«الانفعالات»: طريقة لفهم العالم والاستمرار في الوجود

كتاب الفيلسوف الإيطالي جاليمبرتي في ترجمة عربية

«الانفعالات»: طريقة لفهم العالم والاستمرار في الوجود
TT

«الانفعالات»: طريقة لفهم العالم والاستمرار في الوجود

«الانفعالات»: طريقة لفهم العالم والاستمرار في الوجود

يطرح «كتاب الانفعالات» للفيلسوف والأكاديمي الإيطالي أومبرتو جاليمبرتي الانفعالات بوصفها تعديلاً في كياننا النفسي، وفي علاقتنا بالعالم، مؤسِساً طرحه وتأملاته في ظلال التاريخ، والفلسفة، وعلم النفس، والتكنولوجيا.

صدرت الترجمة العربية للكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة بتوقيع المترجمة المصرية الدكتورة نجلاء والي، ويقع الكتاب في خمسة أجزاء يتنقل فيها الكاتب بين مختلف النظريات التي تشرح الآليات الكامنة وراء الانفعالات، وصولاً لتأثير التقنية الرقمية عليها.

ورغم الجهود العلمية المبذولة عبر التاريخ لرصد الانفعالات، فإن جاليمبرتي يعتبر أنها ما زالت عملية معقدة، ويرجع ذلك إلى أنها تقبع في مناطق مجهولة داخلنا، وتضرب بجذور ثابتة في الجزء الأقدم من عقولنا، وتظهر آثارها في الجزء الأكثر نبلاً في وجداننا، وفي مشاعرنا وحياتنا الاجتماعية، وتوقف الكاتب عند طبيعة الانفعالات التي تتفرق بين علوم ومجالات متعددة، ما بين علم الأعصاب وعلم النفس وعلم التربية والاجتماع، والفلسفة، وحتى بوصفها مسألة «ثقافية».

حالة طوارئ

تتجه بنية الكتاب إلى محاورة النماذج الفلسفية المؤسِسة حول الانفعالات، ومجاورتها مع نماذج أكثر معاصرة، فيعود لأصل الأشياء ورصد رحلة تطوّر المشاعر لدى «إنسان الكهف» الذي يقول الكاتب إنه لولا المشاعر التي كانت تقوده لكان الجنس البشري قد انقرض، حيث يمثل شعوره بالخطر أقدم الانفعالات التي حافظت على حياته، فطوّر استجابة «لحظية» لمواجهة الخطر، حيث الوقت يجب أن يكون وجيزاً بين إدراك العامِل المُحفز للانفعال والاستجابة لها، سواء للامساك بالفريسة قبل هروبها، أو أن يهرب هو نفسه من حيوان مفترس.

ولعل هذا المشهد «البدائي» هو ما طوّر تكريس الانفعال بوصفه «رد فعل عاطفياً عميقاً»، يظهر بصورة حادة ولمدة وجيزة نتيجة محفز بيئي مثل خطر، أو محفز عقلي كذكرى، أو حتى من وحي الخيال، فالانفعال في علم اللغة يعني التحرك فيما وراء الشيء أو ما بعده، كما يشير المؤلف.

يضع الكتاب هذا النموذج الأولي في مُقاربة مع التحليل النفسي لدى فرويد الذي يُفرّق بين الخوف الذي يتطلب وجود شيء معين نخشاه، والقلق الذي يمكن تعريفه بعملية انتظار حدوث خطر، أو الاستعداد له، وقد يكون الخطر نفسه مجهولاً، والرعب المرتقب للخطر دون استعداد مسبق له، وهنا تلعب المفاجأة دورها.

ومن ثم، يتتبع جاليمبرتي حالة التفكيك الفلسفي الطويلة لتعقيدات الانفعالات مثل الغضب، والغيرة، والقلق، حتى الضحك والبكاء، ويستخدم تعبير «فقد النظام» باعتبار الانفعالات صورة من إعادة ضبط هذا النظام المُختل، فالفيلسوف الألماني كارل ياسبرز يرى الضحك والبكاء «آفتين من آفات الجسد، الذي لا يجد لهما طريقاً للخروج»، فيفقد نظامه عند نقطة معينة، ويقول الكاتب: «فقد النظام رمز، كما أن هناك رمزية في كل تعبير وإشارة، ولكنها ليست شفافة في الضحك والبكاء؛ لأن كلاً منهما استجابة متأخرة؛ استجابة على الحافة، يقتصر الضحك والبكاء على الإنسان، فهما ظاهرتان بشريتان فحسب».

كسر العدم

يُحاوِر المؤلِف النموذج الأفلاطوني حول المشاعر ما بين ثنائية الجسد والروح، ويسعى لربطها بأفكار داروين، وكارل يونغ، مروراً بجان بول سارتر الذي يتوقف عن تأمله لدلالة الانفعالات، فعلى سبيل المثال إذا كانت التغيرات الفسيولوجية الناشئة عن الغضب لا تختلف من حيث القوة عن تلك الناجمة عن الفرح، بما في ذلك زيادة في نبضات القلب وزيادة في صلابة العضلات، فهذا التشابه في الظاهر لا يعني أن الغضب شعور قوي بالفرح، وذلك ببساطة لأن دلالة الفرح تختلف عن دلالة الغضب، وإذا لم نفهم الدلالة فلن نفهم الفرح والغضب، وإن حددنا ورصدنا الأسباب والعلامات التي تصاحبهما.

ويؤكد أنه لا يمكن إدراك الانفعالات بمعزل عن سياقها الوجودي الأشمل، فإذا كان وجودنا نفسه انفتاحاً على العالم، فالانفعال إذا هو خبرة هشاشة الوجود في اللحظة التي يبدو لنا فيها هذا الوجود أو العالم مختلفاً وغير مألوف، فيترتب على ذلك فقد السيطرة، والشعور بالخطر الوشيك وتهديد خفي بالعدم يجتاحه، وربما يمكن هنا استعارة صوت هيدغر الذي اعتبر القلق هو «استشعار العدم»، وفي تيه القلق نحاول غالباً أن نكسر الصمت المطبق ببعض الكلمات التي ننطق بها بشكل عشوائي، وهو دليل على حضور العدم؛ فالقلق يكسر العدم.

تسليع المشاعر

تبدو الخبرة الانفعالية إذًا أكثر التجارب التي تظهر لنا هشاشة انفتاح الإنسان على العالم، ويشير الكاتب إلى أنه يظل هناك دائماً قدر من عدم الاتساق بين موضوعية الموقف والشحنة العاطفية التي تصاحبها، أو ما يصفه بـ«الشلل» الذي نشعر به دائماً بما لا يتناسب مع المناسبة التي سببته.

ويتوقف الكاتب عند تسخير «الانفعالات» في العصر الحديث بغرض التسليع، حيث تصبح «تسليع المشاعر» سلعة لترويج سلع أخرى، لا على أساس ما تثيره من انفعالات وليس على أسس عقلانية، بما في ذلك استغلال الساسة للعواطف في الخطابات الشعبوية، علاوة على مخاطر «تبدد الواقع» والعزلة التي يخلقها التواصل الاجتماعي الافتراضي، مُفصِلاً في الجزء الأخير من الكتاب تحديات ما يصفه بـ«النمو الانفعالي» للجيل الجديد، الذي يفتقر للتجاوب العاطفي، والذي يسمح لهم بالشعور اللحظي وقبل التفكير العقلاني، فهو يرى أن شبكة الإنترنت تسببت في «تراجع القدرات العقلية، واختزال عالم الانفعالات والمشاعر الذي لا يمكن التحقق عبر قنواتها»، ويتتبع الكاتب مسارات التعبير الإنساني بدايةً من مراحل ما قبل التاريخ حيث التعبير عن المشاعر بالنحت والرسم على الحجارة، وصولاً للتخلي عن تلك الرموز المرئية مع اختراع الكتابة، وصولاً لأجيال الديجيتال، حيث لم تصل إليهم المعارف من خلال «الكتاب» ولكن من خلال «المشاهدة»، ويؤكد الكاتب في النهاية أنه لا يُدين الإنترنت الذي فتح آفاقاً من الفُرص، ولكن في الوقت نفسه لا يعفيه من دوره في إبعادنا عن الانفعالات واستبدالها بأخرى زائفة تشبه الأوهام والهلاوس: «من يهجر الواقع ويذهب إلى عالم افتراضي، والأكثر من ذلك أن هذا يحدث دون دراية من جانبنا ودون عِلمنا».

تبدو الانفعالات كما يصفها المؤلف طريقة لفهم العالم والتعامل معه، ووسيلة للاستمرار في الوجود، ويدعو لإدراكها ليس بوصفه خللاً فسيولوجياً، ولكن بوصفها «سلوكاً منظماً» يسمح للهروب مما لا يمكن أن يتحمله الإنسان؛ الدموع والعواطف الجياشة التي تجتاح شخصاً عندما يذكّره حديث بحب كبير ضائع لا يمكن استرجاعه، وهي مشاعر يصفها أومبرتو جاليمبرتي بأنها ليست «فوضى تعبيرية، ولكنها سلوك مناسب لوجود غير قادر على مواجهة ما حدث، ولا يستطيع التسليم بالفقد».

يُفصّل المؤلف غاية الانفعال هنا بوصه سلوكاً تعويضياً له القدرة على إثارة حضور آخر قادر على تخفيف المعاناة الناتجة عن وحدة لا يمكن درؤها عند التعبير عن هذه العواطف، لتكون تلك الدموع حلاً مفاجئاً ومباغتاً للصراع.

ويتوقف الكتاب عند محطة الانفعال الجمالي، بوصفها تلك الانفعالات التي تقودنا خارج الواقع وخارج عالمنا، كتلك التي تنتابنا ونحن مشدوهون بالموسيقى، والشِعر والفنون، حيث يستدعي القريب البعيد، لنبلغ نقطة أسمى، أو ما وراء الأشياء، يستدعي الكاتب هنا «هوميروس» الذي كان يستدعي وهو أعمى، ربّات الشعر ليحكين له ما حدث في طروادة، فالانفعال بالفنون يقودنا خارج سطوة العقلانية، ما دعا هايدغر لأن يقول إن الفنانين أكثر عرضة للجنون.


مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

ثقافة وفنون الذكاء الاصطناعي (رويترز)

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

يكاد يتفق الجميع على أن تطوير الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التغييرات في طريقة عيشنا وعملنا منذ اختراع الإنترنت على الأقل،

ندى حطيط
ثقافة وفنون من التصوف إلى عقلنة التصوف

من التصوف إلى عقلنة التصوف

في مقالة سابقة، نقلتُ رأي غلين ماغي، الذي وصف فلسفة هيغل بأنها مفعمة بالرموز الهرمسية والتأويلات الباطنية، حتى إنه تساءل إن كان هيغل فيلسوفاً حقاً،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون «حافة رطبة»... قصص عن هموم النساء في الغربة

«حافة رطبة»... قصص عن هموم النساء في الغربة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «حافة رطبة» للكاتبة المصرية عزة سلطان. وهي تتناول في عمومها المعاناة بصورها المختلفة التي تتكبدها المرأة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  محمد عيسى المؤدب

محمد عيسى المؤدب: «سؤال الهوية» هاجس مركزي في رواياتي

لا تبرح الرواية الأحدث للكاتب التونسي محمد عيسى المؤدب «الجندي المجهول» ولعه بالغوص في مناطق مجهولة من التاريخ بحثاً عن معان تتعلق الوطن والتسامح الإنساني.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «بوتكس» اللغة!

«بوتكس» اللغة!

تعرفت عليه للتوّ، وأنا أجتاز باب مكتبة فرانز فانون بوسط الجزائر العاصمة.

د. ربيعة جلطي

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

الذكاء الاصطناعي (رويترز)
الذكاء الاصطناعي (رويترز)
TT

الذكاء الاصطناعي... هل ستلتهمه الفلسفة في نهاية المطاف؟

الذكاء الاصطناعي (رويترز)
الذكاء الاصطناعي (رويترز)

يكاد يتفق الجميع على أن تطوير الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التغييرات في طريقة عيشنا وعملنا منذ اختراع الإنترنت على الأقل، وسوف يُغيّر في مدى قريب الطريقة التي نمضي بها جميعاً أيامنا، وكيف نتعلّم، وكيف نعمل، وهو شرع يغيّر بالفعل منهجيات إدارة الشركات والدول. ونتيجة لذلك، ثمّة دعوات في كل دول العالم الأول تقريباً لوضع أسس تنظّم الصيغة التي تحكم تطوير الأنظمة الأحدث منها، قبل وصولها إلى مرحلة تهديد الوجود البشري برمته، لكن دون نجاح يذكر، بسبب الخلافات الجذرية في وجهات النظر بين القوى الكبرى.

في عام 2011، كتب المستثمر الشهير مارك أندريسن مقالة في «وول ستريت جورنال» لقيت رواجاً بين الناس، بعد إعلانه فيها أن «البرمجيات تلتهم العالم». حينها، كانت البرمجيات تُعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، وتُحدث زلازل في كل الصناعات، من الإعلام إلى النقل، وما بينهما. لكن ما لم يتوقعه أندريسن هو أن البرمجيات نفسها ستُلتهم لاحقاً. وبعد ست سنوات فقط، كان جنسن هوانغ، المؤسس المشارك لشركة «نفيديا» يحدّث ادعاء أندريسن بقوله: «نعم، البرمجيات تلتهم العالم، لكن الذكاء الاصطناعي يلتهم البرمجيات». هذا التحول لم يعد مجرد نقلة في البنية التكنولوجية، بل في مركز الثّقل الفكري الذي يحكم كيفية تطوير التكنولوجيا واستخدامها. واليوم، ومع تغلغل الذكاء الاصطناعي في كل مجال، والسرعة الهائلة التي يتطور بها، والاستثمارات الضخمة التي تخصص لذلك، يطرح سؤال وجودي نفسه: هل سيأتي وقت قريب ويصبح الذكاء الاصطناعي نفسه موضع التهام وتجاوز؟ وما هو الشيء الذي سيمكنه أن يضع الذكاء الاصطناعي في موقع الأداة، تماماً كما فعل بـ«البرمجيات»؟ والإجابة المفاجئة حسبما يعتقد الخبيران في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة ديفيد كيرون ومايكل استراج، وفق ورقة بحثية نشراها مؤخراً: الفلسفة.

غالباً ما يُختزل النقاش حول العلاقة بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي في زاوية ضيقة تتعلّق بالأخلاقيات: كيف نتأكد من أن النماذج لا تنتج تحيزاً؟ هل تراعي الخصوصية؟ هل يمكن الوثوق بها؟ ورغم أهمية هذه الأسئلة، فإنها لا تلامس جوهر العلاقة بين المجالين. فالفلسفة ليست مجرد مراقب أخلاقي خارجي، بل مكوّن داخلي يُشكّل طريقة تصميم وتدريب واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي.

إن كل نظام لتطوير الذكاء الاصطناعي يُبنى على فرضيات ضمنية: ما الذي يُعتبر «معرفة»؟ ما الغاية من النموذج؟ ما هي رؤيته للواقع؟ هذه أسئلة فلسفية في عمقها - غائية، وإبستمولوجيّة (نظريّة المعرفة)، وأنطولوجية (طبيعة الوجود) - وغياب الوعي بها يؤدي إلى نتائج عبثية أو كارثية، كما في حالة نموذج «جيميناي» من «غوغل» في بداياته، الذي أنتج صوراً مشوهة للتاريخ في محاولة غير ناضجة لتحقيق التنوع، ما عرّض الشركة لسخرية واسعة. في «جيميناي»، لم يكن الخطأ في البيانات أو الخوارزميات، بل في الفلسفة التي صاغت الغاية من إنتاج الصور: فهل الهدف هو الدقة التاريخية، أم تمثيل التنوع؟ التناقض بين هاتين الغايتين من دون إطار فلسفي واضح أدى، في المحصلة، إلى فشل ذريع.

ومن الجليّ للخبراء الآن أن الشركات المعنية بتطوير الذكاء الاصطناعي والتي تدمج الفلسفة في صميم عملياتها ستُحقق قيمة أفضل وعوائد أعلى من استثماراتها، ليس لأن الفلسفة «تُزخرف» التقنية، بل لأنها توفّر لها بوصلة وتقلل من الفوضى الغائيّة. ففي تاريخ الذكاء الاصطناعي، نجد أن أعلامه الروّاد أمثال آلان تورنغ وغيورغ هنتن، استلهموا أعمالهم من تساؤلات فلسفية جوهرية، لا من الأكواد والمعادلات الرياضية فقط. ما يعني أن الحاجة ليست تعيين فيلسوف مقيم في شركات الذكاء الاصطناعيّ بقدر ما هي إدماج التفكير النقدي والتأمل الغائي في صلب عمل فرق التطوير واتخاذ القرار؛ لأن الذكاء الاصطناعي من دون تأطير فلسفي أشبه بسيارة سباق بمحرّك جبّار لكنّها بلا مقود: سريعة، لكن المؤكد أنها ستنحرف في أول منعطف.

تقدّم تجربة «أمازون» - المتجر الإلكتروني - مثالاً بليغاً عن العلاقة بين الفلسفة والتقنية. فالشركة لم تكتفِ في صياغتها لمفهوم «ولاء العملاء» بمؤشرات كمّية سطحية، مثل عدد مرات الشراء أو استمارات تقييم الرضا عن الخدمة، بل تجاوزتها نحو غاية فلسفية أعمق: ماذا يعني أن يكون العميل وفيّاً في علاقة تبادلية طويلة المدى، ومن هذا البحث صممت برنامجها الشهير «برايم». وهذا هو الفرق بين تقنية بلا فلسفة، وتقنية ذات وعي غائي.

وبالطبع فإن مستقبل الذكاء الاصطناعي لا يكمن في تحسين النماذج الحالية منه، بل بالانتقال إلى نماذج مفكرة لا تكتفي بتوليد النصوص أو تصنيف الصور، وإنما تمتلك وعياً بالغايات، وتزن الأولويات، وتتخذ قرارات مبنية على سياقات معقدة.

لتحقيق هذا التّحول، لا بد من تدريب هذه الأنظمة على أبعد من تحليل البيانات، من خلال تأهيلها فلسفياً بنظريّة إبستمولوجيّة لتدرك حدود ما تعرفه، وما لا تعرفه، وتسعى إلى سد الفجوة بينهما، وتستوعب دورها ضمن منظومات معقدة، فتفهم العلاقات السببية بين مكوناتها، وكيف تُقرر أخلاقياً في الحالات التي لا تنفع معها القواعد الجاهزة، وكيف تُكيّف نفسها مع غاية كبرى من المهام التي تنفذها، وتوازن بين الأهداف المتعارضة.

وهذه النقلة من «الخوارزمية» إلى «الغائية» وحدها قد تمنح ميزة تنافسيّة لنظام ذكاء اصطناعيّ عن الآخر؛ إذ إن التقنية ستكون متاحة للجميع وستذوب الفروقات التكنولوجية بين الشركات سريعاً، لكن الميزة الحقيقية ستأتي من عناصر لا يمكن تكرارها بسهولة: الإبداع البشري، والرؤية، والجرأة على إعادة التفكير. بمعنى آخر: الذكاء الاصطناعي لن يكون سبباً في التميز، بل المسرح الذي تُختبر عليه قدرات التميز البشري. وهكذا حين تُنتج الشركات أنظمة قادرة على التفكير معنا، لا بالنيابة عنا، تصبح هذه الأنظمة أقرب إلى شركاء معرفيين، وبوابات نحو رؤى أكثر عمقاً، لا مجرد أدوات، ولن يكون دورها أن تلتهم العالم، بل أن تساعدنا في إعادة بنائه.

من هذا المنظور، لم تعد الفلسفة مجالاً أكاديمياً هامشياً أو ترفاً نظريّاً عند التعامل مع الذكاء الاصطناعي، بل أصبحت شرطاً استراتيجياً لتحقيق قيمة مستدامة. وإذا كان لنا أن نحصد الثمار الحقيقية للذكاء الاصطناعي، فلا بد من غرسه في تربة فلسفية، تلك التربة التي تمنحه غاية، وتساعده على فهم العالم، لا فقط على وصفه. وهكذا ستجد الفلسفة أنها مطالبة بالعودة إلى قلب صناعة الحياة بعد قرن من الجلوس على مقاعد المراقبين، وهي في عودتها لن تلتهم الذكاء الاصطناعي، بل ستهذّبه، وتمنحه بُعداً جديداً: بُعد الحكمة.