«بالحبر الطائر»... نساء يصارعن الاغتراب والمحو

بطلات عزة رشاد يعبرن «المتوسط» ويغرقن في الحياة

«بالحبر الطائر»... نساء يصارعن الاغتراب والمحو
TT

«بالحبر الطائر»... نساء يصارعن الاغتراب والمحو

«بالحبر الطائر»... نساء يصارعن الاغتراب والمحو

في روايتها الأحدث «بالحبر الطائر»، الصادرة عن دار «الكتب خان» في القاهرة، تقدم الروائية المصرية عزة رشاد أربع شخصيات نسائية رئيسة، هُن مركز الرواية، متتبعة مصائرهن ومآلاتهن، في رحلاتهن لإثبات الوجود، ومصارعة الإرث الذكوري المتجذر ثقافياً، يهربن منه إلى فضاءات أخرى بعيدة، لكنه يلاحقهن كقدرٍ محتوم لا فكاك منه، حتى بعد السفر وعبور البحر المتوسط إلى الفضاء الغربي، فلم يجدن الخلاص على الشاطئ الآخر، بل لاحقهن المصير نفسه، الإلغاء والمحو، وعدم الاعتراف بهن، إضافة إلى الاغتراب عن أنفسهن، وعن هوياتهن، فتضاعفت الأزمات والمآزق الوجودية التي تعانيها كلٌّ من النساء الأربعة.

نعيمة ونجوى ونادين ونسمة، أربع نساء في العقد السادس من العمر تقريباً، جمعتهن الصداقة في شبابهن أثناء الدراسة في جامعة الإسكندرية، وأطلقن على أنفسهن لقب فريق «الفور N»، على غرار اسم الفرقة الغنائية الشهيرة في نهايات القرن العشرين، ثم تفرقت بهن السبل، هاجرت نجوى إلى أميركا وتزوجت هناك رجلاً لبنانياً، وتزوجت نادين شاباً مصرياً سكندرياً وسافرا معاً إلى فرنسا، وسافرت نسمة إلى إنجلترا وتزوجت زيجتين فاشلتين. وحدها نعيمة التي ظلت في الإسكندرية، وتزوجت روائياً كان زميلهن في الجامعة، ولها مركز ثقل خاص في الرواية؛ فهي همزة الوصل بينهن، تحاول إعادة لمّ شمل صديقاتها عبر التواصل والحوار في «جروب» على «فيسبوك»، وتدعوهن للعودة إلى الإسكندرية في إجازة يقضينها معاً، يستعدن فيها ذكرياتهن في المدينة الكوزموبوليتانية، وأحلام الشباب التي كانت تملؤهن بالأمل قديماً.

تتأسس الرواية على تقنية تعدد الأصوات، ففي جروب «فيسبوك» - الفضاء الافتراضي الذي يجمعهن معاً - تحضر الأصوات كلها بشكل سطحي عبر جمل مقتضبة وعابرة، فتبدو كل واحدة منهن للثلاثة الأخريات وكأن حياتها تسير بشكل جيد، لكن الساردة تمنح كل شخصية فصلاً تحكي فيه عن نفسها بصوتها الخاص، عبر تقنية التداعي الحر، لتتكشف أزمة كل منهن، واختلاف المآلات بين ما كانت تصبو إليه في شبابها، وما تبدو عليه الآن لصديقاتها، وبين حقيقة حياتها وأزمتها الراهنة. ويتحول غناؤهن في الشباب إلى نحيب على مصائر لم تكن في الحسبان.

يجمع الشعور بالمحو والإلغاء الشخصيات الأربع، فكل شخصية منهن تعاني محواً ما، سواء في المجتمع المحيط، أم في محاولتها هي محو تاريخها وذكرياتها، وهذا ما يبدو منذ عتبة العنوان. تكتب نعيمة مذكراتها بحبر طائر، قابل للمحو بعد فترة، كي يتمكن ابنها وزوجها من قراءتها لو ماتت بغتة، ويعرفا ما عانته منهما، ومعهما، وإذا عاشت طويلاً تنمحي الكلمات والذكريات من تلقاء نفسها. إنها بهذا تضع ذاتها وتاريخها وأوجاعها على محك النسيان والتلاشي، كما تلاشت أحلامها، وكذا علاقتها بابنها وزوجها، وحتى علاقتها بالقطط التي تُربيها، مستعيضة بها عن التواصل مع عائلتها، فآخِر قطة لديها هربت وتركتها تعاني الوحدة. وفي النهاية تتلاشى نعيمة على مهل، على أثر حادث أدخلها غيبوبة طويلة، لتظل عالقة بين الحياة والموت، تماماً كما كانت وهي في كامل صحتها.

هذا التلاشي والمحو لا علاقة له بالمكان، ولا بوجود الشخصية في مصر، فصديقاتها المهاجرات واجهن المحو نفسه، وربما بدرجةٍ أكثر قسوة، إذ إن نجوى، أكثرهن جموحاً وانطلاقاً وتحرراً في مرحلة الشباب، تعاني محواً أشد وطأة في مانهاتن الأميركية، إذ تنمحي ذاكرتها، وتعاني نسيان اسمها وتاريخها وابنتها وزوجها، هذا النسيان الناتج عن صدمات نفسية حادة، بعد أن هربت ابنتها «نورا» من منزل الأسرة، وتتواتر أنباء أو توقعات عن انتمائها لـ«داعش»، ولم يكن هرب الابنة سوى نتيجة عدم قبول المجتمع الأميركي لهم بصفتهم أسرة عربية مسلمة، فالشاب الأميركي الذي أحبته رفض الزواج منها نزولاً على رغبة أمه التي لم تقبل أن يتزوج ابنها الأميركي فتاة من أصول عربية. هكذا شعرت نجوى بتهدم وتلاشي كل ما عاشت عمرها لأجله، تجذرها في مجتمع متحرر بدا وهماً غير حقيقي، وأنها ستظل مهاجرة عربية غير مرحَّب بها، وكذا تلاشت أسرتها بعد أن أفنت حياتها في تشييدها، فكانت المحصّلة أن تتلاشي ذاكرتها جراء هذه الصدمة.

نادين، التي انتقلت إلى باريس، وتفرغت لتربية ابنها وابنتيها، ولمساعدة زوجها أستاذ الجامعة في الارتقاء مهنياً، ومحت ذاتها وطموحها المهني تماماً، وعاشت أسيرة أفكار رجعية تحكم الجالية العربية المحيطة بها، فوجئت بأن ابنها أدمن المخدرات وهجر المنزل أيضاً، وطلب منها زوجها أن تعود بالابنتين إلى الإسكندرية؛ لإنقاذهما من مصير شقيقهما في مجتمع منفتح، وسيرسل لهم «مصروفاً» شهرياً، وسيظل هو في عاصمة النور يمارس مهنته وحريته، فشعرت بأن تاريخها وعطاءها كله يُمحى «في فرنسا، كنتُ أحسب وجودي معهم هام ومؤثر، لكنه امّحى في لحظة، كحبر طائر. وفي الإسكندرية، لن أفعل سوى الوقوف بالطابور، لأصرف قيمة الشيك».

الصديقة الرابعة في فريق «الفور N» هي نسمة، وُلدت بعيب خلقي في جيناتها، إذ كانت لديها كروموسوم X، دون كروموسوم ثان، لا X، ولا Y فتكون ذكراً، بل عالقة جينياً بين الجندريْن، ولم يأتها الطمث مطلقاً لتكتمل أنوثتها، رغم وجود أعضاء أنثوية، وهو ما يسمى متلازمة تيرنر، وظلت موضع اندهاش كل من يعرفها في مصر، وعندما هاجرت لتجد الدعم والتفهم لحالتها، لم تجد هناك سوى ما وجدته هنا؛ عدم التقبل، فضلاً عما تعانيه في إنجلترا من صعوبات الحياة، فاعتادت أن تمحو جسدها وتخفيه، قبل أن يخفيه المجتمع، ممارسة القمع الذاتي على نفسها «لا جسم لي... أمحوني داخل ثياب واسعة لا شكل لها، ولا شكل لي داخلها، ولا إحساس بكياني».

«بالحبر الطائر» ليس مجرد عنوان للرواية بل هو عنوان لعطاء النساء ووجودهن ونضالهن في الحياة، عنوان لما يبذلنه من أجل الأسرة والعالم، لكنه سرعان ما يتطاير، وسرعان ما يتعاطى معها الجميع، في الشرق والغرب على السواء، ككائن شفاف، غير مرئي، وعطاءاته ليست موضع اعتبار، وسرعان ما يجري محو هذه العطاءات، بل محو وإلغاء المرأة نفسها.


مقالات ذات صلة

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ثقافة وفنون ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

قف أمام «الآنسة جولي» بحلّتها العربية الجديدة، حائراً من أين أبدأ في الكتابة عن هذه التراجيديا التي تعكس قساوة الواقع المعيش؟ مِن مؤلفها،

طالب عبد الأمير
ثقافة وفنون عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

أثير من جديد في الوسط الثقافي السعودي النقاش عن الفيلسوف عبد الله القصيمي، ودعوى «إلحاده ومروقه من الدين»، وأنه مفكر ماديّ،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون «وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

«وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

في روايته الجديدة «وكالة النجوم البيضاء» الصادرة أخيراً عن «دار الشروق» بالقاهرة، يتعامل الكاتب عمرو العادلي مع السينما على مستويين متوازيين؛

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

عندما تصبح حكايات الكتب بدلاً عن ضائع

غالباً ما يقوم العمود الفقري للقصص على ثنائيات، أو ثنائي واحد. هذه المرة يأخذنا عبده وازن في روايته «الحياة ليست رواية» الصادرة عن «دار المتوسط»

سوسن الأبطح
ثقافة وفنون المأزق الشخصي في عباءة الهم السياسي العام

المأزق الشخصي في عباءة الهم السياسي العام

في رواية «إبحار بلا نهاية» للكاتب نعيم صبري، يمتزج المأزق الشخصي للأبطال بالهم السياسي العام، الذي يتصاعد مع أبرز الأحداث الشهيرة في تلك الفترة

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)

شهادات إبداعية... يقدّمها الفائزون بـ«جائزة سلطان العويس الثقافية»

الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
TT

شهادات إبداعية... يقدّمها الفائزون بـ«جائزة سلطان العويس الثقافية»

الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)
الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الدورة الـ19 (الشرق الأوسط)

ضمن احتفاليتها، بالفائزين بجائزتها في الدورة الـ19، نظمت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، في مقرها بدبي، جلسة حوارية للناقد المغربي حميد لحمداني عرض فيها لمفاهيم نقدية في نظرية الأدب ومتلقيه، بحضور عشرات الأدباء والمثقفين والإعلاميين العرب.

الندوة التي أدارها الدكتور أحمد المنصوري، تناولت «النظرية القصدية»، وتحدث خلالها الناقد المغربي عن الأدب بعدّه «جزءاً من أحلام اليقظة... فنحن نحلمُ كي نعزز وجودنا»، ولقيت تفاعلاً واسعاً من الحضور.

الناقد والأكاديمي والروائي المغربي الدكتور حميد لحمداني يتحدث عن مفاهيم نقدية في نظرية الأدب (الشرق الأوسط)

الناقد والأكاديمي والروائي المغربي الدكتور حميد لحمداني (1950)، قدّم عدة مؤلفات في النقد السردي، ويعدّ خبيراً في المناهج النقدية والدراسات السردية والترجمة، وأصدر في عام 1979 أول رواية له بعنوان: «دهاليز الحبس القديم».

وكانت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية قد أعلنت في مطلع يونيو (حزيران) الماضي عن الفائزين بالدورة التاسعة عشرة لعام 2025، وهم الشاعر العراقي حميد سعيد (الشعر)، والروائية العراقية إنعام كجه جي (القصة والرواية والمسرحية)، والناقد المغربي الدكتور حميد لحمداني (الدراسات الأدبية والنقدية)، والمؤرخ التونسي الدكتور عبد الجليل التميمي (الدراسات الإنسانية والمستقبلية).

وضمن البرنامج الثقافي، يقدّم الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، شهادات عن مسيرتهم الإبداعية، كما يوقعون كتبهم الصادرة حديثاً عن المؤسسة، وتُعرض لوحات بورتريه لكل فائز في المعرض الدائم بقاعة المعارض.

كما تنظم جلسة أدبية بعنوان «حياة في الكتابة» (مساء الأربعاء) تتحدث فيها الروائية العراقية إنعام كجه جي لجمهور معرض الشارقة للكتاب، في قاعة الفكر في مركز إكسبو الشارقة، وذلك في جلسة أدبية تديرها الروائية الإماراتية صالحة عبيد.

الدكتور علي جعفر العلاق يُغني الندوة بمداخلة نقدية في الجلسة الحوارية للناقد المغربي حميد لحمداني (الشرق الأوسط)

يذكر أن إنعام كجه جي كاتبة وروائية عراقية بارزة، تعمل مراسلة من باريس وكاتبة عمود في صحيفة «الشرق الأوسط»، وكاتبة مقال أسبوعي في مجلة «كل الأسرة» في الشارقة، ولها العديد من المؤلفات، بما في ذلك «لورنا، سنواتها مع جواد سليم»، و«المأساة العراقية بأقلام النساء»، و«سواقي القلوب»، و«الحفيدة الأميركية»، و«طشاري»، و«النبيذة»، و«صيف سويسري».

وعملاً بالتقاليد المتبعة في جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، تُصدر المؤسسة كتاباً لكل فائز أو تعيد طباعة أحد الكتب النافدة، حيث تمت طباعة مجموعة الأعمال الشعرية للشاعر حميد سعيد الفائز بجائزة الشعر، وكتاب «لورنا، سنواتها مع جواد سليم» للروائية إنعام كجه جي، التي فازت بجائزة القصة والرواية والمسرحية، وكتاب «النقد الأدبي المعاصر... واقع وآفاق» للناقد الدكتور حميد لحمداني، الذي فاز بجائزة الدراسات الأدبية، وكتاب «دراسات في التاريخ العثماني المغاربي خلال القرن السادس عشر» للمؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي، الذي فاز بجائزة الدراسات الإنسانية والمستقبلية.

وعلى هامش هذه الفعالية تُعرض لوحات بورتريه لكل فائز بريشة رسامين مرموقين، حيث رسم الفنان علي المعمار صورة الشاعر حميد سعيد، ورسم الفنان فواز أرناؤوط صورة الروائية إنعام كجه جي، ورسم الفنان محمد حسين صورة الناقد الدكتور حميد لحمداني، ورسم الفنان بابو رام شاندرا صورة المؤرخ الدكتور عبد الجليل التميمي.

وسيتم تكريم الفائزين بالجائزة (مساء الخميس) في فندق إنتركونتننتال، كما تقدم على هامش التكريم أوركسترا أكاديمية الفجيرة للفنون الجميلة حفلاً موسيقياً ساهراً يشارك فيه 45 مغنياً وعازفاً، يقدمون ألواناً من الموسيقى العربية الأصلية.

يذكر أن هذه الدورة من جائزة العويس الثقافية، تحتّل أهمية خاصة لكونها تتزامن مع مئوية الشاعر سلطان بن علي العويس، وتم فيها رفع قيمة الجائزة لكل فائز إلى 150 ألف دولار، كما تم خلال هذه السنة تنفيذ العديد من الفعاليات الثقافية المرتبطة باسم الشاعر الراحل سلطان بن علي العويس (1925 - 2000)، أبرزها حفل موسيقي ضخم للموسيقار محمد القحوم أقيم بدار أوبرا دبي، وكذلك الندوة الدولية التي أقيمت في العاصمة الفرنسية باريس، بالتعاون مع منظمة اليونيسكو بعنوان (سلطان العويس... رحلة الشعر... رحلة العطاء)، وطباعة كتب ومسكوكات تذكارية وطوابع بريدية وتنظيم حفلات موسيقية ومعارض تشكيلية وغيرها من الفعاليات التي ميزت عام 2025.

وتهدف جوائز العويس الثقافية إلى تكريم المبدعين الذين حصلوا عليها في مختلف الحقول الثقافية والعلمية، وتُسهم في تشجيع الإبداع والابتكار في العالم العربي، وتعزيز دور الثقافة في التنمية والتقدم.


ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ
TT

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

أقف أمام «الآنسة جولي» بحلّتها العربية الجديدة، حائراً من أين أبدأ في الكتابة عن هذه التراجيديا التي تعكس قساوة الواقع المعيش؟ مِن مؤلفها، شكسبير السويد يوهان أوغست ستريندبرغ، الكاتب والدرامي المتعدد المواهب، في المسرح والرواية والشعر والفن التشكيلي وغيرها، والمثير للجدل أيضاً؟ أم أبدأ من النص؟ من هذه المسرحية المشحونة بالمشاعر والصور والمثقلة بالصراعات الاجتماعية والنفسية في مجتمع أفرز «فئات جديدة عاشت فترتها الانتقالية بسرعة هستيرية، أكثر من سابقاتها»، كما كتب ستريندبرغ في مقدمته للمسرحية؟

أم أبدأ من عرض رؤاي حول هذا الحرث الخصب الذي بذل فيه المترجم جهوداً استثنائية، ليكون أكثر قرباً من نَفَس المؤلف في النص المترجم. أو على الأقل تحقيق النسبة الكبرى من نقل ما يُعرف بروح النص بمصداقية عالية وأمانة؟

نحن هنا أمام كتاب لا يبذل جهداً ليغري القارئ؛ فإنك بمجرد أن تمرِّر بصرك على جملته الأولى، أو لكي لا نبالغ القول، على سطره الأول، في المتن حتى تتولد عندك حالة من الشغف لمتابعة القراءة. وعندما تطالعك جملة «ليس الغرض من هذه التوطئة تقديم الكتاب إطلاقاً»، فلا بد من أن تصبح شغوفاً أكثر لمعرفة المزيد. فإذن لماذا هذه «التوطئة للكتاب من قبل المترجم»؟ ولمعرفة الجواب عن ذلك فلا بد لك من مواصلة القراءة. والمسألة هنا لا تتعلق بحب الاستطلاع فحسب، بل يستهويك الأسلوب وسريان مجرى العبارات المنتقاة وتناسقها، فتعرف من خلالها أن المترجم إبراهيم عبد الملك، وهو شاعر أيضاً، لم يكتفِ بنقل الكتاب من لغة إلى أخرى، بل قام بدراسة متأنية للنص المسرحي «الآنسة جولي»، وللمقدمة التي كتبها المؤلف ستريندبرغ، ببحث رصين ومراجعة جادة لبعض الجمل الصعبة في فهم ماهيتها وقصدية قائلها، المؤلف، وقف فيها عبد الملك على مفصليات النص الذي يحتاج إلى كثير من التفسير والدلالات، لأنه قديم، تجاوز عمره الآن مائة وثلاثين عاماً، وفيه كثير من العبارات التي تجبر المترجم على تقصيها وإظهارها بالشكل الذي يليق بمكانة اللغة العربية، وإنصافاً للمؤلف واحتراماً لذوق القارئ. وللدلالة على ذلك، يأخذ المترجم جملة من مقدمة المؤلف، وهي عبارة يتحدث فيها المؤلف أوغست ستريندبرغ عن تحولات مجتمع القرن الثامن عشر، من خلال مسرحيته «الآنسة جولي»، فيصفها بأنها من بقايا صنف النبلاء المحاربين القديم الذي يتنحى الآن «من أجل نبلاء العصب الجدد أو نبلاء العقل الكبار».

لو تُرِك الأمر هكذا، مجرد ترجمة، لما فهمنا أن هذه العبارة بمثابة أرجوحة فلسفية تتدلى منها أرجل اللغة التي استخدم فيها ستريندبرغ اللعب بالكلمات؛ خصوصاً في تلك الجزئية من الجناس بين كلمتي عقل «-hjärn» وصلب «-järn» بالسويدية، كلتاهما تنطق «يرنْ»، التي قصد بها «تورية وسخرية لاذعة»، كما يقول المترجم، الذي لم يتردد في البوح عن بعض الصعوبات التي شخصت أمامه أثناء ترجمة النص، خصوصاً فيما يتعلق بفهم مطبات قصدية العبارة المذكورة، التي ذللها إبراهيم من خلال البحث والتنقيب بعناد في بيئة النص وجذوره، حد اللجوء للاستعانة بصديق موثوق بقدرته الأدبية، ومن بيئة المؤلف ومنشئه الثقافي، لتوضيح الفكرة وما قصده سترينبرغ بـ«نبلاء العصب الجدد، أو نبلاء العقل الكبار»، ليجيبه الشاعر والناقد ماغنوس ويليام بأن ستريندبرغ كان في هذه الجزئية ساخراً، هازئاً من خصومه المثقفين، بل وحتى من المدافعين عن النساء منهم خاصةً. «ففي كلمة (عصب -nerv) إحالة مباشرة إلى ما هو (أنثوي)، لأن النساء، (في ذلك الزمان) انُتقدن لكونهن واهنات العصب ومتوترات، مرتكبات، وغير جديرات بالثقة، تبعاً لذلك. أما تعبير (نبلاء العقل)، وهو اصطلاح ابتدعه المؤلف نفسه لما فيه من تشابه صوتي باللغة السويدية، بين (Hjärn) عقل و(Järn) صُلب، حديد التي تعبر ضمنياً عن الرجولة (الحقيقية)، حسب ما تربت عليه طبقة النبلاء».

وهنا لا بد من التنويه إلى أن ما ذكرناه آنفاً من أن ستريندبرغ كان كاتباً مثيراً للجدل، قصدنا في جانب منه ازدواجية العلاقة مع للمرأة التي كانت مزيجاً من الحب والعنف في آن واحد، وقد أشيع عنه كرهه للنساء وهذا غير صحيح؛ فقد أحب ستريندبري امرأة وتزوج مرة أخرى. وقد انعكس ذلك من خلال أعماله الدرامية وقصصه وكتاباته المختلفة، وشكَّل فيه هذه الازدواجية؛ في إحساسه بالزمن، وثنائية الأنا والآخر، والخير والشر، وغيرها من المتضادات التي جاءت نتيجة لفقدانه المكان والإحساس بالواقع الاجتماعي المرّ الذي عاشه وجعله يترك دراسته الجامعية احتجاجاً على طريقة التدريس، بعدما رفضت الأكاديمية الملكية عرض مسرحية «الأسطة أولوف». وقد ألف ستريندبرغ روايته التي تحمل نفس العنوان عام 1879، وضمّنها حياة النخبة المثقفة من المجتمع السويدي، في تلك الفترة، فاضحاً فيها الظواهر السلبية السائدة في المجتمع، كالبيروقراطية وبيئة الكنيسة النتنة.

لكن روايته اللاحقة التي سماها «الغرفة الحمراء» اعتبرها نقاد الأدب الرواية الواقعية الأولي في تاريخ الأدب السويدي.

ومن مجمل نتاجاته الإبداعية التي تجاوزت الخمسين عملاً ألقت حياة ستريندبرغ بتحولاتها المريرة نفسها ظلالاً على الأحداث والتحولات الاجتماعية التي كان شاهداً عليها، منذ صدور روايته الأولى «الأسطة أولوف» 1879، وانتهاء بـ«الآنسة جولي» التي صدرت في عام 1890، والتي صور فيها واقع المجتمع والتناقضات والصراعات الحادة بين طبقات المجتمع الجديدة المتنامية، والتي تتقد فيها الرغبة لكسر القيود والتقاليد البالية.

وقد نقل لنا المترجم إبراهيم عبد الملك هذه الأحاسيس وتلك المكنونات الراقدة في جذور تربتها بطريقة حافظت على روحيتها وألقها.

هذه ليست الترجمة الوحيدة لمسرحية «الآنسة جولي» إلى العربية، لكنها الأولى التي جاءتنا مباشرة من نصها الأصلي، دون أن تمرّ بمسالك وسيطة قد يتعلق بأردانها بعض غبار اللغات المترجم من خلالها، رغم أن المباشرة لا تعطي صكاً لضمان مصداقية الترجمة وأمانتها؛ فثمة تراجم مهمة نُقلت عبر لغات بسيطة وأدَّت مهمتها، غير أن هذه الأعمال نادرة جداً. وبالمقابل هنالك ترجمات نقلت النص من لغته الأم إلى العربية بصورة مباشرة، لكنها تعثرت في دروب الترجمة الحرفية والترادف أو التماثل، لكنه من دون شك؛ فالنص المترجم من لغته الأصلية مباشرة، يحمل دلالات، لنسمِّها مجازاً المصداقية.

مشكلات الترجمة عديدة ومتنوعة تبدأ من الاختلافات الثقافية واللغوية، التي تتطلب من المترجم معرفتها، بالإضافة إلى بنية الجُمل واختيار العبارات المناسبة، ولا تنتهي بفك طُلّسم المفاهيم والمصطلحات الغامضة في النص. إن ترجمة الكلمات والعبارات بصورة حرفية يؤدي ذلك إلى نص ركيك، أو غير مفهوم. وهذا يخص الترجمة بشكل عام، لكن للترجمة الأدبية استحقاقتها؛ فالمطلوب، وإضافة إلى ما تقدَّم، نقل الروح الجمالية للنص المترجم إليه. وهذه مسألة صعبة، لأن الأدب يشكل مزيجاً من الأساليب والثقافات والتاريخ. وعدم قدرة المترجم الأدبي على اختيار المفردة المناسبة سيوقعه في خطأ نقل المعنى. ومن هنا يحتاج مترجم الأدب إلى مهارات إبداعية في التعامل مع النصوص. وهذا الأمر أساسي لما بات يعرف بأمانة الترجمة أو دقة الترجمة.

وواحد من أهم الأسباب التي أدَّت إلى ضعف الترجمات السابقة لمسرحية «الآنسة جولي»، هي أنها تُرجمت عبر لغات أخرى وسيطة، عن الإنجليزية أو الفرنسية، تحديداً ولم تترجم من السويدية مباشرة. وهذا الأمر دفع إبراهيم عبد الملك إلى ترجمتها من نصها الأصلي، كما كتبه المؤلف الصادر في عام 1888. وهذه مسافة زمنية طويلة نسبياً محاولاً بذلك «إعادة شيء من حق المؤلف المستلب».

كما يرى مشيراً إلى أن تلك «الترجمات، بما في ذلك الترجمة الإنجليزية، استهانت بالمؤلف يوهان ستريندبرغ، حد الانتقاص والتشويه»، كما يقول في مقدمته لترجمة الكتاب. ويوجز هذا الطرح في عدد من النقاط التي تتعلق بإشكاليات هذه الترجمات.

فيبدأ باسم المؤلف. إن اسمه «ستريندبرغ»، وليس ستراندبرغ، كما جاء في التراجم السابقة. والمسرحية عنوانها «الآنسة جولي»، وليس الآنسة جوليا. فـ«جولي» هو اسم «الشخصية» الرئيسية في المسرحية، ويأتي اسمها هكذا باللفظة الفرنسية، حيث كانت الطبقة الأرستقراطية في السويد تحاكي مظاهر الأبهة الفرنسية، بالملبس والمشرب وفي لفظ الكلمات، وفي تبني الطبقات الأرستقراطية في القرن التاسع عشر بعضاً منها. كما هو الحال في بلدان أوروبية كثيرة أخذت هذا المنحى. ولهذا السبب أبقى المترجم بعض الكلمات والعبارات التي تنطق بها الآنسة جولي بالفرنسية، كما جاء بها النص الأصلي.

النقطة الأخرى التي يثيرها المترجم هي تصنيف هذه الدراما ضمن تيار «الحركة الطبيعية»؛ إذ تعكس نمو وتطور هذه الحركة والمدرسة التي برزت في المسرح والأدب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بهدف محاكاة الواقع بدقة متناهية وخلق وهم بالحياة كما هي.

من خلال تصوير الطبقات الدنيا في المجتمع وتحدياتها، مركزين على العوامل البيئية والوراثية التي تُشكّل مصير الشخصيات، مع تجنُّب التكلّف والتصنّع في الأداء التمثيلي لخلق شخصيات طبيعية قدر الإمكان. وكان من أبرز فرسانها الفرنسي إميل زولا والنرويجي هنريك ابسن والروسي قسطنطين ستانيسلافسكي. وبهذا السياق، يشير المؤلف بأنه «لا يؤمن بالشخصيات المسرحية البسيطة».

أما أحكام المؤلف التلخيصية على البشر، فإنها لحمقاء، وإنها لغاشمة، وإنها لبخيلة... إلخ، واستهجانها لزام على الطبيعيين الذين يدركون مدى غنى نسيج النفس البشرية ويشعرون بأن للوِزر وجهاً آخر أشبه ما يكون بالطّهر، حسب ستريندبرغ.

ملمح آخر جدير بالاهتمام هو ورود عبارة «الطحّان»، في النص الأصلي، في حوار بين بطلي المسرحية يقول فيه جان لجولي «ضعي الطحان في الكيس»، ملمحاً إلى الحكاية المشهورة في السويد «حكاية ابنة الطحان»، ويقصد بها تذكير جولي بأن جدها كان طحاناً، ومن باب المغايرة؛ إذ إن العبرة من هذه الحكاية ما يقال بالترجمة الحرفية عن السويدية: «الصمت أفضل من سيئ الكلام». ولأن ترجمة التلميح إلى اللغة تفتقر إلى العبرة منها في هذا السياق، يتدخل هنا المترجم ليعتمد المثل القائل: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»، ويحل هذا الإشكال بعبارة «أكرميني بذَهَبِ سِكوتك».

في هذه الإثارة لتحليل العمل الدرامي المُترجم يوغل إبراهيم عبد الملك، في صلب الفكرة التي أراد لها المؤلف أن ترافق المسرحية؛ فنحن أمام نص مترجم، لمسرحية تجسدت فيها جميع الدلالات اللغوية والحسية ومذاقات الذائقة وإيقاعات المشاعر، بجميع تجلياتها وانحداراتها، وعنفوانها الذي جال بأرواح مهشمة وصولاً إلى نهايتها الدموية. لقد كان نوعاً من التحدي المغامرة في ترجمة هذه المسرحية الشكسبيرية بامتياز، كما وصفها المخرج العراقي جواد الأسدي، حين جاء إلى السويد خصيصاً لإخراجها، في نهاية القرن الماضي، وتحديداً في عام 1998، لجمهورها السويدي ولكن بنكهة عربية، تركت انطباعاً رائعاً لدى رواد المسرح.


عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي
TT

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

أثير من جديد في الوسط الثقافي السعودي النقاش عن الفيلسوف عبد الله القصيمي، ودعوى «إلحاده ومروقه من الدين»، وأنه مفكر ماديّ، وهو موضوع تكرّر في حياته وبعد موته بعقود. ولا غرابة أن يستعاد فهو من رسم المعالم والحدود لشخصيات شريحة ليست صغيرة من المثقفين السعوديين والعرب، وكثيرون تأثروا به، وإن خالفوه في موضوع الإيمان. منذ بداية قراءتي له مررت بالدهشة ذاتها التي تعتري كل من يقترب من نصوصه لأول مرة، تلك الدهشة التي تثيرها عباراته العارية من التوقير وصوره المدوية التي تزلزل المألوف. غير أنّ هذه الدهشة سرعان ما تحوّلت إلى سؤالٍ يصعب تجاهله: إذا كان القصيمي قد أنكر الله، فلماذا ظلّ مشغولاً به حتى آخر كتبه؟ ولماذا لم يغادر هذا الموضوع إلى غيره؟ ألا يكفي كتابٌ أو اثنان أو ثلاثة للسرد الوافي بالدعوى؟

تكاد مؤلفات القصيمي جميعاً تدور حول موضوع الإله، بينما الماديون لا يفعلون هذا.

ومع ذلك لم يكن موضوع الإيمان قضيته الوحيدة، فقد حذّر من الإرهاب القادم، وفضح دعاوى القومية الكاذبة في «العرب ظاهرة صوتية»، وانتقد الانغلاق الاجتماعي، وسخر من تقديس العادات حين تُقدَّم بديلاً عن التفكير، ودافع عن حرية الإنسان الفرد، كما كتب مبكراً عن المرأة بوصفها معيار تحضّر الأمم، وعن العقل العربي الذي يهرب من النقد ويخاف الحرية، وأرى أن كتاباته في هذا المضمار أكثر صدقاً مما كتبه عابد الجابري الذي بنى صرحاً ضخماً على أوهام.

لم يكن القصيمي فيلسوفاً مادّياً صارماً، وإن كانت المادية قد أخذت نصيبها منه في فترة. وقبلها كان ابن بيئةٍ دينيةٍ، شيخاً سلفياً يدافع عن السلفيين، غير أنّ ذاك الإيمان حمل في داخله ما يشبه البذرة الأولى للتمرّد؛ إذ لم يكن يكتب كما يكتب السلفيون، بل كان يدافع عنهم بعقل، والعقل هو منبع الشك. في نصوصه تتناوب النبرة بين تمجيد العقل وتكذيبه، بين تأليهه والشكّ فيه. يقول مرةً إن العقل هو الإله الذي لم يُعبد بعد، ثم يعود ليصفه بالوهم والعجز؛ لأنه خاضع للإرادة بحسب القصيمي (وشوبنهاور).

ما يعدونه تناقضاً لا يبدو نقصاً في منطقه بقدر ما هو وفاءٌ لتذبذبه الإنساني الطبيعي.

ثم جاءت مرحلة التحوّل الأولى مع كتاب «هذه هي الأغلال» (1946)، ولم يكن فيه بعيداً عن شخصية الإسلامي التنويري والداعية الحضاري، خلافاً لمن ظنوه لجهلهم، كتاباً في الإلحاد. كتاب «الأغلال»، دليل على مرحلةٍ وسيطة. وقد ندرج كتابه «العالم ليس عقلاً» ضمن كتبه الوسيطة. لكن هذا المسار لم يستمر طويلاً. فمع كتاب «العالم ليس عقلاً» بدأت مرحلة أخرى أكثر تذبذباً؛ ففي مقدمته ما زال القصيمي يعلن عن إيمانه بالله، لكن فيه تتسرّب نبرة الشكّ شيئاً فشيئاً، حتى يصبح الإيمان عنده فعلَ سؤالٍ لا فعلَ تسليم. وفي كتبه التالية «العرب ظاهرة صوتية» و«هذا الكون ما ضميره؟» تتصاعد لهجة الاحتجاج حتى تتحول إلى ما يشبه صراخ ألم، لا يشبه التنظير الآيديولوجي. وتظهر هناك العبارات الإلحادية الصريحة، وهي صرخات وجودية، لا أكثر.

لكي نوضح مقصودنا، سنقارنه بفويرباخ الذي نظّر للإلحاد وقدم بناءً متكاملاً يؤسس للفلسفة المادية حيث الطبيعة مصدر المعرفة. هذا التنظير أخذه ماركس ليؤسس للمادية الجدلية والمادية التاريخية معاً. القصيمي لم يقدم بناءً مماثلاً، ولم يكتب بلغة الماديين قط، بل بلغة الشعر والجرح الوجداني. هو لا ينفي الإله بقدر ما يثور على صورته القديمة. في أعماقه ظلّ الإيمان قائماً، لكنّه تبدّل شكلاً ولغة.

القصيمي نموذج للمؤمن الشكوكي، أو الإيمان الذي يعيش داخل السؤال لا خارجه. لا يفقد إيمانه، بل يتطهّر من يقينه الموروث ليبحث عن يقينٍ أصدق. يَعرف الله، لا من خلال السلطة أو الوراثة بل من خلال الحيرة نفسها. حالة فكرية مأزومة لإنسانٍ لم يعد قادراً على اليقين. لا يصدّق الخطاب القديم ولا يجد خطاباً جديداً يسكُن إليه. ولم يكن القصيمي متناقضاً، بل هكذا هو المؤمن الشكوكي، يعيش حياته كلها هكذا؛ حالة ثالثة.

المؤمن الشكوكي يعيش في منطقة رمادية لا يقدر فيها على الاستقرار في يقينٍ أو في نفيٍ كامل. لا يسعه أن يُغلق عينيه كما يفعل المطمئنّون إلى إيمانهم، ولا أن يشيح بوجهه كما يفعل المنكرون. إنه يرى النور والظلام معاً، ويتأرجح بينهما، ويدرك أنّ الشك ليس ضعفاً بل شكلٌ آخر من أشكال الإيمان. فالإيمان عنده تجربة مفتوحة لا تنتهي، يتقدّس فيها السؤال أكثر مما تتقدّس الإجابة. كل لحظة من حياته وكل فكرةٍ تمرّ بذهنه هي امتحانٌ لعقله وقلبه في آن. هو مؤمن لأن قلبه لا يطيق الجفاء، وشاكّ لأن عقله لا يقبل ما كان مزيّفاً. لا يعيش طمأنينة القديسين، بل قلق الباحث الذي يعرف أنّ الطريق إلى الله لا يُعبّد باليقين، بل بالحيرة التي تلد المعرفة. لذلك، يبدو المؤمن الشكوكي أقرب الناس إلى الصدق؛ لأنه لا يتزيّا بثوبٍ لا يليق به، ولا يدّعي ما لم يختبره، بل يظلّ واقفاً بين السماء والأرض، شاهداً على أنّ الروح لا تُشفى إلا بالسؤال.

هاجم القصيمي التصوف في بداياته. أما في كتبه الأخيرة، فنجد نغمة جديدة، نغمة قريبة من روح التصوف الفلسفي. لا يتحدث فيها عن الله كما يفعل المتصوفة، لكنه يشترك معهم في الاحتجاج على صمت الوجود، وفي الحنين إلى المطلق، وفي الشعور بالغربة والخذلان في العالم. بمعنى آخر، تحوّل عنده الموقف من عداءٍ للتصوف، أيام سلفيته، إلى تماسٍّ وجدانيّ معه من غير أن يعترف به أو أن ينتمي إليه.

* كاتب سعودي