«كتاب الأشباح»... حين تحل الكاميرا مجازاً محل القلم

حيدر المحسن يعيد صياغة الماضي قصصياً

«كتاب الأشباح»... حين تحل الكاميرا مجازاً محل القلم
TT

«كتاب الأشباح»... حين تحل الكاميرا مجازاً محل القلم

«كتاب الأشباح»... حين تحل الكاميرا مجازاً محل القلم

في تقديمه لمجموعته القصصية «كتاب الأشباح» - دار التكوين، دمسق- يبرر القاصّ العراقي حيدر المحسن تحويل بوصلة قصصه إلى الماضي بدلاً من الاستمرار في الكتابة عن الحاضر المعيش في العراق، (كما فعل في مجموعاته القصصية الأربع التي صدرت خلال العقدين الأخيرين) كالتالي: الرغبة بتواصله مع الأسلاف ناجم عن أنّ «المستقبل لم يعد ـــ للذين يعيشون في هذه البلاد، أقصد وطني العراق ـــ مغناطيساً وجاذباً» (ص8).

ولتقديم حجة أخرى لقراره بالتوجه صوب الماضي البعيد، استشهد الكاتب حيدر المحسن بما ذكره الروائي الفرنسي فلوبير (المتوفى عام 1880) عن سبب كتابته رواية «سلامبو»: «قليلون هم من سيكتشفون إلى أي حد ينبغي للمرء أن يكون حزيناً حتى يتكبد عناء إحياء قرطاجة».

يقتبس المحسن فقرة أخرى من فلوبير لدعم اختياره الميدان الذي تجري فيه أحداث قصصه: «بما أن القصص يجب أن تكون في الماضي، إذن فكلما كان الماضي أبعد كان أفضل».

ورغم أنني لا أجد أي مبرر لأي كاتب قصصي أن يقدم أي تبرير لقارئه الافتراضي عن سبب اختيار زمان نصوصه سواء كان في الماضي البعيد أو الحاضر أو المستقبل البعيد؛ فالشيء المهم أن يقدم لنا الكاتب أعمالاً ممتعة نتلمس بين سطورها مقدار الجهد المبذول في نسجها.

وإذا طبقنا هذا المبدأ فإنني أستطيع قول إن الكاتب حيدر المحسن نجح في تقديم مجموعة قصصية متقنة الصنعة، ولعل الاستثناء الوحيد في القصص التي تضمنها كتاب «الأشباح» القصة الأولى: «باز» التي بدت لي ضيفاً خفيفاً أكثر مما ينبغي للقصص العشر الأخرى.

العناية بالزخرفة

لعل ما يميز هذه المجموعة القصصية بالدرجة الأولى هو سيادة صوت الراوي تقريباً في سرد كل الحكايات عدا قصة واحدة، وبالتالي لا يستطيع المتلقي سماع أي صوت داخلي لشخصياتها، إلا ما ندر، كأننا هنا نتابع سرد كاميرا سينمائية لأفلام قصيرة، فكما هي الحال مع السينما التي تتقدم الأحداث فيها زمنياً إلى المستقبل نجد قصص هذه المجموعة تتمتع بنفس هذه السمة، فلا مكان لتداعي الخواطر أو تيار الوعي أو العودة إلى الخلف لمعرفة خلفيات الشخصيات. إنهم هنا في هذه اللحظة، وعلينا تقبُّلهم كما هم.

ولتحقيق هذا الهدف سعى الكاتب المحسن إلى زخرفة المشهد في سكونيته بمواد كثيرة تدخل فيها مفردات الزينة والمطبخ والأزهار والعمارة والنباتات والأسلحة... وغيرها، وكل هذه العناصر ستخلق إمتاعاً بصرياً كبيراً لو أن الكاميرا الحقيقية تحل محل القلم. هذا الجهد الكبير المبذول في إعادة بناء المكان الذي وقعت فيه أحداث تاريخية سواء كانت حقيقية أو متخيلة يمنح المتلقي إذا قرأها أو استمع إليها قدرة على تخيلها صورياً كأنه يشاهد أفلاماً قصيرة تجمعها ثيمات مشتركة.

لنأخذ أمثلة من ثلاث قصص لذلك. في قصة «حراب» التي تدور خلال احتضار «الآغا» أحد قادة السلطان عبد الحميد العسكريين بحضور الطبيب الذي استُدعي لعلاجه: «انتبه الطبيب لأول مرة إلى أبواب الصالة العالية والواسعة، وإلى السجاجيد الفاخرة المفروشة، والستائر والوسادات والديوانيات الموشاة بخيطان من ذهب، وإلى التدويرات والمنحنيات والأزهار الصفراء والبنفسجية المشغولة بنعومة على لحاف الآغا». (ص 17).

في فقرة أخرى نتابع الكاميرا (الراوي) في وصفه الباذخ للمكان الذي دخل الطبيب فيه: «على الحيطان سيوف معقوفة ذات مقابض من عاج وبنادق ذات سبطانة مرصعة بالذهب، وحواضنها عليها نقوش بعرق اللؤلؤ والمرجان... الأثاث هنا مثقل بالرخرفة، ومرايا الحيطان منحوتة بأشكال وحوش غريبة: تنانين وسلاحف وأفاعٍ، مع فسيفساء ممزوجة بنقوش عربية».

في قصة «مسرح» نجد أن زخرفة المكان تأخذ طابع المنمنمات حين تصف عين الراوي ثياب الأميرة المسافرة مع عبيدها وخدمها وجنودها لحظة وقوف القافلة ليلاً على الطريق الموصل إلى «الزبير»، وقد يحتاج القارئ الموسوس بالكلمات إلى البحث عن معاني بعض مصطلحات مواد الزينة: «ضحكت، وكان العبد يتملى مدهوشاً الدمقس الأخضر وورود الياقوت المعلقة على ستارة المحمل، وبطانته التي من قطيفة بنفسجية مطعمة بحبات اللؤلؤ... ولكن ما الذي يفهمه العبد شغاتي عن أريج الألوة والبنفسج والرند والعنبرين...» (ص 40-41).

في قصة أخرى عنوانها «لعبة الملوك» يصف لنا الراوي وجبة طعام يعدها قائد القلعة لضيوفه، فتدخل الأطعمة التي تتناسب مع مرتبة المضيف وكبير الضيوف، وفي هذه القصة فقط استخدم حيدر المحسن ضمير المتكلم بدلاً من ضمير الغائب، لكن ذلك لم يغير شيئاً من الاقتراب من عمل الكاميرا السينمائية التي تقدم لنا مائدة فاخرة بألذ الأطعمة وأشهاها: «مضى الوقت على جناح السرعة رغم أننا كنا صامتين ونحن نأكل، وهذا دليل على جودة الإوزّ المحشو، وكتف العجل المحمّصة بالفستق والزبيب والهيل، وشرائح لحم الغزال المحشوة والمقلية. أما الديك الرومي فقد كان مطبوخاً بصلصة لحم لم أذق مثلها في حياتي...» (ص 63).

الحاضر والماضي

يستنتج المحسن في مقدمته أن اختيار الروائي الفرنسي فلوبير قرطاجة التي دمرتها الجمهورية الرومانية عام 146 قبل الميلاد، جاء لأن «كتابة هذه الرواية... غطاء خيالي لمادة شخصية في حياة الكاتب». (ص 6).

ولعلنا نجد في كثير من قصص هذه المجموعة تكرار ثيمة القتل العشوائي، كأن الرعية بشكل ما مشاريع لفرائس تنتظرها الضواري حتى لو كانت متخمة.

في قصة «حِراب» لم يرتكب الطبيب أي خطأ عند استدعائه لعلاج أحد وجهاء الإمبراطورية العثمانية، ليجد الأخير في مرحلة الاحتضار. وحال وفاته يأتي الحكم القاطع على لسان كبير أفراد العائلة الأعمى: «لماذا قتلت الآغا؟ من الذي دفعك للقيام بذلك؟»، وقبل أن يجيب الطبيب مدافعاً عن نفسه يصفق الآخر بيده فينهال الحاضرون عليه طعناً ليمزقوه بالحراب.

ولعل هذا التهديد لحق ببعض الأطباء العراقيين بعد حل الدولة ومؤسساتها على يد الحاكم المدني الأميركي بول بريمر بعد احتلال العراق عام 2003 وصعود سلطة العشيرة، ففي كثير من الحالات كانت عائلة المريض تطارد الطبيب إذا فشل في إشفائه حتى لو كانت وفاته ناجمة عن مرض عضال.

يتكرر هذا القتل في قصة أخرى (قد تكون حقيقية تاريخياً)، لكنها تحولت هنا بكاميرا القاص حيدر المحسن إلى فيلم ذي ثلاثة أبعاد وعلى ملء الشاشة وبالألوان. تحمل القصة عنوان: «حكاية المعماري صلاحي مع الشاه». وهذا الإمبراطور الفارسي يدعى «سيفي» بعد حفل عشاء نظمه للسفراء الأجانب احتفالاً بصيده 30 أيلاً في يوم واحد.

وكان لحم هذه الحيوانات البرية جزءاً من العشاء الفاخر الذي نظمه لضيوفه. وشاءت المصادفة أن يحضر المعماري «صلاحي» خلال الحفل ليبشر الشاه بنجاحه في بناء هرم برؤوس الأيائل الثلاثين في وسط المدينة، وكل ما يحتاج إليه الآن رأس أيل واحد ليضعه في قمة هذا الهرم كي يكتمل النصب.

لكن الملك ومن دون أي سبب سوى أنه اتبع نزوة قفزت إلى ذهنه، يأمر بقطع رأس المهندس المعماري صلاحي لملء الفراغ المتبقي من الهرم، فيتم تنفيذ الأمر على عجل.

ونحن نتابع ما يجري اليوم يبدو لنا أن هذه القصص تتكرر في الجوهر مع اختلاف ضئيل في التفاصيل الثانوية: الماضي يتلبس الحاضر بشكل ما.

في مقدمته يفسر حيدر المحسن للقارئ سبب اختياره عنوان كتاب «الأشباح»: «لأن جميع الشخوص فيها غادرونا منذ زمان طويل، ويظهرون للقارئ بين الصفحات بهيئة شبحية، وأعلى ما يطمح إليه الكاتب هو أن يفعل سحر الفن فعله، وتبدو الأشباح، عندها حقيقية مثل الناس الذين يعيشون بيننا، وربما كان لهم تأثير أقوى في حياتنا».

وقد اتفق أن هناك سحراً للفن في هذه المجموعة القصصية، ولكن هل من الضروري مصادرة حق القارئ بتأويل العنوان كما يشاء؟


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.