هل يستطيع الأدب أن يحمل رسالة بدون أن يتحول إلى موعظة؟

«سيد الذباب» لويليام غولدنغ نموذجاً

مشهد من فيلم» سيد الذباب» المستوحى من رواية غولدنغ
مشهد من فيلم» سيد الذباب» المستوحى من رواية غولدنغ
TT

هل يستطيع الأدب أن يحمل رسالة بدون أن يتحول إلى موعظة؟

مشهد من فيلم» سيد الذباب» المستوحى من رواية غولدنغ
مشهد من فيلم» سيد الذباب» المستوحى من رواية غولدنغ

هل للأدب رسالة؟ سؤالٌ يبدو من فضول القول، فالأدب قول يخرج من خيال الأديب متجهاً إلى وعي المتلقي، وللقول معنى بذاته أو يحمّله إياه الأديب ويبحث عنه القارئ. لكن إن كان للأدب رسالة فهل معنى هذا أن الأديب واعظ يبشر بدعوة ما؟ أم هو فنان خالق ينفخ من روحه في صلصال ميت فإذا بالحياة تدب في عالم لم يكن له وجود من قبل؟ وإذا نزّهنا الأديب عن أن يكون واعظاً، هل يستطيع الأدب حمل رسالة دون أن يتحول إلى موعظة؟ هذه أسئلة دائماً ما شغلت المهتمين بالنقد والأدب من دون أن تُحسم بقول فصل.

وليام غولدنغ

من أدباء الإنجليز الذين يقفزون إلى الخاطر عند النظر في هذه القضية خصوصاً الروائي المعاصر ويليام غولدنغ (1911 - 1993) الحائز جائزة نوبل في الأدب سنة 1983. درس غولدنغ الأدب في جامعة أكسفورد وشارك في الحرب العالمية الثانية وكان ضابطاً في البحرية البريطانية، وشاهد من فظائع الحرب ما ترك في نفسه أثراً لم تمحه الأيام، وآمن بأن «الإنسان يفرز الشر كما تفرز النحلة العسل»، على حد قوله. بعد الحرب ترك الخدمة العسكرية وانخرط في الحياة المدنية مدرساً في مدرسة للأطفال، كما عكف على تأمل تجربته في الحرب وتجارب البشرية في تاريخها الطويل.

انتهى ولدنغ إلى أن الإنسان يُولد ومعه الاستعداد للشر. أن الشر يقطن في قلب الإنسان وليس شيئاً خارجاً عليه. إننا البشر مصدر الشر في الكون لكننا نحب أن نتعامى عن هذه الحقيقة، وأن نسقط ظلمتنا الباطنة على الآخرين، أو على قوى خفية غيبية هي من صنع خيالنا. هذه هي العلة في تشخيص الكاتب (الواعظ؟) فما هو العلاج في رأيه؟ معرفة الذات. من أراد الخلاص فليلتفت إلى داخله ويحدّق في ظلمة قلبه. فليُدِنْ نفسه قبل أن يدين الآخر. معرفة الذات هي بداية الصلاح.

هذه هي الرسالة أو «الموعظة» التي أراد جولدنغ أن يعظ بها البشر. لكن حيث إنه كاتب مبدع لا واعظ، وحيث إن الناس لا تستطيب الوعظ ولكن قد تستخلص العبرة من قصة حيّة آسرة، كان الطريق واضحاً أمام غولدنغ، ومن هنا وُلدت روايته الأولى «سيد الذباب» التي انقضى على نشرها الأول (1954) سبعون عاماً. نجحت الرواية نجاحاً باهراً حين اضطلعت بنشرها دار حصيفة هي «فابر آند فابر» بعد أن رفضها ناشرون عديدون لا شك أنهم تحسروا كثيراً فيما بعد، فقد بيع منها ملايين النسخ في بريطانيا والولايات المتحدة، وترجمت إلى لغات عديدة، كما أُدرجت في المناهج الدراسية، ولم تلبث بعد تسع سنوات من نشرها أن اضطلع المخرج الكبير بيتر برُوك بتحويلها إلى فيلم لاقى نجاحاً بدوره.

فمن هو «سيد الذباب» الذي تحمل الرواية اسمه؟ إنه الشيطان أو «بعلزبوب» في لغة «الكتاب المقدس»، الذي يشير اسمه إلى القذارة والعفن، وقد اختاره المؤلف رمزاً للشر في الرواية في إشارة إلى ميل البشر إلى إلصاق الشر بوجود خارجي لا قوة لهم عليه.

تدور أحداث القصة في زمن مستقبلي، وإن كان ذلك هو غاية ما تشترك فيه مع روايات الخيال العلمي. الخلفية هي حرب نووية وأبطالها حفنة من الصبيان تتراوح أعمارهم بين السادسة والثانية عشرة. يتعرض الأطفال للخطر في إحدى مناطق القتال فتقرر السلطات نقلهم جواً إلى منطقة آمنة. لكن الطائرة تُصاب بقذيفة أثناء الرحلة ويلقى الطيار مصرعه لكن الأطفال ينجون، إذ إن الطائرة مصممة بحيث تنفصل عنها كابينة الركاب وتهبط بمفردها عند الطوارئ. يجد الأطفال أنفسهم وحيدين بعيداً عن عالم الكبار في جزيرة غير مأهولة في وسط المحيط. وتبدأ القصة.

يعثر أحد الصبية الناجين على محارة فيلتقطها وينفخ فيها فتصدر صوتاً كالنفير يسمعه الأطفال فيتقاطرون نحوه من أنحاء الجزيرة. يجد الأطفال أنفسهم بمعزل عن المجتمع والحضارة والقانون في عالم بلا كبار يدبرون أمورهم لهم. يتشاورون في الموقف ويقررون تنظيم مجتمعهم الصغير لكي يتمكنوا من البقاء أحياء حتى تأتيهم النجدة.

في البداية يلجأ الأطفال إلى سلوك ديمقراطي متحضر فيجرون اقتراعاً وينتخبون زعيماً لهم، ويقررون أن هناك أمرين حيويين ينبغي عليهم القيام بهما. أولاً، إشعال نار دائمة فوق هضبة عالية في قلب الجزيرة على أمل أن تراها إحدى السفن العابرة فتأتي لإنقاذهم، ثانياً بناء أكواخ على شاطئ الجزيرة لكي تحميهم من الأمطار الغزيرة وعوامل الطقس.

في البداية تسير الأمور سيراً حسناً. لكن ما أسرع ما ينهار النظام وتُهجر الاتفاقات. تشذ من بين الصبيان جماعة تجعل همها الأوحد اللهو واللعب، خصوصاً صيد الخنازير فيتعطل بناء الأكواخ، وما هو أدهى من ذلك يتخلى حراس النار الموقدة عن مواقعهم التي يحتلونها لتغذية النار باستمرار ليشتركوا في مطاردة الخنازير، فتخبو في الوقت الذي تظهر فيه سفينة عند الأفق، لا تلبس أن تختفي بدون أن تحس بهم. يجن جنون رالف (الزعيم المنتخب) بسبب حماقة جاك (قائد فرقة الصيد)، الذي يتسبب في ضياع فرصة النجاة. يتشاجر الولدان وينسحب جاك مع فريقه ليعيشوا وحدهم داخل الغابة، بينما يبقى رالف والآخرون في الأكواخ قرب الشاطئ.

يبدأ الصراع بين القبيلتين. نعم، القبيلتين، فالأطفال لم يعودوا أطفالاً، والحضارة التي نشأوا في ظلها أصبحت نسياً منسياً، وما تلقوه من تعليم وتهذيب وقيم من عالم الكبار تحلل واندثر. ومما يزيد الأمور سوءاً أن أنصار رالف الولد العاقل والزعيم الشرعي ينفضون من حوله واحداً وراء الآخر أمام إغراء حياة اللهو وقتل الخنازير وأكلها، مما يوفره لهم جاك مغتصب الزعامة.

لا يقف الأمر عند ذلك بل تُهدر الدماء أيضاً، ويتحول الأطفال الذين اعتدنا أن نقرنهم بالبراءة إلى سفاكي دماء فيقتلون «سيمون» الصبي الرقيق، داعية السلام والحب بينهم، الأشبه بنبيٍّ، الذي يحاول أن يقنعهم أثناء قيامهم برقصة وثنية حول رأس خنزير قتلوه وتكاثف عليه الذباب لإبعاد «الغول» عنهم مع أنه لا غول هناك، وأنهم إنما يخلقون في خيالهم غولاً لا وجود له ثم يخافون منه بعد ذلك ويقدمون له القرابين. ثم تسقط ضحية أخرى «بيجي» الصبي الذي يصر على مبدأ الديمقراطية، ويبقى إلى جانب الزعيم الشرعي إلى أن يسقط قتيلاً بصخرة يلقونها عليه من إحدى القمم.

بذلك لا يبقى هناك سوى رالف، وقد هجره الجميع، وأباح جاك دمه بعد أن أصبح وحيداً تماماً. يهرب رالف مرعوباً بعد مقتل بيجي ليختبئ من مطارديه داخل الدغل الكثيف. لكنهم في إصرارهم الجنوني على قتله يشعلون النار في الغابة لإجباره على الخروج منها، مما ينتج عنه حريق كبير في الغابة تشاهده سفينة حربية عابرة فتتجه إلى الشاطئ وينزل منها ضابط ينقذ رالف في اللحظة الأخيرة.

حين تنهار القيم الحضارية نعود جميعاً صغاراً وكباراً إلى شرعة الغاب

عبرة الرواية تكمن في هذا المشهد الأخير المنطوي على مفارقة هائلة. فهذا الضابط هو بالأحرى في حاجة إلى من ينقذه. فهو يصل في سفينة حربية وهو أيضاً يطارد عدواً ويطارده عدو. هو أيضاً منهمك في صراع محموم ويتصور أن هناك غولاً يطارده ولا يدري الحقيقة البسيطة التي أدركها الطفل القتيل سيمون، وهي أن الغول ليس إلا وهماً من اختراعنا نسقطه على الآخرين. أن الغول الوحيد هو نحن. أن المصدر الوحيد للشر هو نحن.

هذه هي «الرسالة» التي أراد الكاتب إبلاغها للناس، ولأجلها خلق هذا العمل الفني الجميل، محوّلاً الموعظة إلى عمل مُشْغِف لا ينصرف الناس عنه كما ينصرفون عن المواعظ. القصة رغم غرابتها مقنعة وتفاصيلها تتسم بالواقعية الصريحة. كذلك يكشف تناول غولدنغ لشخصياته عن دراية عميقة بنفسية الأطفال وأسلوب تفكيرهم وتعبيرهم اللغوي، وهي دراية اكتسبها لا بد من عمله مدرساً. كما أنه نجح في تعضيد «موعظته» بجعل شخوصه الفاعلة من بين الأطفال الذين نقرنهم عادة بالبراءة، ما يدل على أن الميل للشر والهمجية مركب فيناً من الأصل ولا يحد منه ويروضه إلا القانون والأعراف الاجتماعية، وحين تنهار هذه القيم الحضارية نعود جميعاً، صغاراً وكباراً، إلى شرعة الغاب.في النهاية لا بد أن نعترف بأن غولدنغ الفنان اضطر هنا إلى إفساح المجال لغولدنغ الواعظ من باب الحرص على توصيل «الرسالة» أوضحَ ما تكون. فرموز الرواية تسهل ترجمتها إلى ما ترمز إليه، بينما يطمح الجمال الفني لأن يكون الرمز والمرموز إليه كياناً عضوياً لا ينفصم. كما أن شخصيات الأطفال يمكن ترجمتها إلى النماذج التي تمثلها في عالم الكبار. فهناك رالف الزعيم الليبرالي، وجاك الذي يمثل الطاغية المطلق، وبيجي الذي يرمز إلى المثقف العقلاني، وسيمون رمز النبي أو القديس حامل البشارة الذي يموت في سبيل تبليغ الرسالة. هذه الرواية تُعدّ بحق نموذجاً للتوتر الإبداعي بين الرغبة في خلق عمل فني جميل والرغبة المصاحبة في توصيل رسالة أخلاقية واضحة للقارئ.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.