّدتان، يعلوهما حاجبان عريضان مقوّسان. الأنف ناتئ ومستقيم، وهيكله على شكل مساحة مستطيلة مجرّدة غابت عنها فتحتَا المَنْخِر. الأذنان ضخمتان، وقوام كل منهما صيوان عريض يلتف حول جوف القناة. الخدان مكتنزان، الذقن مقوّس، والجبين قصير، يعلوه شعر حدّدت خصلاته على شكل فصوص مستطيلة مرصوصة. الذراعان ملتصقتان بالصدر، واللباس بسيط، قوامه جلباب بسيط، يعلوه حزام عريض ينعقد حول الوسط على شكل شريط أفقي عريض يتدلّى منه شريطان عموديّان متوازيان، يشكّلان طرفي الحزام المعقود.

يقف هذا الفتى محدّقاً في الأفق، باسطاً راحة يده اليمنى عند أعلى صدره، قابضاً بيده اليسرى على شريط عريض يتدلّى من أعلى كتفه إلى وسطه، وفقاً لنموذج تقليدي يُعرف بالفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية الفرثية التي امتدت من الروافد الشمالية للفرات إلى شرق إيران، وتميّزت بنتاجها الفني الذي جمع بين أساليب متعددة في قالب خاص، انتشر انتشاراً واسعاً في القرون الميلادية الأولى. بلغ هذا الأسلوب تايلوس، وطبع هذا الفن الجنائزي، كما تشهد هذه القطع الثلاث التي تمثّل اليوم نتاجاً واسعاً، يتواصل ظهور شواهده مع استمرار حملات المسح في المواقع الأثرية التي خرجت منها.