أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أحمد زكريا في «العاقرات يُنجبن أحياناً»

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية
TT

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب، التي تعكس تخبطات أبطاله اليائسة بين الأحلام والهزائم.

صدرت المجموعة أخيراً عن دار «المرايا» للنشر بالقاهرة، ويبدو أبطالها في نزاع مُستمر مع واقع مجهول يعيشون مُدجنين تحت مظلته، رغم تجاهلهم إحباطاته، وتفانيهم في يوميات لقمة العيش، لكن مارد هذا الواقع يظل يُلاحقهم، ويفرض عليهم كوابيسه وكوارثه، كما فعل مع بطل قصة «سعد الساعاتي» المهووس بعالَمه المُسالِم في إصلاح الساعات. ويبدو استعداده للزواج هو الحدث المركزي الجديد في حياته، إلا أن انهيار سقف توقعاته من السعادة المرجوّة من هذا الزواج يكون أكثر قسوة من وقع «الزلزال» الذي ضرب البلاد بالتزامن مع عُرسه الجديد، فيتحوّل من «جرّاح يُعالج التروس» يتحرك عالمه مثل دقة ساعات «السايكو» و«الرولكس»، إلى عالم عبثي وفوضوي تبدو فيه مانشيتات الصحف، وتحركات الحكومة من أجل تعقب ضحايا الزلزال هي صاحبة الكلمة العليا في حياته، رغم محاولاته الطويلة تجاهل هذا العالم وأبواقه غرقاً في عالم ساعاته وتروسها.

أحداث مركزية

يجعل الكاتب من الأحداث التي تُمثل محطات مفصلية في التاريخ المصري، مثل زلزال أكتوبر (تشرين الأول) عام 1992، وأحداث الأمن المركزي التي وقعت في فترة الثمانينات بمصر، يجعلها بمثابة أرضية زمنية تؤطّر عالم قصصه وتمنحها كثيراً من شُحناتها المتوترة لتتفاعل مع التحديات الشخصية لأبطالها، فبطلة قصة «العاقرات يُنجبن أحياناً» تفشل في الاتصال بزوجها المسافر خارج مصر بعد قطعها مسافة طويلة إلى «السنترال» لإجراء مكالمة دولية له، وذلك بسبب حظر التجوال الذي بدأ يُفرض في البلاد بسبب ما بات يُعرف بأحداث تمرد الأمن المركزي، ورغم الهرج والمرج الذي بات يسود الشوارع في هذا الوقت كانت «أمينة في وسط كل هذا لا تُفكر سوى في أهمية المكالمة التي قد تُغيّر حياتها، وجاءت هذه الأحداث المُفاجئة لتؤجل انتظارها أكثر».

يُصعّد هذا التقاطع بين الحدثين العام والشخصي لبطلة القصة أمينة كثيراً من التوتر الذي يتصاعد بمأساوية تعصف بها من النقيض إلى النقيض؛ ومن قمة الرجاء إلى فرط اليأس، لتبدو خطوات البطلة «العاقرة» الملهوفة على الإنجاب والاحتفاظ برضا الزوج وأسرته، وكأنها تركض بها صوب الهاوية، في حين يبدو الموت، الذي يُخيّم على الأجواء، وتعميم مناطق حظر التجوال الذي يذيع أخباره الراديو، وكأنه يشوّش على صوتها ونزاعها الأخير مع أمل لحظة ولادة جنين.

ويمنح الكاتب وسائل الإعلام التقليدية؛ من نشرات أخبار الراديو وأغنياته، والصحف المطبوعة وعناوينها، حضوراً سردياً في متن نصوصه القصصية بشكل لافت، فلا يبدو ظهورها هامشياً بقدر ما تشتبك بوعي مع أصوات أبطال القصص ومساراتهم، كما تبدو مجازاً للمسافة التي تفصل بينهم وبين السُّلطة، فكما يظهر هروب بعضهم من تلك الوسائل وعدم تصديقهم إياها، يبدو هناك من يلوذون بها بوصفها بوصلة وحيدة لهم على الطريق.

يبدو أبطال هذه المجموعة في نزاع مستمر مع واقع مجهول يعيشون مُدجنين تحت مظلته، رغم تجاهلهم إحباطاته وتفانيهم في يوميات لقمة العيش.

رعب نفسي

يُجرّد الكاتب بعض القصص من السياق الزمني التقليدي، فيُغلق جدران البيوت على بعض أبطال قصصه، ليبتلعهم الوقت وهم يواجهون علاقات كابوسية مع شركاء بيوتهم، التي وصلت ذروتها في قصة «نار هادئة»، التي صاغ بها الكاتب توليفة من مشاعر الحب والكراهية والانتقام، مستعيراً «التركيبات الكيميائية»، و«الهوس بالمعادلات»، لبناء عالم تلك القصة، حيث تبدأ بصوت البطلة وهي تعترف بقتل زوجها، دون أدنى شعور بذنب، وتبدو البطلة التي لا تضع الحب ضمن حساباتها، تتصرّف بمنطق قاتلة محترفة، حتى بدا هذا المنطق من فرط قسوته وسيطرتها عليه، أقرب للكابوسية التي تُقارب قصص الرعب النفسي وتستدعي أفلام الجريمة، وتبدو السينما حاضرة في صيغة أخرى بالمجموعة، كما في قصة «عندما وجد توماس باتمان مقتولاً في إناء خزفي» فيما يشبه التناص مع عالم أبطال السينما الخارقين، فتبدأ القصة برسالة يكتبها توماس لصديقه يوصيه بمشاهدة فيلم «فارس الظلام» للمخرج الشهير كريستوفر نولان، ويخبره بأنه أحب باتمان أكثر مما أحب «الجوكر» في الفيلم، وتدور مفارقات القصة في فلك هؤلاء الأبطال الخارقين التي تتماسّ مع لحظات شخصية في حياة بطل القصة المأخوذ والمسحور تماماً بهذا العالم السينمائي الخرافي.

وتظهر العبثية في زمن آخر يستدعي أجواء الحكايات التراثية، وساحات الأسواق الشعبية القديمة، كما في قصة «ساحة ميمونة» التي تقود فيه «قردة» زمام الأمور فتستولي على انتباه المارة وهي تؤدي فقرات استعراضية وتتكلم، فتجلب لصاحبها «القرداتي» الحظ والدراهم، حتى ذاع صيت القردة المُتكلمة في أرجاء المدينة، ليكون ذلك سبباً في سلسلة من التحوّلات العبثية التي تقودها للمُلك والعرش وحُكم البلاد والعباد، في حين تجلب الفقر واللعنة لصاحبها بعدما تتركه، وهي قصة يجعلها الكاتب احتفاءً بالعجيب في سبره أغوار النفوس، وتقلبات الأقدار.


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.