عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

رواية تستلهم سيرة الضابط الإيطالي الاستثنائي أميديو جوليت

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»
TT

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته، وشجاعته، وطارت شهرته، حتى صارت تفاصيل حياته مجالا للبحث والاهتمام.

يعيدنا وزير خارجية ليبيا السابق، في روايته الجديدة «القائد العاشق المقاتل»، الصادرة عن «دار الرواد للنشر والتوزيع» إلى فترة تاريخية، كان لا يزال للفروسية فيها دور بارز في قيادة المعارك، وللشهامة قيمة أخلاقية. تحكي الرواية سيرة مقاتل ليست ككل السير، حيث تختلط السياسة بالحب، والتاريخ بالمزاج الشخصي، والحكمة بالجسارة، والقتال بعشق الشرق وشغف المعرفة.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي، فبفضل شخصيته المتوثبة والكاريزما التي تمتع بها، وحبه للثقافات، أصبح صديقاً للعرب، يلبس على شاكلتهم، يتكلم لغتهم، يستمتع بشعرهم، يأنس لمجالسهم. وحين أنهى مهمته العسكرية عاد إليهم دبلوماسياً نشطاً، وسائحاً هائماً.

«القائد الشيطان»

تقول الرواية: «عشق أميديو السلاح كما عشق المرأة»، وتلك عبارة مفتاح، إذ تنسج الرواية خيوطها، بهذا الجانب الرومانسي للقائد المقدام الذي تقترن بطولاته بغرام دائم، وعشق لا ينقطع. ويتنقل القارئ بين الأحداث السياسية وشراسة الأطماع الاستعمارية، وحكايات أميديو مع عشيقاته اللواتي شغلن الجزء الذي لم تملأه الحروب من يومياته.

«القائد الشيطان»، هذا هو لقبه، الذي استحقه عن جدارة. فبعد أن خاض أميديو الحرب الأهليّة الإسبانيّة إلى جانب قوات الملكيّين قادته ظروف الحرب إلى ليبيا. وأضافت لتكتيكاته الفريدة في مقارعة أعدائه، حيث واجه البريطانيين، وحارب المقاومة الليبية، عاش قصة حب حارقة مع ممرضته الليبية اليهودية التي أنسته كل ما عداها، تعرف إليها أثناء علاجه في مستشفى في طرابلس، من إصابة تعرض لها. نعيش مع العقيد أميديو لحظات تحرّقه وعشقه لريزا بـ«قوامها الممشوق ووجهها الأبيض الوضاء وعينيها الواسعتين وهي تقدم له حبات الدواء وتصير صباح الشفاء والسعادة». ثم بعد ذلك، نكابد معه فراق ريزا، واختفاءها تحت وطأة تهديد النازيين لها ولعائلتها ولملتها، ومنع العقيد من الزواج بها بسبب القوانين العنصرية التي فرقت بينهما.

الحبيبة ريزا

ريزا هي كما غيرها من اليهود الذين «اضطروا إلى الهرب خارج العاصمة الليبية، وتغيير أسمائهم، وأماكن إقامتهم». لكن مهمة الضابط المغامر الذي يمتطي صهوة جواده، ويتقدم الفرسان، ويهاجم كما لو أنه نسي الموت، لا تتوقف هنا، بل نراه ينتقل إلى إثيوبيا وإريتريا، حيث يطور هناك أساليبه القتالية، وتتجلى مشاعره العشقية، حين يعيش قصة حب جديدة مع خديجة الإثيوبية، التي «بثت فيه عشقاً لم يعرفه أبداً». ابنة شيخ القبيلة مختار، صاحبة الجمال الخمري التي تحفظ الشعر العربي، تتسلل إلى خيمته كل ليلة، تجالسه، تحادثه بهمس، عن الفروسية، وصفات الخيل، وشجاعة المحاربين. يصف الكاتب خديجة «الطويلة الرشيقة، بلباسها الملون، وعطرها الفواح» بأنها «استولت على كل شيء فيه». أما هي، فقد افتتنت بفارسها بجنون. معها «نسي حبيبته الطرابلسية ريزا، التي صارت إلى المجهول في ليبيا يخنق حبل الفاشية العنصري يهودها، أما حبيبته الإيطالية بياتريس جوندولفو، ومشروع زواجه القديم منها، فقد طوتها عيون خديجة وقوامها وصوتها وشَعرها وشِعرها، وعطرها».

خديجة تشد أزره

على هذا النحو الآسر، يجعلنا شلقم نعيش مناخات الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من اضطرابات، وتوترات وقلق، مع العقيد الذي يخوض غمار معاركه، مستعيناً على ذلك بنساء كنّ له الظهر والسند. غير أن خديجة هذه بقيت شيئاً آخر. و«لأول مرة يتمنى الفارس الصنديد، مدمن القتال، «أن تفارق الحرب عقول البشر إلى الأبد. وهو يطارح خديجة حديث الحب».

جاءته الأوامر من روما أن يستسلم، لكنه رفض، مع علمه أن الوضع قد أصبح ميئوساً منه. جهزت له خديجة فرساناً أشداء، وقالت له: «قاتل ولا تستسلم يا حبيبي، لقد خلقك الله لتكون الفارس الذي يفر من أمامه العتاة».

بين جبهات الحروب الشرسة، وجبهات الحب العاصفة، ينقلنا الكاتب، وهو يبدع في رسم علاقة أميديو مع عشيقاته، وتوصيف علاقته مع كل منهن، وكأن كل واحدة أنارت له جانباً مختلفاً من شخصيته، وأضافت لفضوله معارف جديدة، وفتحت أبواباً للضوء. فقد كان أميديو يتمتع بشخصية مغامرة وجذابة، مما جعله محبوباً بين النساء. يقول لخديجة وقد أنهكه القتال: «لم تعد لي القدرة على الاستمرار في محاربة البريطانيين. رجالي قتل بعضهم وجُرح معظمهم، لم يبق لي منهم سوى ثلاثين نفراً، أنت كل ما لدي من هذه الدنيا، ولكن الله غالب».

المرحلة اليمنية

ولما كانت العودة إلى إيطاليا شائكة بسبب تمرده على الأوامر، والوضع المتأزم هناك، يمم وجهه صوب اليمن، وقد صار اسمه أحمد عبد الله الرضائي. وصل إلى ميناء الحديدة، بعد مغامرات كادت تودي به وبرفيق الرحلة. طلب اللجوء السياسي، شك اليمنيون في أمره، وأخضعوه شهراً للسجن والاستجواب. محادثاته المتناسلة مع سجانيه وصلت إلى قصر إمام اليمن يحيى حميد الدين الذي طلب رؤيته. وكان صيته قد سبقه، ما سيجعل العلاقة الوطيدة سريعة مع الإمام وسيكلفه تدريب كتائب جيشه وشرطته.

المرحلة اليمنية من حياة أميديو، تفتح الباب أمام شلقم ليرسم لنا صورة بانورامية عن الحياة الاجتماعية، والأجواء السياسية في تلك المرحلة، في هذه المنطقة العربية. «سيلف أميديو حول خاصرته قطعة من القماش، ويضع الخنجر المقوس وسط حزامه. جلسة مع خلان سيتعرف عليهم، يخزنون القات معاً، ويسهرون الليالي في مطارحات شعرية إلى أن يدركهم الصباح، ويخرجون ليروا مباني المدينة الشاهقة المزخرفة بألوان، تضيف الانشراح إلى الأرواح». وفي اليمن أيضاً سيلتقي بياتريس.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي بل شخصية متوثبة وكاريزمية

صفحة حب جديدة

بياتريس الحبيبة الجديدة. هذه المرة هي مصرية، مسيحية وفارسة تعشق الخيول، تعزف على آلة البزق وتهرّب الأسلحة، حين يلزم الأمر. امرأة جذابة يلفها الغموض «عندها عصارة العصارة، ولها القدرة على قراءة ما سمعت، فهي مثقفة ودارسة متبحرة في عالم النفس، ولها القدرة على قراءة ما في فناجين الرؤوس».

لكن تلك الحياة الرغدة بعجائبيتها ومحنها، سرعان ما تنقلب في اليمن، وتطيح بالإمام، ويحلّ الجدري، وينفضّ الجمع، ولا يبقى لـ«القائد الشيطان» سوى الهرب.

بأسلوبه الرشيق والمشوق، يقصّ شلقم من خلال روايته، حكاية هذا القائد الإيطالي الذي تحول إلى أسطورة، وشبهه البعض بلورانس العرب، لتشابه بين سيرتيهما، مستفيداً من سيرته التي كتبها العقيد بنفسه، ومصادر أخرى، مضيفاً إليها حبكته ونكهته المستقاة من «ألف ليلة وليلة» التي يؤتى على ذكرها مرات عدة في النص. وقد عاش أميديو من العمر قرناً كاملاً وسنة، تمكن خلالها من الانتقال إلى حياة دبلوماسية، لا تقل أهمية عن حياته العسكرية. عين سفيراً لدى عدد من الدول العربية بينها الأردن الذي عشقته زوجته بياتريس التي ارتبط بها بعد تجواله ومغامراته العشقية. وعين الرجل سفيراً لدى المغرب، ويكتب له أن يشهد حادثة انقلاب الصخيرات الشهيرة، التي نقرأ تفاصيلها في الرواية كما عاشها أميديو، وكأننا في قلب الحدث.

التاريخ يعيد نفسه

مفاصل تاريخية كثيرة، عن فترة مفصلية من عمر العرب، والتدخلات الأجنبية على أرضهم، بحيث يبدو وجودهم السياسي هامشياً، في ما يطغى حضورهم الاجتماعي في الرواية، كل ذلك مشدود إلى أوتار عواطف جياشة، ومشاعر فياضة، تلهم القائد المقدام.

وفي الجزء الأخير من الكتاب، يتاح لنا أن نعيش مع أميديو، وقد استقر به الحال أخيراً متقاعداً يستعيد ذكرياته ويتأمل مشواره بهدوء ودعة. وتشاء الظروف أن يلتقي بالضباط والقادة الذين كان يقاتل في مواجهتهم، حيث يتحول أعداء الأمس وقد انتهت الحرب، إلى أصدقاء اليوم، يتبادلون الذكريات والاعترافات، وكأنما كل ذاك الدم الذي سال، كان عبثاً، أو كأنهم كانوا جزءاً من آلة تغيرت أدوارهم ورؤاهم، بمجرد تفكيكها.

الرواية تعيدني ثمانين سنة إلى الوراء، ولعالم غير الذي نعيشه اليوم، لكن بقليل من التدقيق، تشعر أن النزاعات في أعماقها لا تزال هي نفسها، والمآلات تبدو متشابهة وتستحق المقارنة والعبرة والتأمل.


مقالات ذات صلة

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

ثقافة وفنون باقر جاسم محمد

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد»

فاضل ثامر
ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

مجلة «القافلة» السعودية: عام الحرف اليدوية

في العدد الجديد من مجلة «القافلة» لشهري يناير (كانون الثاني)، وفبراير (شباط) 2025، التي تصدر عن شركة «أرامكو السعودية»، تناولت الافتتاحية موضوع الأمثال الدارجة

«الشرق الأوسط» (الدمام)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
ثقافة وفنون صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة

شوقي بزيع

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة
TT

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة

كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول: «أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة»، كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على رؤية ما لا يُرى.

أمثلةٌ كثيرة تصلحُ استشهاداتٍ للضدّ النوعي للشاعر «المصنوع من مادّة اللغة». أظنُّ أنّ بورخيس يتقدّمها باستحقاق كامل حتى صارت الإشارة إلى نمط «الكتابة البورخيسية» توصيفاً للكتابة المتقشّفة لغوياً، التي تقود عقل القارئ نحو الأفكار التي يسعى الكاتب أو الشاعر لتمريرها. لن تتفق الكتابة القائمة على الملاعبات اللغوية أو المصارعة المؤسّسة على تشكيل تراكيب لغوية معقّدة في أن تكون بديلاً عن جماليات الأفكار الرفيعة. ربّما - وأقول ربّما - كانت هذه الإغواءات اللغوية لدى الكاتب مقاربة تعويضية عن فقر الأفكار. الأمثلة في هذا الشأن كثيرة، ولكلٍّ منّا أمثلته وتجاربه ورؤاه.

كلّنا كائنات لغوية، وكلّنا مصنوعون من مادة اللغة. هذه حقيقة نعيشها كلّ يوم وليست إعلاناً يتسربل ببلاغة مقنّعة تسعى لتمرير رسالة مضمرة بالفائقية الإبداعية. يمكن محاججةُ بطلان هذه المقولة من أوجه كثيرة أوّلها المحاججة الفلسفية - الوجودية. اللغة منتَجٌ ينشأ عن علاقات تفاعلية دماغية عنوانها الأكبر: الوعي Consciousness. الوعي يتقدّم على اللغة، وبمعنى آخر: الأفكار تتقدّم على اللغة. الوعي وقدرته المتفرّدة في تخليق الأفكار خصيصة عالمية وليست محلية أو جماعاتية مثل اللغة. صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة، ومن يرى الشاعر محض كائن يجيد التلاعب الحرّ والمتدفّق والمدهش بعُدّته اللغوية يبخسُ وظيفة الشاعر إلى حدود معتلّة. الشاعر يستخدم اللغة وسيلة لتخليق أفكار ورؤى يرادُ منها كسرُ قشرة الواقع الصلب والإطلالة على عوالم ميتافيزيقية غير مختبرة لإضفاء الدهشة والفتنة على عالمٍ يقتله الملل وضيق حدود التجربة الحسية. الغريب أنّ هناك من يسعى لجمع الفيلسوف مع الشاعر في أنّ كليهما كائنان مصنوعان من مادة اللغة؛ لكنّ تلك حكايةٌ أخرى.

ما هو أكثر أهمية بكثير من المحاججة الفلسفية - الوجودية هي المحاججة الوظيفية: ما هي وظيفة اللغة؟ وكيف نتعامل معها؟ أهي أداة تواصلية أم غاية جمالية ونفسية تُطلَبُ لذاتها؟ في هذا السياق سأورد المثال التصويري التالي: لنتصوّرْ أنّ مواريثنا اللغوية في كلّ الفعاليات المعرفية المعروفة هي ميراث مادي محسوب بكمّ من المال. يبدو لي الكائن اللغوي (الذي يتباهى بأنّه مصنوع من مادة اللغة) وكأنّه سيأخذ نصيبه من المال ليبتاع نظيره سيارة «رولز رويس» عظيمة الفخامة. أما الكائن غير الشعري فسيوزّع ميراثه في أشكال عدّة: سيشتري عقاراً، وربّما قطعة أرض، ولا بأس من سيارة أيضاً. ما بها سيارة «تسلا» مثلاً؟ سيارة ممتازة بمواصفات رائعة وبسعر أقلّ من عُشْر سعر الرولز رويس.

هل تتخيّلون المشهد؟ مُقتني الرولز رويس سيتحوّلُ خادماً لها بدلاً من أن تخدمه هي لأنّه وضع كلّ ماله فيها. سيقلق عليها كثيراً، وسيلمّعها كل يوم، وسيخشى الخروج بها خوفاً من أن ينالها خدشٌ صغير. لن يخرج بها إلا لمشوار قصير يؤكّدُ فيه سطوته وأرستقراطيته الموهومة التي ربما تجعل منه كائناً متغطرساً. لن يجرّب قيادة سيارة أخرى طيلة حياته لأنّه منذور لوهْمٍ امتلك عقله في أنّ سيارته هي الأغلى والأجمل والأكمل والأفخم. الغريب أنّ هذه السيارة لن تأتي له بعائد مالي لأنّه يرى امتلاكها بديلاً عن كلّ عائد مهما كان عظيماً. سيظلّ كلّ حياته موهوماً بكلاسيكيتها الفائقة، ولن يفكّر بما يمكن أن يطرأ على تصميمها من تغيّرات بفعل نتائج امتحان السيارة في أنفاق الهواء Wind Tunnels وما يترتّب عليها من ضرورات تغيير التصميم بغية تقليل استهلاك الوقود ونفث أكاسيد الكربون والنيتروجين الملوّثة للبيئة.

مُقتني (تسلا) من جانب آخر يعيش تجربة مختلفة تماماً عن مقتني الرولز رويس. يتنقّلُ في سيارة عملية ممتازة لا تسمعُ ضوضاء فيها. السيارة تخدمه ولا يخدمها. صيانتها معقولة ميسّرة وبكلفة ممكنة، والسيارة بذاتها مصدرٌ لمداخيل مالية ونزهات ترفيهية لأنّ مقتنيها يستخدمها في متابعة شؤونه المالية والحياتية اليومية. لا غطرسة في الأمر بل حياة طبيعية معقولة، ومتى ما أراد صاحبها استبدالها كلّ ثلاث سنوات مثلاً فيمكن له ذلك لقاء بدلٍ مالي بسيط. تسلا ليست مثل الرولز رويس. بطارية الليثيوم المولّدة للكهرباء فيها تشهدُ تغيّرات ثورية لتحسينها وتعظيم كفاءتها كل سنة، ويمكن استبدالُ البطارية القديمة بواحدة جديدة مُطوّرة بكلفة يسيرة لا ترهق الجيب. تطوّرات الذكاء الاصطناعي وإمكانية القيادة الذاتية تشهد تجاربها الريادية الأولى عادة مع سيارة «تسلا». هل يمكن أن يحصل هذا مع رولز رويس؟

هكذا هو حال كلّ كائن لغوي، مصنوع من مادة اللغة، شاعراً كان أم كاتبا. اللغة لديه ليست سوى «رولز رويس» هي كلّ ميراثه، وقد استطاب الجلوس داخلها وخدمتها كلّ حياته. ليست كلّ ميراثه فحسب؛ هي كلّ بضاعته أيضاً. كيف تعرف هذا الكائن اللغوي؟ من نصوصه. تقرأها فتشعرُ وكأنّ كاتبها خاض نزالاً عنيفاً بالمصارعة للوزن الثقيل مع الكلمات. هو ليس كائناً مسترخياً عندما يواجه الكلمات، وحالُهُ في هذا حالُ مخرج أفلام سينمائية منحتَهُ مائة مليون دولار ونصّاً لسيناريو. ماذا سيفعل؟ سينسى السيناريو ويجعل كلّ همّه أن يقنعنا بأنّ فيلمه الذي نراه قد أنفق عليه مائة مليون من الدولارات. الإبهار والبهرجة المشهدية ستتقدّمُ بالضرورة على الأفكار في مثل هذه الأفلام. وهو ما ينفّرني من مشاهدة الأفلام ذات الميزانية الضخمة، وأفضّلُ عليها الأفلام متواضعة الميزانيات التي تتوفر على مستوى فني رفيع وأفكار غير مسبوقة.

يقترن هذا الموضوع اقتراناً عضوياً بموضوع البلاغة Rhetoric. البلاغة معضلة كبيرة وبخاصة مع العربية؛ إذ ما أسهل أن ينزلق المرء في لجّة الألعاب اللغوية الخالصة التي وسمت الكثير من تراثياتنا الأدبية. ليس الوقوع في فخّ البلاغة وقفاً على العربية. لنقارن مثلاً بين إنجليزية العصر الفكتوري وإنجليزية العصر الحالي، سنجد فروقاً هائلة بينهما. البلاغة اليوم هي بلاغة الأفكار وليست بلاغة الألعاب اللغوية، واللغة اليوم هي وسيط لتمرير الأفكار وعرضها برشاقة ووضوح من غير التباسات مؤذية. وظيفة اللغة أهمّ من الألعاب اللغوية مهما بدت جميلة مغوية، أمّا الغطرسة اللغوية فتلك قمّة جبل المأساة. الشاعر أو الكائن اللغوي، وكأي كائن اختصر كلّ قيمته الوجودية في حكاية ملحمية واحدة، سيكون من البدهي أن يرى بضاعته اللغوية أعلى مقاماً من سائر البضائع. الأخطر عندما تنقلب الغطرسة اللغوية شوفينية لغوية.

اللغة ليست لعبة ميكانو يجاهد الشاعر (أو الكائن اللغوي) في ابتداع أعداد متزايدة من الأشكال المعقّدة فيها. بساطة التراكيب اللغوية هي الأجمل من العبارات اللغوية الملتفّة الملتوية.

هل يرى البعض امتيازه الأكبر في أنّه مصنوعٌ من مادة اللغة؟ لا بأس في هذا. فليبقَ مأسوراً داخل «رولز رويس» التي يملك، وسيكون شاهداً على تقادمها حتى الاندثار. ليته يجرّب أن يطلّ برأسه خارج سيارته المتقادمة؛ فلربما سيرى سيارات «تسلا» تحلّقُ فوقه بمحرّكات تعمل بالهيدروجين أو بالكهرباء بعد سنوات قليلة قادمة.

كلنا نحب اللغة ونعشق منتجاتها الرفيعة، لكن لا معنى ولا فائدة من قضاء حياتنا ونحن ندور حول عرش اللغة الذي نحسبه مقدّساً.

اللغة بضاعة غاطسة في المعضلات الدنيوية، وجمالُها وفائدتها نتاجان مباشران لدنيويتها وكونها بضاعة يومية. اللغة المقدّسة المترفّعة عن لغات العالم لا تصلح لمعايشة البشر، ومكانها الطبيعي موضعٌ صغير يتوارى خلف واجهة زجاجية في متحف للآثار القديمة.