نزار قباني شاعر الرغبات المترامية والأنوثة المستحيلة

نزوعه إلى الحرية آزرته ظروف أسرية وتحولات اجتماعية ملائمة

نزار قباني (أ.ف.ب)
نزار قباني (أ.ف.ب)
TT

نزار قباني شاعر الرغبات المترامية والأنوثة المستحيلة

نزار قباني (أ.ف.ب)
نزار قباني (أ.ف.ب)

يصعب على المرء، أكان ناقداً متمرساً للشعر أم متذوقاً له، أن يقارب موضوع الحب في الشعر العربي الحديث دون التوقف ملياً عند التجربة الثرية لنزار قباني. ذلك أن أحداً من الشعراء العرب منذ عمر بن أبي ربيعة لم يجعل من المرأة والعشق هاجسه المحوري، ويفرد لهما عشرات الأعمال الشعرية والنثرية ويحوّل الشعر إلى حصالة هائلة للنشوة الحسية والثمل بالجمال الأنثوي كما فعل صاحب «قصائد متوحشة» و«أشعار خارجة عن القانون».

وإذا كان نزار وليد التحالف الوثيق بين موهبته العالية والتحولات السياسية والاجتماعية التي أحاطت بنشأته، فقد كان للأسرة المتنورة التي خرج من بين ظهرانيها أبو خليل القباني رائد المسرح العربي أبلغ الأثر في دفع تلك الموهبة بعيداً إلى الأمام. وإذ وصف الشاعر تلك الأسرة بالقول «إن الحب يولد مع أطفالها كما يولد السكّر في التفاحة، وبأن أفرادها ينصبون سرادق عشقهم على تخوم الموت»، لا تفوته الإشارة إلى أن حادثة انتحار أخته وصال بسبب عجزها عن الاقتران بالشخص الذي أغرمت به كان لها الأثر الأكبر في تعميق إحساسه بالظلم اللاحق بالمرأة، وفي رفده بأسباب النقمة والتمرد والدعوة إلى الحرية.

إلا أن جرأة نزار المفرطة في مقاربة موضوعات الحب والشغف بالمرأة لم تكن توازيها - في أعماله الأولى - جرأة مماثلة في هدم الأشكال القديمة، ودفع التجربة الشعرية بعيداً في مجال التجديد الأسلوبي والرؤيوي. صحيح أننا نجد أنفسنا إزاء قصيدة رشيقة اللغة والقوام ومتخففة من النسق الأسلوبي الفحولي، ولكن الشاعر لم يخرج حينها من عباءة التجارب النهضوية السابقة لكل من إلياس أبو شبكة وصلاح لبكي والأخطل الصغير وسعيد عقل وآخرين.

أما المرأة في تلك الأعمال فقد تم تظهيرها على صورة أعضاء منتزعة من سياقها، و«قطع غيار» مختلفة تم تجميعها في معمل الرغبات الفائرة كما يتبدى جلياً في قصائد من مثل «فم» و«الشفة» و«الضفائر السود» و«خصر» و«أنامل» وغيرها. كما أن احتفاء الشاعر بها لم يقتصر على جسدها فحسب، بل تعدى ذلك إلى إكسسواراته ومتعلقاته من ثياب وأدوات زينة وعطور وأسرّة ووسائد. وهو ما يرى فيه رولان بارت محاولة رمزية لملامسة المعشوق الغائب عبر ملامسة مقتنياته وهداياه والأشياء التي يقع بصره عليها.

لكن الأمور لم تستقر طويلاً على هذا النحو، إذ إن مغامرة نزار الشعرية بدأت تؤتي ثمارها في أعمال لاحقة، مثل «قصائد» و«الرسم بالكلمات» و«أحبك أحبك والبقية تأتي» وغيرها. ورغم أن الجانب الجسدي والشهواني لم يغب عن أعمال الشاعر فإن رؤيته للأنوثة اتسعت دائرتها لتتلمس وجوهها من خلال حالات إنسانية أوسع أفقاً وأعمق غوراً. وحيث راح نزار يتحدث بلسان المرأة، فقد أراد التأكيد على أن كل إبداع حقيقي هو سباحة في المياه الإنسانية المشتركة التي تتخطى الهوية الجندرية والفواصل التقليدية بين الجنسيين.

وفي مواءمة واضحة بين الشعر والحب يلحّ نزار على أن قصائد الشعراء ينبغي أن تكتب بالأعصاب لا بالأفكار، وتُتناول بالحواس لا بالبراهين الفلسفية، وعلى أنه ينحاز لجدول الحب لا لجدول الضرب. وهو يشير في قصيدة له إلى أنه لا يتعاطى التفكير بل الشعر، وإلى أن الحب حالة انجذاب إلى الآخر تقتلها التفاسير والشروحات. والشعر الحقيقي عنده ليس نتاج الأفكار التي يتم نقلها من «ثلاجة» العقل البارد إلى الورق، بل هو ثمرة التضافر الخلاق بين توهج القلب وجماليات التعبير، وبين بروق التخييل وملموسية الصور، كما في قوله:

حين أحببتكِ لاحظتُ بأن الكرز الأحمر في بستاننا

أصبح جمراً مستديرا

وبأن السمك الخائف من صنارة الأولاد

يأتي بالملايين ليلقي في شواطينا البذورا

حين أحببتك لاحظتُ بأن القمر الهارب من بلدتنا

جاء يستأجر بيتاً وسريرا

وإذا كان هناك من أخذ على نزار زهوه الشهرياري الطاووسي، أو وقوعه في المباشرة والسرد التقريري، أو تناوله الجسد الأنثوي بوصفه وليمة آهلة بالثمار ومنتزعة عن سياقها العاطفي والإنساني، فإن هذه المآخذ على وجاهة بعضها، لا يمكن أن تحجب الوجوه الأكثر أهمية لواحدة من أكثر تجارب الحب العربي جرأة وفرادة. فهو أحد الشعراء القلائل الذين وسّعوا لغة الحب ومعجمها التعبيري، ودفعوا بالحرية إلى حدودها القصوى، وسبروا الروح الأنثوية في أغوارها النائية والملغزة.

أما من الناحية الفنية فقد بدت لغة الحب وصور المرأة المعشوقة عند نزار بعيدة عن التوليدات الذهنية المجردة، ومحتطبة من غابة الحواس الخمس التي تتبادل فيما بينها الأدوار، فيحل المسموع محل المرئي، والمشموم محل المتذوق والملموس. وهو ما تتكرر شواهده في استعارات من مثل «أنامل صوتكِ الزرقاء تمعن فيّ تمزيقا»، أو «ففي الظل يغدو لعطركِ صوتٌ»، أو «ويخضرُ في شفتيها الصدى». كما يبدو افتتان الشاعر بالمرأة افتتاناً باللغة نفسه كاشفاً عما بين الجسد الأنثوي وخطوط اللغة وحروفها من تناظر جمالي ودلالي، كمثل قوله:

تتحضر حين أحبكِ آلاف الكلماتْ

تتشكّل لغة أخرى،

تسرع أنفاس الساعاتْ

ترتاح حروف العطف وتحبل تاء التأنيثِ

وينبتُ قمحٌ ما بين الصفحاتْ

وخلافاً لمناخات العويل الرثائي الطلل، التي سادت الكثير من نصوص الحب العربي فإن قباني يودع نساءه الراحلات أو المرحَّلات بالقليل الأقل من المرارة والحسرة الدامعة، وقد يكون ذلك عائداً إلى تكوينه الشخصي وإقباله المتفائل على الحياة، ولأنه لا يجد الوقت الكافي للنحيب، وهو الذي لا يكاد يشيع امرأة إلى مثوى قصيدته حتى تداهمه غيرها على حين غرة. ولمّا كان الانتشاء بالجمال والاقتناص الأبيقوري للملذات جزءاً لا يتجزأ من فلسفة الشاعر ورؤيته إلى الوجود فقد انسحب ذلك الطرب الراقص بالعالم على نتاجه برمته، بحيث عمل - ما بوسعه - على ترشيق بحوره وأوزانه، وإبعاد قوافيه عن التعسف، ولغته عن التكلف وتقريب الشفوي من المكتوب، من المصداقية. بما أكسب حديثه عن اللغة الثالثة التي اجترحها لنصوصه الكثير من المصداقية.

وإذا كان التساؤل مشروعاً عما إذا كان نزار قد اختبر الحب الذي يصعق المرء ويزلزل كيانه، أم ظل أسير الافتتان العابر بنساء حياته اللواتي حوّلهن إلى مجرد «حصّالات» للكتابة، فقد تولى الشاعر الإجابة بنفسه حين كتب قائلاً: «أعترف أن النساء اللواتي أحدثن كسراً في زجاج حياتي لا يتجاوز عددهنّ أصابع اليد، أما الباقيات فلم يتركن سوى خدوش بسيطة على سطح جلدي».

اللافت أن الشاعر الذي رثى زوجته بلقيس بحرقة بالغة إثر رحيلها المأساوي، لم يستطع البقاء طويلاً في خانة الحزن الحدادي أو العزوف عن العشق. إذ لم تمض شهور قليلة على فاجعة بلقيس، حتى كان نزار يعاود مسيرته الطويلة مع النساء، متجولاً مع فاطمة في شوارع باريس ولندن، ومتشاطراً معها غرف الفنادق ونظرات الحب وصفير القطارات. لا بل إنه في مجموعته «الحب لا يقف على الضوء الأحمر» التي يكرسها لحب فاطمة، يخاطبها بالمعجم نفسه والتعابير إياها التي خاطب بها من سبقها ومن سيتبعها من نسائه المعشوقات. وكما كتب لغيرها «أشهد أن لا امرأة إلا أنتِ» كتب لها قائلاً: «فكأنك أنثايَ الأولى وكأني قبلكِ ما أحببت». وقد تكرر الأمر نفسه والقَسم إياه مع مايا ولوليتا وأوريانتيا وماريا وتمارا، وكثيرات غيرهن.

والأرجح أن النساء القليلات اللواتي خلبن لب الشاعر كنّ أولئك المتمنعات اللواتي دفعنه دفعاً إلى طاولة الكتابة. وأولئك اللواتي أدركن بذكائهن المفرط أن الرجل الدون جوان يحمل الكثير من طبائع الأطفال الذين يستميتون لاقتناء الدمى، حتى إذا تم لهم ذلك لم يتوانوا عن كسرها أو هجرها بدافع الملل. ولأن الإبداع في عمقه هو قرين المتمنع والمتخيل، لا المتاح والمتحقق، هتف نزار في قصيدته «النساء والمسافات» بالمرأة التي التصقت به حد الضجر:

اتركيني حتى أفكر فيكِ

وابعدي خطوتين كي أشتهيكِ

أنتِ في القرب تخسرين كثيراً

فاذهبي أنتش واتركي لي شكوكي

أنتِ أحلى تأكّدي أنت أحلى

حين في عالم الرؤى ألتقيكِ

إلا أن التفاوت المأساوي بين قلة الجسد وكثرة النساء، كما بين قصر الذراعين ولانهائية الرغبات، ما لبث أوهن من عزيمة نزار قباني المتعب من أحمال السنين، والباحث عن مستق لروحه الظامئة إلى حب حقيقي. حتى إذا أحس بأنه يدور في حلقة مفرغة، وبلغ به الدوار أقصاه فوق مسرح الأنوثة العبثي لم يتوان عن الاعتراف:

كرهتُ كتابة شعري على جسد الغانياتْ

أريد انتشال القصيدة من تحت أحذية العابراتْ

أريد عناقاً بلا مفرداتٍ وموتاً بلا مفرداتْ

أريد استعادة وجهي البريء كوجه الصلاةْ

أريد الرجوع إلى صدر أمي... أريد الحياةْ


مقالات ذات صلة

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ثقافة وفنون ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

قف أمام «الآنسة جولي» بحلّتها العربية الجديدة، حائراً من أين أبدأ في الكتابة عن هذه التراجيديا التي تعكس قساوة الواقع المعيش؟ مِن مؤلفها،

طالب عبد الأمير
ثقافة وفنون عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

أثير من جديد في الوسط الثقافي السعودي النقاش عن الفيلسوف عبد الله القصيمي، ودعوى «إلحاده ومروقه من الدين»، وأنه مفكر ماديّ،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون «وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

«وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

في روايته الجديدة «وكالة النجوم البيضاء» الصادرة أخيراً عن «دار الشروق» بالقاهرة، يتعامل الكاتب عمرو العادلي مع السينما على مستويين متوازيين؛

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

غالباً ما يقوم العمود الفقري للقصص على ثنائيات، أو ثنائي واحد. هذه المرة يأخذنا عبده وازن في روايته «الحياة ليست رواية» الصادرة عن «دار المتوسط»

سوسن الأبطح
ثقافة وفنون المأزق الشخصي في عباءة الهم السياسي العام

المأزق الشخصي في عباءة الهم السياسي العام

في رواية «إبحار بلا نهاية» للكاتب نعيم صبري، يمتزج المأزق الشخصي للأبطال بالهم السياسي العام، الذي يتصاعد مع أبرز الأحداث الشهيرة في تلك الفترة

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)

شهادات إبداعية... يقدّمها الفائزون بـ«جائزة سلطان العويس الثقافية»

الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
TT

شهادات إبداعية... يقدّمها الفائزون بـ«جائزة سلطان العويس الثقافية»

الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

ضمن احتفاليتها، بالفائزين بجائزتها في الدورة الـ19، نظمت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، في مقرها بدبي، جلسة حوارية للناقد المغربي حميد لحمداني عرض فيها لمفاهيم نقدية في نظرية الأدب ومتلقيه، بحضور عشرات الأدباء والمثقفين والإعلاميين العرب.

الندوة التي أدارها الدكتور أحمد المنصوري، تناولت «النظرية القصدية»، وتحدث خلالها الناقد المغربي عن الأدب بعدّه «جزءاً من أحلام اليقظة... فنحن نحلمُ كي نعزز وجودنا»، ولقيت تفاعلاً واسعاً من الحضور.

الناقد والأكاديمي والروائي المغربي الدكتور حميد لحمداني يتحدث عن مفاهيم نقدية في نظرية الأدب (الشرق الأوسط)

الناقد والأكاديمي والروائي المغربي الدكتور حميد لحمداني (1950)، قدّم عدة مؤلفات في النقد السردي، ويعدّ خبيراً في المناهج النقدية والدراسات السردية والترجمة، وأصدر في عام 1979 أول رواية له بعنوان: «دهاليز الحبس القديم».

وكانت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية قد أعلنت في مطلع يونيو (حزيران) الماضي عن الفائزين بالدورة التاسعة عشرة لعام 2025، وهم الشاعر العراقي حميد سعيد (الشعر)، والروائية العراقية إنعام كجه جي (القصة والرواية والمسرحية)، والناقد المغربي الدكتور حميد لحمداني (الدراسات الأدبية والنقدية)، والمؤرخ التونسي الدكتور عبد الجليل التميمي (الدراسات الإنسانية والمستقبلية).

وضمن البرنامج الثقافي، يقدّم الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، شهادات عن مسيرتهم الإبداعية، كما يوقعون كتبهم الصادرة حديثاً عن المؤسسة، وتُعرض لوحات بورتريه لكل فائز في المعرض الدائم بقاعة المعارض.

كما تنظم جلسة أدبية بعنوان «حياة في الكتابة» (مساء الأربعاء) تتحدث فيها الروائية العراقية إنعام كجه جي لجمهور معرض الشارقة للكتاب، في قاعة الفكر في مركز إكسبو الشارقة، وذلك في جلسة أدبية تديرها الروائية الإماراتية صالحة عبيد.

الدكتور علي جعفر العلاق يُغني الندوة بمداخلة نقدية في الجلسة الحوارية للناقد المغربي حميد لحمداني (الشرق الأوسط)

يذكر أن إنعام كجه جي كاتبة وروائية عراقية بارزة، تعمل مراسلة من باريس وكاتبة عمود في صحيفة «الشرق الأوسط»، وكاتبة مقال أسبوعي في مجلة «كل الأسرة» في الشارقة، ولها العديد من المؤلفات، بما في ذلك «لورنا، سنواتها مع جواد سليم»، و«المأساة العراقية بأقلام النساء»، و«سواقي القلوب»، و«الحفيدة الأميركية»، و«طشاري»، و«النبيذة»، و«صيف سويسري».

وعملاً بالتقاليد المتبعة في جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، تُصدر المؤسسة كتاباً لكل فائز أو تعيد طباعة أحد الكتب النافدة، حيث تمت طباعة مجموعة الأعمال الشعرية للشاعر حميد سعيد الفائز بجائزة الشعر، وكتاب «لورنا، سنواتها مع جواد سليم» للروائية إنعام كجه جي، التي فازت بجائزة القصة والرواية والمسرحية، وكتاب «النقد الأدبي المعاصر... واقع وآفاق» للناقد الدكتور حميد لحمداني، الذي فاز بجائزة الدراسات الأدبية، وكتاب «دراسات في التاريخ العثماني المغاربي خلال القرن السادس عشر» للمؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي، الذي فاز بجائزة الدراسات الإنسانية والمستقبلية.

وعلى هامش هذه الفعالية تُعرض لوحات بورتريه لكل فائز بريشة رسامين مرموقين، حيث رسم الفنان علي المعمار صورة الشاعر حميد سعيد، ورسم الفنان فواز أرناؤوط صورة الروائية إنعام كجه جي، ورسم الفنان محمد حسين صورة الناقد الدكتور حميد لحمداني، ورسم الفنان بابو رام شاندرا صورة المؤرخ الدكتور عبد الجليل التميمي.

وسيتم تكريم الفائزين بالجائزة (مساء الخميس) في فندق إنتركونتننتال، كما تقدم على هامش التكريم أوركسترا أكاديمية الفجيرة للفنون الجميلة حفلاً موسيقياً ساهراً يشارك فيه 45 مغنياً وعازفاً، يقدمون ألواناً من الموسيقى العربية الأصلية.

يذكر أن هذه الدورة من جائزة العويس الثقافية، تحتّل أهمية خاصة لكونها تتزامن مع مئوية الشاعر سلطان بن علي العويس، وتم فيها رفع قيمة الجائزة لكل فائز إلى 150 ألف دولار، كما تم خلال هذه السنة تنفيذ العديد من الفعاليات الثقافية المرتبطة باسم الشاعر الراحل سلطان بن علي العويس (1925 - 2000)، أبرزها حفل موسيقي ضخم للموسيقار محمد القحوم أقيم بدار أوبرا دبي، وكذلك الندوة الدولية التي أقيمت في العاصمة الفرنسية باريس، بالتعاون مع منظمة اليونيسكو بعنوان (سلطان العويس... رحلة الشعر... رحلة العطاء)، وطباعة كتب ومسكوكات تذكارية وطوابع بريدية وتنظيم حفلات موسيقية ومعارض تشكيلية وغيرها من الفعاليات التي ميزت عام 2025.

وتهدف جوائز العويس الثقافية إلى تكريم المبدعين الذين حصلوا عليها في مختلف الحقول الثقافية والعلمية، وتُسهم في تشجيع الإبداع والابتكار في العالم العربي، وتعزيز دور الثقافة في التنمية والتقدم.


ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ
TT

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

أقف أمام «الآنسة جولي» بحلّتها العربية الجديدة، حائراً من أين أبدأ في الكتابة عن هذه التراجيديا التي تعكس قساوة الواقع المعيش؟ مِن مؤلفها، شكسبير السويد يوهان أوغست ستريندبرغ، الكاتب والدرامي المتعدد المواهب، في المسرح والرواية والشعر والفن التشكيلي وغيرها، والمثير للجدل أيضاً؟ أم أبدأ من النص؟ من هذه المسرحية المشحونة بالمشاعر والصور والمثقلة بالصراعات الاجتماعية والنفسية في مجتمع أفرز «فئات جديدة عاشت فترتها الانتقالية بسرعة هستيرية، أكثر من سابقاتها»، كما كتب ستريندبرغ في مقدمته للمسرحية؟

أم أبدأ من عرض رؤاي حول هذا الحرث الخصب الذي بذل فيه المترجم جهوداً استثنائية، ليكون أكثر قرباً من نَفَس المؤلف في النص المترجم. أو على الأقل تحقيق النسبة الكبرى من نقل ما يُعرف بروح النص بمصداقية عالية وأمانة؟

نحن هنا أمام كتاب لا يبذل جهداً ليغري القارئ؛ فإنك بمجرد أن تمرِّر بصرك على جملته الأولى، أو لكي لا نبالغ القول، على سطره الأول، في المتن حتى تتولد عندك حالة من الشغف لمتابعة القراءة. وعندما تطالعك جملة «ليس الغرض من هذه التوطئة تقديم الكتاب إطلاقاً»، فلا بد من أن تصبح شغوفاً أكثر لمعرفة المزيد. فإذن لماذا هذه «التوطئة للكتاب من قبل المترجم»؟ ولمعرفة الجواب عن ذلك فلا بد لك من مواصلة القراءة. والمسألة هنا لا تتعلق بحب الاستطلاع فحسب، بل يستهويك الأسلوب وسريان مجرى العبارات المنتقاة وتناسقها، فتعرف من خلالها أن المترجم إبراهيم عبد الملك، وهو شاعر أيضاً، لم يكتفِ بنقل الكتاب من لغة إلى أخرى، بل قام بدراسة متأنية للنص المسرحي «الآنسة جولي»، وللمقدمة التي كتبها المؤلف ستريندبرغ، ببحث رصين ومراجعة جادة لبعض الجمل الصعبة في فهم ماهيتها وقصدية قائلها، المؤلف، وقف فيها عبد الملك على مفصليات النص الذي يحتاج إلى كثير من التفسير والدلالات، لأنه قديم، تجاوز عمره الآن مائة وثلاثين عاماً، وفيه كثير من العبارات التي تجبر المترجم على تقصيها وإظهارها بالشكل الذي يليق بمكانة اللغة العربية، وإنصافاً للمؤلف واحتراماً لذوق القارئ. وللدلالة على ذلك، يأخذ المترجم جملة من مقدمة المؤلف، وهي عبارة يتحدث فيها المؤلف أوغست ستريندبرغ عن تحولات مجتمع القرن الثامن عشر، من خلال مسرحيته «الآنسة جولي»، فيصفها بأنها من بقايا صنف النبلاء المحاربين القديم الذي يتنحى الآن «من أجل نبلاء العصب الجدد أو نبلاء العقل الكبار».

لو تُرِك الأمر هكذا، مجرد ترجمة، لما فهمنا أن هذه العبارة بمثابة أرجوحة فلسفية تتدلى منها أرجل اللغة التي استخدم فيها ستريندبرغ اللعب بالكلمات؛ خصوصاً في تلك الجزئية من الجناس بين كلمتي عقل «-hjärn» وصلب «-järn» بالسويدية، كلتاهما تنطق «يرنْ»، التي قصد بها «تورية وسخرية لاذعة»، كما يقول المترجم، الذي لم يتردد في البوح عن بعض الصعوبات التي شخصت أمامه أثناء ترجمة النص، خصوصاً فيما يتعلق بفهم مطبات قصدية العبارة المذكورة، التي ذللها إبراهيم من خلال البحث والتنقيب بعناد في بيئة النص وجذوره، حد اللجوء للاستعانة بصديق موثوق بقدرته الأدبية، ومن بيئة المؤلف ومنشئه الثقافي، لتوضيح الفكرة وما قصده سترينبرغ بـ«نبلاء العصب الجدد، أو نبلاء العقل الكبار»، ليجيبه الشاعر والناقد ماغنوس ويليام بأن ستريندبرغ كان في هذه الجزئية ساخراً، هازئاً من خصومه المثقفين، بل وحتى من المدافعين عن النساء منهم خاصةً. «ففي كلمة (عصب -nerv) إحالة مباشرة إلى ما هو (أنثوي)، لأن النساء، (في ذلك الزمان) انُتقدن لكونهن واهنات العصب ومتوترات، مرتكبات، وغير جديرات بالثقة، تبعاً لذلك. أما تعبير (نبلاء العقل)، وهو اصطلاح ابتدعه المؤلف نفسه لما فيه من تشابه صوتي باللغة السويدية، بين (Hjärn) عقل و(Järn) صُلب، حديد التي تعبر ضمنياً عن الرجولة (الحقيقية)، حسب ما تربت عليه طبقة النبلاء».

وهنا لا بد من التنويه إلى أن ما ذكرناه آنفاً من أن ستريندبرغ كان كاتباً مثيراً للجدل، قصدنا في جانب منه ازدواجية العلاقة مع للمرأة التي كانت مزيجاً من الحب والعنف في آن واحد، وقد أشيع عنه كرهه للنساء وهذا غير صحيح؛ فقد أحب ستريندبري امرأة وتزوج مرة أخرى. وقد انعكس ذلك من خلال أعماله الدرامية وقصصه وكتاباته المختلفة، وشكَّل فيه هذه الازدواجية؛ في إحساسه بالزمن، وثنائية الأنا والآخر، والخير والشر، وغيرها من المتضادات التي جاءت نتيجة لفقدانه المكان والإحساس بالواقع الاجتماعي المرّ الذي عاشه وجعله يترك دراسته الجامعية احتجاجاً على طريقة التدريس، بعدما رفضت الأكاديمية الملكية عرض مسرحية «الأسطة أولوف». وقد ألف ستريندبرغ روايته التي تحمل نفس العنوان عام 1879، وضمّنها حياة النخبة المثقفة من المجتمع السويدي، في تلك الفترة، فاضحاً فيها الظواهر السلبية السائدة في المجتمع، كالبيروقراطية وبيئة الكنيسة النتنة.

لكن روايته اللاحقة التي سماها «الغرفة الحمراء» اعتبرها نقاد الأدب الرواية الواقعية الأولي في تاريخ الأدب السويدي.

ومن مجمل نتاجاته الإبداعية التي تجاوزت الخمسين عملاً ألقت حياة ستريندبرغ بتحولاتها المريرة نفسها ظلالاً على الأحداث والتحولات الاجتماعية التي كان شاهداً عليها، منذ صدور روايته الأولى «الأسطة أولوف» 1879، وانتهاء بـ«الآنسة جولي» التي صدرت في عام 1890، والتي صور فيها واقع المجتمع والتناقضات والصراعات الحادة بين طبقات المجتمع الجديدة المتنامية، والتي تتقد فيها الرغبة لكسر القيود والتقاليد البالية.

وقد نقل لنا المترجم إبراهيم عبد الملك هذه الأحاسيس وتلك المكنونات الراقدة في جذور تربتها بطريقة حافظت على روحيتها وألقها.

هذه ليست الترجمة الوحيدة لمسرحية «الآنسة جولي» إلى العربية، لكنها الأولى التي جاءتنا مباشرة من نصها الأصلي، دون أن تمرّ بمسالك وسيطة قد يتعلق بأردانها بعض غبار اللغات المترجم من خلالها، رغم أن المباشرة لا تعطي صكاً لضمان مصداقية الترجمة وأمانتها؛ فثمة تراجم مهمة نُقلت عبر لغات بسيطة وأدَّت مهمتها، غير أن هذه الأعمال نادرة جداً. وبالمقابل هنالك ترجمات نقلت النص من لغته الأم إلى العربية بصورة مباشرة، لكنها تعثرت في دروب الترجمة الحرفية والترادف أو التماثل، لكنه من دون شك؛ فالنص المترجم من لغته الأصلية مباشرة، يحمل دلالات، لنسمِّها مجازاً المصداقية.

مشكلات الترجمة عديدة ومتنوعة تبدأ من الاختلافات الثقافية واللغوية، التي تتطلب من المترجم معرفتها، بالإضافة إلى بنية الجُمل واختيار العبارات المناسبة، ولا تنتهي بفك طُلّسم المفاهيم والمصطلحات الغامضة في النص. إن ترجمة الكلمات والعبارات بصورة حرفية يؤدي ذلك إلى نص ركيك، أو غير مفهوم. وهذا يخص الترجمة بشكل عام، لكن للترجمة الأدبية استحقاقتها؛ فالمطلوب، وإضافة إلى ما تقدَّم، نقل الروح الجمالية للنص المترجم إليه. وهذه مسألة صعبة، لأن الأدب يشكل مزيجاً من الأساليب والثقافات والتاريخ. وعدم قدرة المترجم الأدبي على اختيار المفردة المناسبة سيوقعه في خطأ نقل المعنى. ومن هنا يحتاج مترجم الأدب إلى مهارات إبداعية في التعامل مع النصوص. وهذا الأمر أساسي لما بات يعرف بأمانة الترجمة أو دقة الترجمة.

وواحد من أهم الأسباب التي أدَّت إلى ضعف الترجمات السابقة لمسرحية «الآنسة جولي»، هي أنها تُرجمت عبر لغات أخرى وسيطة، عن الإنجليزية أو الفرنسية، تحديداً ولم تترجم من السويدية مباشرة. وهذا الأمر دفع إبراهيم عبد الملك إلى ترجمتها من نصها الأصلي، كما كتبه المؤلف الصادر في عام 1888. وهذه مسافة زمنية طويلة نسبياً محاولاً بذلك «إعادة شيء من حق المؤلف المستلب».

كما يرى مشيراً إلى أن تلك «الترجمات، بما في ذلك الترجمة الإنجليزية، استهانت بالمؤلف يوهان ستريندبرغ، حد الانتقاص والتشويه»، كما يقول في مقدمته لترجمة الكتاب. ويوجز هذا الطرح في عدد من النقاط التي تتعلق بإشكاليات هذه الترجمات.

فيبدأ باسم المؤلف. إن اسمه «ستريندبرغ»، وليس ستراندبرغ، كما جاء في التراجم السابقة. والمسرحية عنوانها «الآنسة جولي»، وليس الآنسة جوليا. فـ«جولي» هو اسم «الشخصية» الرئيسية في المسرحية، ويأتي اسمها هكذا باللفظة الفرنسية، حيث كانت الطبقة الأرستقراطية في السويد تحاكي مظاهر الأبهة الفرنسية، بالملبس والمشرب وفي لفظ الكلمات، وفي تبني الطبقات الأرستقراطية في القرن التاسع عشر بعضاً منها. كما هو الحال في بلدان أوروبية كثيرة أخذت هذا المنحى. ولهذا السبب أبقى المترجم بعض الكلمات والعبارات التي تنطق بها الآنسة جولي بالفرنسية، كما جاء بها النص الأصلي.

النقطة الأخرى التي يثيرها المترجم هي تصنيف هذه الدراما ضمن تيار «الحركة الطبيعية»؛ إذ تعكس نمو وتطور هذه الحركة والمدرسة التي برزت في المسرح والأدب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بهدف محاكاة الواقع بدقة متناهية وخلق وهم بالحياة كما هي.

من خلال تصوير الطبقات الدنيا في المجتمع وتحدياتها، مركزين على العوامل البيئية والوراثية التي تُشكّل مصير الشخصيات، مع تجنُّب التكلّف والتصنّع في الأداء التمثيلي لخلق شخصيات طبيعية قدر الإمكان. وكان من أبرز فرسانها الفرنسي إميل زولا والنرويجي هنريك ابسن والروسي قسطنطين ستانيسلافسكي. وبهذا السياق، يشير المؤلف بأنه «لا يؤمن بالشخصيات المسرحية البسيطة».

أما أحكام المؤلف التلخيصية على البشر، فإنها لحمقاء، وإنها لغاشمة، وإنها لبخيلة... إلخ، واستهجانها لزام على الطبيعيين الذين يدركون مدى غنى نسيج النفس البشرية ويشعرون بأن للوِزر وجهاً آخر أشبه ما يكون بالطّهر، حسب ستريندبرغ.

ملمح آخر جدير بالاهتمام هو ورود عبارة «الطحّان»، في النص الأصلي، في حوار بين بطلي المسرحية يقول فيه جان لجولي «ضعي الطحان في الكيس»، ملمحاً إلى الحكاية المشهورة في السويد «حكاية ابنة الطحان»، ويقصد بها تذكير جولي بأن جدها كان طحاناً، ومن باب المغايرة؛ إذ إن العبرة من هذه الحكاية ما يقال بالترجمة الحرفية عن السويدية: «الصمت أفضل من سيئ الكلام». ولأن ترجمة التلميح إلى اللغة تفتقر إلى العبرة منها في هذا السياق، يتدخل هنا المترجم ليعتمد المثل القائل: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»، ويحل هذا الإشكال بعبارة «أكرميني بذَهَبِ سِكوتك».

في هذه الإثارة لتحليل العمل الدرامي المُترجم يوغل إبراهيم عبد الملك، في صلب الفكرة التي أراد لها المؤلف أن ترافق المسرحية؛ فنحن أمام نص مترجم، لمسرحية تجسدت فيها جميع الدلالات اللغوية والحسية ومذاقات الذائقة وإيقاعات المشاعر، بجميع تجلياتها وانحداراتها، وعنفوانها الذي جال بأرواح مهشمة وصولاً إلى نهايتها الدموية. لقد كان نوعاً من التحدي المغامرة في ترجمة هذه المسرحية الشكسبيرية بامتياز، كما وصفها المخرج العراقي جواد الأسدي، حين جاء إلى السويد خصيصاً لإخراجها، في نهاية القرن الماضي، وتحديداً في عام 1998، لجمهورها السويدي ولكن بنكهة عربية، تركت انطباعاً رائعاً لدى رواد المسرح.


عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي
TT

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

أثير من جديد في الوسط الثقافي السعودي النقاش عن الفيلسوف عبد الله القصيمي، ودعوى «إلحاده ومروقه من الدين»، وأنه مفكر ماديّ، وهو موضوع تكرّر في حياته وبعد موته بعقود. ولا غرابة أن يستعاد فهو من رسم المعالم والحدود لشخصيات شريحة ليست صغيرة من المثقفين السعوديين والعرب، وكثيرون تأثروا به، وإن خالفوه في موضوع الإيمان. منذ بداية قراءتي له مررت بالدهشة ذاتها التي تعتري كل من يقترب من نصوصه لأول مرة، تلك الدهشة التي تثيرها عباراته العارية من التوقير وصوره المدوية التي تزلزل المألوف. غير أنّ هذه الدهشة سرعان ما تحوّلت إلى سؤالٍ يصعب تجاهله: إذا كان القصيمي قد أنكر الله، فلماذا ظلّ مشغولاً به حتى آخر كتبه؟ ولماذا لم يغادر هذا الموضوع إلى غيره؟ ألا يكفي كتابٌ أو اثنان أو ثلاثة للسرد الوافي بالدعوى؟

تكاد مؤلفات القصيمي جميعاً تدور حول موضوع الإله، بينما الماديون لا يفعلون هذا.

ومع ذلك لم يكن موضوع الإيمان قضيته الوحيدة، فقد حذّر من الإرهاب القادم، وفضح دعاوى القومية الكاذبة في «العرب ظاهرة صوتية»، وانتقد الانغلاق الاجتماعي، وسخر من تقديس العادات حين تُقدَّم بديلاً عن التفكير، ودافع عن حرية الإنسان الفرد، كما كتب مبكراً عن المرأة بوصفها معيار تحضّر الأمم، وعن العقل العربي الذي يهرب من النقد ويخاف الحرية، وأرى أن كتاباته في هذا المضمار أكثر صدقاً مما كتبه عابد الجابري الذي بنى صرحاً ضخماً على أوهام.

لم يكن القصيمي فيلسوفاً مادّياً صارماً، وإن كانت المادية قد أخذت نصيبها منه في فترة. وقبلها كان ابن بيئةٍ دينيةٍ، شيخاً سلفياً يدافع عن السلفيين، غير أنّ ذاك الإيمان حمل في داخله ما يشبه البذرة الأولى للتمرّد؛ إذ لم يكن يكتب كما يكتب السلفيون، بل كان يدافع عنهم بعقل، والعقل هو منبع الشك. في نصوصه تتناوب النبرة بين تمجيد العقل وتكذيبه، بين تأليهه والشكّ فيه. يقول مرةً إن العقل هو الإله الذي لم يُعبد بعد، ثم يعود ليصفه بالوهم والعجز؛ لأنه خاضع للإرادة بحسب القصيمي (وشوبنهاور).

ما يعدونه تناقضاً لا يبدو نقصاً في منطقه بقدر ما هو وفاءٌ لتذبذبه الإنساني الطبيعي.

ثم جاءت مرحلة التحوّل الأولى مع كتاب «هذه هي الأغلال» (1946)، ولم يكن فيه بعيداً عن شخصية الإسلامي التنويري والداعية الحضاري، خلافاً لمن ظنوه لجهلهم، كتاباً في الإلحاد. كتاب «الأغلال»، دليل على مرحلةٍ وسيطة. وقد ندرج كتابه «العالم ليس عقلاً» ضمن كتبه الوسيطة. لكن هذا المسار لم يستمر طويلاً. فمع كتاب «العالم ليس عقلاً» بدأت مرحلة أخرى أكثر تذبذباً؛ ففي مقدمته ما زال القصيمي يعلن عن إيمانه بالله، لكن فيه تتسرّب نبرة الشكّ شيئاً فشيئاً، حتى يصبح الإيمان عنده فعلَ سؤالٍ لا فعلَ تسليم. وفي كتبه التالية «العرب ظاهرة صوتية» و«هذا الكون ما ضميره؟» تتصاعد لهجة الاحتجاج حتى تتحول إلى ما يشبه صراخ ألم، لا يشبه التنظير الآيديولوجي. وتظهر هناك العبارات الإلحادية الصريحة، وهي صرخات وجودية، لا أكثر.

لكي نوضح مقصودنا، سنقارنه بفويرباخ الذي نظّر للإلحاد وقدم بناءً متكاملاً يؤسس للفلسفة المادية حيث الطبيعة مصدر المعرفة. هذا التنظير أخذه ماركس ليؤسس للمادية الجدلية والمادية التاريخية معاً. القصيمي لم يقدم بناءً مماثلاً، ولم يكتب بلغة الماديين قط، بل بلغة الشعر والجرح الوجداني. هو لا ينفي الإله بقدر ما يثور على صورته القديمة. في أعماقه ظلّ الإيمان قائماً، لكنّه تبدّل شكلاً ولغة.

القصيمي نموذج للمؤمن الشكوكي، أو الإيمان الذي يعيش داخل السؤال لا خارجه. لا يفقد إيمانه، بل يتطهّر من يقينه الموروث ليبحث عن يقينٍ أصدق. يَعرف الله، لا من خلال السلطة أو الوراثة بل من خلال الحيرة نفسها. حالة فكرية مأزومة لإنسانٍ لم يعد قادراً على اليقين. لا يصدّق الخطاب القديم ولا يجد خطاباً جديداً يسكُن إليه. ولم يكن القصيمي متناقضاً، بل هكذا هو المؤمن الشكوكي، يعيش حياته كلها هكذا؛ حالة ثالثة.

المؤمن الشكوكي يعيش في منطقة رمادية لا يقدر فيها على الاستقرار في يقينٍ أو في نفيٍ كامل. لا يسعه أن يُغلق عينيه كما يفعل المطمئنّون إلى إيمانهم، ولا أن يشيح بوجهه كما يفعل المنكرون. إنه يرى النور والظلام معاً، ويتأرجح بينهما، ويدرك أنّ الشك ليس ضعفاً بل شكلٌ آخر من أشكال الإيمان. فالإيمان عنده تجربة مفتوحة لا تنتهي، يتقدّس فيها السؤال أكثر مما تتقدّس الإجابة. كل لحظة من حياته وكل فكرةٍ تمرّ بذهنه هي امتحانٌ لعقله وقلبه في آن. هو مؤمن لأن قلبه لا يطيق الجفاء، وشاكّ لأن عقله لا يقبل ما كان مزيّفاً. لا يعيش طمأنينة القديسين، بل قلق الباحث الذي يعرف أنّ الطريق إلى الله لا يُعبّد باليقين، بل بالحيرة التي تلد المعرفة. لذلك، يبدو المؤمن الشكوكي أقرب الناس إلى الصدق؛ لأنه لا يتزيّا بثوبٍ لا يليق به، ولا يدّعي ما لم يختبره، بل يظلّ واقفاً بين السماء والأرض، شاهداً على أنّ الروح لا تُشفى إلا بالسؤال.

هاجم القصيمي التصوف في بداياته. أما في كتبه الأخيرة، فنجد نغمة جديدة، نغمة قريبة من روح التصوف الفلسفي. لا يتحدث فيها عن الله كما يفعل المتصوفة، لكنه يشترك معهم في الاحتجاج على صمت الوجود، وفي الحنين إلى المطلق، وفي الشعور بالغربة والخذلان في العالم. بمعنى آخر، تحوّل عنده الموقف من عداءٍ للتصوف، أيام سلفيته، إلى تماسٍّ وجدانيّ معه من غير أن يعترف به أو أن ينتمي إليه.

* كاتب سعودي في كتابه