يستحضر الشاعر محمود سيف الدين صورة المغنية الفرنسية إديث بياف، ويسمي بها ديوانه «مرآة جديدة لإديت بياف»، وفي ظلال هذه الصورة المراوغة يتكثف فضاء الشجن والحزن في الديوان، بخاصة أن الحزن كان سمة لافتة في مسيرة هذه الفنانة التي تقلبت ما بين الفقر والتشرّد حتى تربعت على عرش الشهرة والمجد، ولقبت بأيقونة الغناء الفرنسي في ستينيات القرن الماضي، وحفزت أغنياتها روح المقاومة للاحتلال الألماني لبلادها إبان الحرب العالمية الثانية، وبالتوازي يستحضر عبر فصله الثاني «في حب الكوكب» صورة كوكب الشرق أم كلثوم، التي تربعت على عرش الغناء العربي أيضاً، ويتناص مع أغانيها في نسيج أغلب القصائد.
تحضر إديث بياف عبر نص وحيد في الديوان، وفي واقع مضطرب يختلط فيه الحزن بعبثية الحياة، بينما تمرح الذات الشاعرة بطفولة في أجواء أغاني أم كلثوم، وتكاد ترقص على إيقاعها، كأن ثمة فجوةً بين الصوتين، لم تنشغل بها الذات الشاعرة، أو تستثمرها شعرياً، في شكل حوار بينهما، الذي تعززه وتحيل إليه ظروف النشأة والروافد المتشابهة بينهما في الكفاح من أجل الفن، علماً بأن بياف أطلق عليها أحد الكتاب الفرنسيين «أم كلثوم فرنسا».
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل أراد الشاعر من وراء ذلك أن يحرر الصورتين معاً من محنة الإطار، ويجعل الغناء بمحمولاته الرمزية المغوية يسبح في هواء الديوان والحياة، تاركاً له حرية تشكيل العلاقة مع صورتيهما، ومع صور أخرى لأغانٍ شهيرة في أفلام سينمائية كلاسيكية يتناص معها الديوان، كأنها روح لحكاية ما، معلقة في فضاء الغرابة التي تشيع دلالتها في أجواء الديوان بطرائق فنية متنوعة تبرز على نحو لافت في بنية الصورة وإيقاع المشهد المسكون دائماً بفعل التذكر والحنين للماضي. فتحت مظلة الغرابة التي تتأرجح بثقلها وخفتها، ما بين الظن واليقين، يتكشف الشعر لنفسه، وتتخفف الأنا اللاهثة بين ضميري المتكلم والمخاطب، من شوائب الاستطراد والتبرير، وتصبح الغرابة مرآة خاصة للذات، ومفتاحاً لطرق أبواب العالم المسكون بها، ما يمنح المشهد الشعري حيوية لافتة في النظر إلى الطبيعة والتعامل مع العناصر والأشياء بإيقاعها اليومي الرتيب المباغت... يطالعنا هذا في نص «مرآة جديدة لإديث بياف»، الذي يمهد له الشاعر بنص يسبقه بعنوان «ضوء مبهم في الكراس» يلعب فيه على وتر الطفولة القصية ومحنة الحلم الدائم بها، فيما يأتي نص «بياف» لطشةً مأساويةً ومرثيةً لمشهد كأنه الأخير على مسرح الحياة... يقول النص الذي وسم عنوان الديوان:
لأنَّ يَدَ الرَّبيعِ مَغلُولةٌ إلى عُنقِهِ
الأيامُ البذيئة تمرُّ من الفتنةِ إلىَ الهَمَجِيَّةِ
وَالأغْنِيَةُ تَنهَارُ بَينَ يَديْنا فِي شِتَاءٍ مَا
المُسعِفُونَ دَائماً فِي الطَّريِقِ
لكنَّهُم لا يَصِلُوُنَ
قلبَانِ فِي نَحِيبٍ يَختَلِطُ مَعَ المطر
هَمْسٌ نَاءٍ وبكاءٌ نَحِيلٌ
وَقتٌ يتقلّصُ
حَيثُمَا نَذهَبُ هُنَاكَ طَوقٌ لأَلعَابِ الهَوَاءِ المَجنُونَةِ
ونَحنُ حَللنَا بهَيئَةٍ تَلعَبُ عَلَى صَخرَةِ اللوْنِ
مُوسِيقَى أخرَى
الأيَّامُ التِي لا نَعرِفُ سِوَاهَا
تُشبهُ فرصةً أخيرةً للوقوفِ على المَسرَحِ.
الحَياةُ ورديّةٌ في الزِّحَامِ المُتلاشْ
الطبيعةُ لا تكفُّ عن الثرثرةِ
الفوضى جُرحٌ هادئٌ في القلبِ
أوَدُّ لو أبصقُ قلبي مرةً
صرخة مُجَرَّدَة
كأنَّ المَدِينةَ ربّةُ الحَربِ
سهمٌ في قبضةٍ هُلامِيَّةٍ
لمَاذا إذن..
نَعتَنِي بالشَّمسِ البَعِيدَةِ عنْ أطرافِ أصَابِعِنَا
عَجينةُ الحبِّ نحنُ والشوارعُ تخبزُ عُيونَنَا
الحبُ الذي نجهلُ ضيَّعَنا
لم يُكلِّف خَاطِراً واحِداً للمُخَاطَرةِ
انْحِنَاءَةُ الطريقِ كاسْتِوَائِهَا
المُجونُ والظُّنونُ
إنها الأرضُ التِي نَظَرَتْ فِي مِرآتِهَا طَوِيل
وشَاهَدتْ فِي كلِّ مرةٍ
شبحاً جميلاً لإديث بياف
عيناً شَاخِصَةً... وحَنجَرةً
تختلط الغرابة باللوعة والأسى والإحساس بالفقد والوحدة، وتبدو إديث بياف التي لم يبق منها سوى «عين شاخصة وحنجرة» كأنها صدى لمرآة الأرض الأكثر اتساعاً ورسوخاً... فيما تومض صورة أخرى خافتة في الظل تبحث فيها الذات الشاعرة عن كينونتها ومرآتها الهاربة في غبار الأيام والفوضى والزحام والجنون، وكأنها تتعثر في حلم مشدود دائماً إلى الماضي، تحاول استعادته بقوة الشعر، وفي الوقت نفسه، تستأنس الغرابة وتلعب معها، كأرجوحة من أراجيح الطفولة والصبا والوجود... يقول في نص بعنوان «مباغتة» تتحول فيه الذات إلى مرآة للآخر:
انظرْ للطَّريقِ بعَينيكَ القَديمَتَينِ
اللَّتينِ تَركتُهُمَا جِوَار كوْمَةٍ منْ ألعَابِ الصِّبَا
تذكرْ؟
كنتَ مُتَعَجِّلاً وَقتَهَا
قَفزتَ إلى القِطَارِ البِلاسْتِيكِي
ولمْ يزَلْ فِي حِجرِكَ
أفلتَّ المَكابِحَ،
وأطلقْتَ نَفيرَ الشَّقَاوَةِ فِي أّذُنِ الأَرضِ
أرقتَها بأظفَارٍ نَبَشَتْ وَجهَ السَّفرِ
وعَبرَ هَذِهِ اللُّعبَةِ القَديمَةِ يَا هَذَا
بَاغَتتَكَ الأيَّامُ....
وجِئتَ إلىَ هُنَا
ببساطة شديدة ولغة سلسلة يتعامل الشاعر مع الغرابة، يرسم صورته وملامحه في ظلالها بلا تعقيدات ومفارقات شاسعة، فالغرابة تتراءى دائماً كصنو للحلم، صنو للأثر والحكاية، تشد الحواس والخيال إلى أفق أبعد وأعمق، مما يساهم في كسر منطق العلاقات التراتبية للزمن والأشياء، بحثاً عما يثير الدهشة وفي الوقت نفسه يثير الغرابة بشكل جديد... فلا بأس أن يرسم الشاعر باسمها هذه الصورة لنفسه التي تطالعنا في نص بعنوان «أحوال» يبدو فيه الشغف والحنين إلى المكان:
رأيتُني بائعَ عرقسوسٍ
في حيٍّ شعبيّ
كلمّا أملتُ الآنيةَ بعيداً عن الأكوابِ
تهدّلت قصائدُ للمِلاءَاتِ اللَّفِ
ونوافذِ العصرِ
والمشربياتِ
رأيتُني ربَابةً فوقَ كَتِفٍ جَنُوبِيِّ
ويداً تلوِّحُ فوقَ حبائلِ الصوتِ
لجدرانٍ تَحكِي مَا فَاتَ
رأيتُني نشيداً سَاحِلياً
على امتدادِ الشاطِئ
تتخفف الأنا اللاهثة في الديوان بين ضميري المتكلم والمخاطب من شوائب الاستطراد والتبرير وتصبح الغرابة مرآة خاصة للذات
الغرابة لا منطق لها، كل ما تفعله رجرجة الجسد وخطف العين إلى ما وراء المشهد، وما يتناثر في طوايا الداخل والخارج، وفي الوقت نفسه توفر فضاءً حيوياً للذات مفتوحاً على براح التخييل، تتصالح في ظلاله مع نفسها وضعفها وهشاشتها، متجنبة الاصطدام بالواقع والعالم الموحش من حولها. هنا تبزغ نقطة التلاقي العصية بينها وبين الشعر، وعلى نحو مكثف ومقطّر في الجزء الثالث الذي يشكل ختام الديوان بعنوان «زفرات معلّقة»، تتسرب كومضات شاردة في أصابع الزمن، وفي لطشات سريعة خاطفة تومض في شكل رسائل برق لا تتجاوز بضعة أسطر، مشكلة ما يمكن تسميته «خلاصة دفتر أحوال الغرابة»، ومنها: أنتيكة، في البدأ، فانوس سحري، لعبة، وفيها يقول:
الهَوَاءُ يَمُرُّ عَبرَ رِئَتِيْ هَذَا المِيزَانِ القَدِيمِ،
الرُّوُحُ فَوقَ كفَّةٍ والجَسَدُ فِي أُخرَىَ
تتأرجَحَانِ بلا وَازِعٍ من إرادَةٍ
وقَفَ أحدُهم فِي قَارِعَةِ السُّوقِ
يَكشِطُ الصَّدأَ مِنْ رَأسِ الزَّمَنِ ويُنَادِي:
مَنْ يَشتَرِي هَذِه الأنتِيكَةَ المُبهِجَة؟
...
الأعينُ الرَّمَادِيَّةُ
التِي سَالتْ منْ أقلامِنَا بيومٍ غَائِمٍ،
كَانتْ فِي البَدءِ عَصَافِيرَ ارتَعَدَتْ
فوقَ أسْلاكِ الكَهربَاءِ.
...
قلبُ الشعرِ فانوسٌ سحريّ
كُلّما مَسَسْتَ جِدَارَه
بلحظةٍ منتحبةٍ
أيقظتَ عِفرِيِتاً
يروي تبدّلَ الأيَّام
هكذا، تقف الغرابة في هذا الديوان الشيق على حافة الحلم بالشعر، بالحب، بالانعتاق من فوضى العالم والاشياء والذكريات، بحثاً عن معنى حقيقي في مرآة الجمال والحرية.