منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين

الدماغ البشري يعمل كماكينة سردية ومُعالِج معاً

منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين
TT

منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين

منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين

أتيحت لي في الأسبوعين الماضيين تجربةٌ جميلة قرأتُ فيها كتابيْن مميّزين عن طبيعة الفعل القصصي (السردي). الكتاب الأوّل عنوانه: «الرواية الفلسفية كنوعٍ أدبي - the Philosophical Novel as a Literary Genre» لمؤلفه مايكل ميتياس Michael Mitias، والكتاب من منشورات عام 2022. الكتاب الثاني عنوانه: «كيف تعمل القصص - How Fiction Works» لمؤلفه الناقد الأدبي ذائع الصيت جيمس وود James Wood الذي يكتب منذ سنوات عديدة في مطبوعات ومواقع عالمية أهمها النيويوركر. صدر كتاب وود عام 2009، وتتوفر له ترجمة عربية أنجزها فلاح رحيم. قادتني هاتان القراءتان إلى التفكّر الحثيث في إشكالية العقل الفلسفي مقابل العقل القصصي: هل هي إشكالية حقيقية؟ هل ثمّة تعارض مؤكّد بين العقليْن؟ وهل منطق الفلسفة يلغي بالضرورة منطق القصة؟ انتهيتُ إلى أننا لسنا في حاجة لتجسير الهوّة بينهما؛ لأنّها (الهوة) مفترضة ونتاجُ وهمٍ راسخ لأسباب تعليمية ومهنية. يعمل المنطق الفلسفي والقصصي (السردي) في كلّ عقل بشري بطريقة متزامنة، وهذا ليس محض رغبة شخصية بقدر ما هو وسيلة تكيفية لعيش حياة طيبة ورفيعة في معاييرها المُشخّصة.

ظهر الفلاسفة منذ أكثر من 5 آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. منذ البدء رأى الفلاسفة في صناعة الحُجج (Arguments) وظيفة أساسية لهم؛ لذا تراهم انخرطوا في مناقشات حجاجية قاسية لم تهدأ يوماً ما. تنازعوا فلسفياً بشأن موضوعات عديدة: من أين جاء العالم؟ ومِمّ صُنِع؟ ولماذا وُجِدنا نحن البشر في هذا العالم؟ على الرغم من الحجاج القاسي بين الفلاسفة فإنّهم اتفقوا على أمر واحد: القصة ليست أداة يمكن الاعتماد عليها في التفكير. هُمْ رأوها وسيلة لا تخلو من جنبة انحيازية (تمييزية)، ووسيلة تتبع هوى خالقها، ومغاليةً في الاعتماد على الحقائق الحاضرة؛ لذا كرّس الفلاسفة أنفسهم لإيجاد أداة تفكير أكثر صرامة، وشيئاً فشيئاً تشاركوا قناعة راسخة بأنّ تلك الأداة هي المنطق Logic.

في سنة 350 قبل الميلاد تمكّن الفيلسوف المقدوني متعدد الاشتغالات (Polymath)، أرسطو، من جمع وتوحيد الأقيسة المنطقية المتناثرة بعمله الكبير: الأورغانون (Organon). جابهت سطوة المنطق الأرسطيّ العتيدة تحدياً بيّناً خلال عصر النهضة الأوروبية، عندما عمد الفلاسفة الطبيعيون ذوو العقول التجريبية (من أمثال ليوناردو دافنشي، وغاليليو غاليلي، وويليام هارفي) إلى استبعاد (بل وحتى مهاجمة) الكتب المدرسية الخاصة بالمنطق الأرسطيّ؛ لأنهم وجدوه قصير النظر محدوداً، تنخره الهشاشة، وغير ذي فائدة؛ لكنّ المنطق استعاد بعض مجده الغابر فكانت له عودةٌ خلال عصر التنوير بفعل جهود ديكارت وعبارته التأسيسية في «الكوغيتو» (إشارة إلى العبارة اللاتينية: Cogito Ergo Sum - أنا أفكّر إذن أنا موجود)، وكذلك علم الفلك الرياضياتي الذي وضع أساسه إسحاق نيوتن، ومفهوم العقل المتسامي الذي جاء به إيمانويل كانْت. منذ تلك الجهود المتقدّمة في جبهة المعرفة البشرية راح المنطق يندفعُ حثيثاً في توسيع مكانته في نطاق الفلسفة. مع أواخر القرن التاسع عشر صار المنطق الأرسطيّ أساساً في انبثاق الفلسفة التحليلية (Analytic Philosophy)، عندما وسّع غوتلوب فريغه (Gottlob Frege) من نطاق القوانين المنطقية الأرسطيّة لتكون حساباً (Calculus) يمكنه تناول أي محاججة.

هذا هو ما جعل الفلاسفة (وعامة الإنتلجنسيا والأكاديميين) يعزفون عن ربط القصة بالتفكير. تمكّنت منهم دهشةٌ مديدة راسخة بلحظات الإلهام واسعة النطاق التي تأتي مع الفلسفة، ابتداءً من الفلسفات الهندية القديمة حتى الانعطافة اللغوية التي جاءت مع نشر كتب فتغنشتاين وتأسيس مدرسة التحليل اللغوي والفلسفة التحليلية البريطانية. من المشروع أن نتساءل: ما الذي يمكن أن يكون خاطئاً مع هذه النسخة من المقايسة الفكرية؟

لم يكن الفلاسفة ومريدوهُمْ مخطئين بشأن اعتبار المنطق تفكيراً. هُمْ أخطأوا في اعتبار المنطق الشكل الأوحد للتفكير. السبب وراء هذا الأمر هو وجود - على الأقل - طريقتيْن للتفكير: المنطق والقصة. كلٌّ من المنطق والقصة بوسعه حلُّ معضلاتٍ ليس في استطاعة الآخر تقديم حلّ مناسب لها، وكلٌّ من المنطق والقصة بمستطاعه تخليقُ أشياء لن يستطيع الآخر تخليقها أبداً.

ثنائية الذكاء هذا (الذكاء المنطقي والذكاء القصصي) يمكن عرضُها بمقاربتيْن: تحليلية وتجريبية. في المقاربة التحليلية: توظّفُ القصة والمنطق طُرُقاً إبستمولوجية (معرفية) مختلفة ومتمايزة. طريقة المنطق هي المعادلة المساواتية (Equation)، أو بطريقة أكثر دقّة من الوجهة التقنية: الاستدلال الارتباطي (Correlational Reasoning) الذي يستبعدُ المؤثرات الفردانية؛ في حين تعتمد القصة طريقة الخبرة الذاتية، أو بتوصيف أكثر تقنية: التأمّل السببي (Causal Speculation). كلُّ مقاربة لها نطاقها الإجرائي الخاص: المنطق ثابت يعتمد على تكرار كثرة من الوقائع؛ في حين أنّ القصة متطايرة تمتاز بالخفة، وقد تعتمد على بيانات قليلة أو حتى قد لا تحتاج إلى أي منها (تخليق ذهني خالص أو ما يسمى في العادة رواية الأفكار Novel of Ideas).

في المقاربة التجريبية: يمكن اقتفاءُ أثر كلّ من القصة والمنطق في عمليات ميكانيكية مختلفة في الدماغ البشري. هذا مكافئ للقول (وعلى خلاف ما ظنّه كثير من العلماء الإدراكيين من قبلُ، ولا يزال قسمٌ ضئيل منهم يعتقد به) إنّ الدماغ البشري لا يعملُ كحاسوب. تعتقد الرؤية الحديثة لعمل الدماغ البشري أنّه يعمل جزئياً كحاسوب (أي مُعالِج منطقي)؛ لكنّ الدماغ البشري يعمل في معظم فاعلياته كماكينة سردية لأنّ واحدة من بين غاياته الرئيسية التي تطوّرت عبر الفاعلية الداروينية هي التأثر بالبيئة المحيطة والاستجابة لها بفعل تكيفي مناسب يستفيد من فواعل التغذية الاسترجاعية الحسية (الخبرة). هذا الفعل يتطلبُ تأمّلاً تسبيبياً؛ أي بعبارة أخرى: يتطلبُ تفكيراً قصصياً.

هذا ما تغافله الفلاسفة والإنتلجنسيا. هُم حسبوا أنّ الذكاء يمكن اختزالُهُ في آلية (ميكانيزم) مفردة، وعندما جعلوا تلك الآلية مكافئة للمنطق بات من البديهي أن تُترك للقصة وظيفةٌ وحيدةٌ باقية هي مناقلة الأفكار. كان الفلاسفة غارقين في لجّة الثقة المفرطة بهذا الاستنتاج إلى الحد الذي جعلهم يغفلون أو تناسون عقبةً بيّنة: تستطيعُ القصة مناقلة الأفكار فقط عندما يمتلك الدماغ القدرة على التفكير بصورة طبيعية (تلقائية) في القصة، أي: عندما تقترن القدرة المنطقية مع القدرة السردية (الحكائية)، وبعكس هذا لن تستطيع القصة التأثير السلس والتلقائي فينا. ما رآه الفلاسفة طرداً للقصة من مملكة التفكير البشري كان في الحقيقة تأكيداً لتغلغل الشكل القصصي في نظام التشغيل الأساسي للذكاء البشري. هذا النسق هائل التعقيد للتداخل الخلاق بين المنطق والقصة هو ما ساعد البشر على تخليق حبكات قادت إلى الصنائع الإبداعية الخلاقة لكلّ شيء في الحضارة البشرية على المستويين المادي والرمزي.

الدور القيادي الرائد للفاعلية السردية يعني - بين ما يعنيه من تفاصيل كثيرة - أنّ المنهاج الدراسي المُؤسّس على المنطق الذي اعتمدته مدارسنا لعقود طويلة إنما هو قصير النظر لسببيْن على الأقل:

أولاً: لأنّه قلّل إلى حد بعيد من قيمة الكيفية الأساسية التي يفكر بها الكائن البشري بصورة طبيعية، وترتّب على هذا الأمر نتائج سلبية عميقة الأثر من حيث مترتباتها الاجتماعية. مأسَسَت المناهج الدراسية القائمة على المنطق الخالص لفعالياتِنا المدرسية ودفعت بالتلاميذ إلى مهاوي الحَيرة، والشعور بالخجل والفشل، وكبحت التنامي المتوقّع للأخلاقيات الرفيعة عندما تعاملت مع التلاميذ بقسوة مفرطة عبر تقييم العقول البشرية بمقاييس الواجبات المطلوب تنفيذها بدقة منطقية كلاسيكية صارمة مع عدم الحيود عنها. من هذه الواجبات: الحفظ، والتفكير النقدي، والتعليل الكمي... وهذه كلها واجبات يمكن إنجازها بكيفية أفضل من البشر بواسطة هواتفنا الذكية وحواسيبنا المحمولة. أكّدت المناهج الدراسية أيضاً، وبكثير من الحماسة المفرطة، على الأقيسة المنطقية والكمية والبيانات، وهذا ما ساهم في تعظيم مناسيب تشوّه الشعور بالشخصانية الفردية والكينونة الذاتية (Depersonalization)، والهشاشة، والاحتراق النفسي...

ثانياً: تتغاضى المناهج الدراسية الحالية عن التاريخ الطبيعي لتطوّر أدمغتنا البشرية. ذلك التاريخ يشوبه الغموض. هذا صحيح تماماً، لكنْ برغم هذا نحنُ نعلم أنّ التركيبة المنطقية للدوائر العصبية في أدمغتنا البشرية ليست انعطافة تطورية حديثة أطاحت بالتقنية العقلية التي طوّرت القصة وأحاطتها بالرعاية الكاملة على مدى حقب زمنية طويلة. كان للمنطق (للتفكير المنطقي، لا فرق) الكثيرُ من الزمن لكي يضع بصمته المميزة على تطوّر الذكاء البشري، ولو أنّ آليات التطور الدارويني ابتغت طرح القصة جانباً وتركها تذوي بعيداً عن متناول فاعلياتنا الدماغية لكان من المنطقي أن يمتلك المنطق الهيمنة الكاملة على أدمغتنا بدلاً من أن يرتضي التعايش مع التفكير القصصي. تقودُنا هذه الحقائق الأساسية إلى استدعاء العديد من الأسئلة ذات النكهة التمردية على المواضعات السائدة: ماذا لو أنّ الفلاسفة قدّروا القصة (التفكير القصصي) كما فعلوا مع المنطق؟ أظنّهم لو فعلوا لكنّا انتهينا إلى إشكالية غريبة: ربما لو تعاملنا مع القصة مثلما تعاملنا مع المنطق لخسرنا القوة الذاتية الكامنة في التفكير القصصي، ولجعلنا التفكير القصصي أقرب إلى المهارات الشائعة التي تفتقد ندرة العبقرية الفردية والكشوف الذاتية المتفرّدة على المستويين التقني والرمزي.

القصة تسعى لتقديم إجابات وقتية لها حد كافٍ (Good Enough) من القدرة على تناول المعضلات الواقعية في الحياة البشرية. القصة انتقالة من الإجابات المطلقة للمنطق إلى البراغماتية الوقتية للتفكير القصصي. مع الارتقاء المستدام بتفكيرنا القصصي نستطيع أن نجعل حيواتنا الأرضية أكثر مناعة ضد الهشاشة والانكسار، وأكثر صحّة جسدية ونفسية وذهنية، وأكثر سعادة. لا أظنّ هذا المسعى أقلّ أبداً من شرف المسعى الذي ظلّ جوهر الفعل الفلسفي ومبتغاه منذ بواكير الفلسفة وحتى يومنا هذا.



الرواية على الشاشة... ترجمة بثلاثة أنواع

باتريك ستيورات في دور  آهاب في موبي ديك 1998
باتريك ستيورات في دور آهاب في موبي ديك 1998
TT

الرواية على الشاشة... ترجمة بثلاثة أنواع

باتريك ستيورات في دور  آهاب في موبي ديك 1998
باتريك ستيورات في دور آهاب في موبي ديك 1998

يتساءل الأكاديمي والمسرحي السعودي رجا العتيبي في تغريدة أطلقها في يوليو (تموز) الماضي عمّا هي الكلمة المناسبة عند التحدث أو الكتابة عن «تحويل الرواية إلى سيناريو». أعيد طرح تساؤله بصياغة أخرى: هل ما يحدث للرواية سينمائياً «نقل» أم «تكييف» أم «تحويل»؟ وكانت «ترجمة» هي المفردة التي خطرت في بالي وتمنيت لو أن تساؤله اتسع لها. فالترجمة هي ما يحدث للرواية على يد السينمائيين، والكلمة الأكثر دقة، هكذا تُنَظِّرُ الدكتورة ليندا كوستانزو كيْر في كتابها الموسوم بــ«الأدب في الفيلم... نظرية ومقاربات تطبيقية». شخصياً لا أستطيع الاختلاف معها، ولعل الأكاديمي والمسرحي العتيبي يتفق معي، أو بالأحرى يتفق معها فهي صاحبة الفكرة - النظرية.

صقل مهارات الفهم والتذوق والتعبير

بوستر فيلم «وحش البحر» 1926

تقدم كيْر كتابها محاولةً لصقل مهارتي الفهم والتذوق لدى قرائه، وكذلك مهارة التعبير عن آرائهم في الأفلام التي يشاهدونها، بالتحديد الأفلام المبنية على نصوص أدبية. وتضيف موضحةً أنها طوّرت «الأدب في الفيلم» بهدف تعميق المعرفة السينمائية والأدبية عند القراء لغاية تعميق تجربة المشاهدة لتلك الأفلام، وذلك بوضع قواعد سياقية ونظرية تساعد بدورها على فهم شبكة العلاقات المعقدة بين الأجناس الأدبية والأفلام المبنية عليها.

تُشيرُ كيْر في بداية الفصل الأول «طبيعة ترجمة الفيلم... حرفية وتقليدية وراديكالية»، إذ تطرح نظريتها مصحوبةً بدراسات حالة لأنواع الترجمات «السينمائية» للأدب، تشير إلى النظرة والموقف السائدين تجاه أي فيلم مبني على نص أدبي باعتباره عملاً ثانوياً ذا قيمة ثانوية أو أدنى من قيمة النص المصدر، إذ لا يزال الأدب عموماً، كما تقول، يشغل مكانةً أرقى من مكانة الفيلم في التراتبية الهرمية الثقافية، مما يؤثر سلباً على تلقي الفيلم، بأن يُوَلِّدُ في المشاهد الشعورَ بالخيبة حين اكتشافه أن الفيلم لا يتطابق مع النص الأدبي.

ترجمة لا تكييف

وتُنَظِّرُ كيْر أن الخطوة الأولى في استكشاف خصائص ومزايا الفيلم المبني على نص أدبي تتمثل في اعتباره ترجمة للنص المصدر، وفهم الاختلاف بين التكييف (adaptation) و«الترجمة». فالتكييف إحداث تغيير في بنية أو وظيفة كينونة معينة لكي تكون أكثر ملاءمة، وقادرة على البقاء والتكاثر في البيئة الجديدة التي تنقل إليها. بينما سبب وجود الرواية على الشاشة هو ترجمة نص من لغة إلى أخرى؛ نتاج عملية لغوية، وليس نتاج عملية مُلاءَمَة من أجل البقاء والتوالد والتكاثر. وما ينتج عن الترجمة نصٌ جديدٌ تماماً، يتمتع بالاستقلال عن النص الأصل. وتضيف أننا نستطيع مشاهدة وتذوق الترجمة دون الاضطرار إلى قراءة النص المصدر. وعندما نتأمل في أي فيلم مترجم عن نص أدبي، فسنرى صانعي الأفلام كمترجمين ينقلون لغة الأدب المكوّنة من كلمات إلى لغة السينما. ويحددون خياراتهم من داخل بنيات تلك الأفلام ومن مفرداتها.

وتجادل بأن الأفلام الناجحة، المبنية على نصوص أدبية، هي التي تترجم كلمات النصوص إلى صور عبر تأويل النصوص المصدر واستغلال ما تثيره من أفكار وانطباعات للتعبير عن رؤى صانعي الأفلام، ويكون الناتج، بالتالي، كينونات منفصلة لها حياتها الخاصة. وتذكر أن التفكير في أي فيلم مترجم عن نص أدبي باعتباره نصاً أصلياً يعني فهم أن الترجمة عمل تأويلي، وأن ما ينتج عنها نص جديد، عمل جديد في شكله ووظيفته، ومستقل بذاته. وتضيف أن مترجمي الأفلام يواجهون التحديات والخيارات التأويلية نفسها التي يواجهها أي مترجم.

3 ترجمات سينمائية لنص واحد

استمراراً في تنظيرها عن الترجمة السينمائية للأدب، تعود كيْر إلى ما ذكرته سابقاً قائلةً إن كانت الخطوة الأولى لتَبَيُّن مزايا الأفلام المبنية على الأدب تتمثل في رؤيتها كترجمات للنصوص الأدبية؛ فإن الخطوة الثانية هي الوعي بأن لكل ترجمة قيماً وأهدافاً وطموحات مختلفة تلعب دوراً في تحديد سماتها ونوعها، فالترجمة السينمائية، حسب تنظيرها، تنقسم إلى ثلاثة أنواع.

الترجمة الحرفية، وتعني إعادة إنتاج حبكة النص الأصل بكل تفاصيلها، بينما يحافظ النوع الثاني، الترجمة التقليدية، على السمات العامة للنص الأدبي كالحبكة وعنصري الزمان والمكان والأعراف الأسلوبية، لكن مع تجديد تفاصيل معينة بالطرق التي يراها صانعو الأفلام ضرورية أو مناسبة. أما النوع الثالث، الترجمة الراديكالية، فإنه يعيد تشكيل النص بطرق متطرفة وثورية كوسيلة لتأويله، بهدف جعل الفيلم عملاً مستقلاً. كما أن الوعي بأنواع الترجمة الثلاثة مهم عند تقييم أي فيلم مترجم عن نص أدبي، لأن أي تقييم ينبغي أن يأخذ في الاعتبار أسلوب وطريقة صنع ذلك الفيلم. ومن غير المناسب، مثلاً، تقييم ترجمة تقليدية أو راديكالية بمعيار حرفي. إن معرفة أنواع الترجمة الثلاثة والتمييز بينها شيئان مهمان أيضاً لأن المُشاهد يحتاج إلى الانتباه للتحيزات والتفضيلات لترجمة على أخرى، لِما قد يترتب على هذه التحيزات من تأثير على تقييم الفيلم. كما ينبغي الوعي بأنه قد لا توجد ترجمة نقية تماماً، خالية من أي آثار من نوعي الترجمة الآخرَيْن.

وجوه «موبي ديك» الثلاثة

في دراسة الحالة الأولى من حالتين في الفصل الأول، تحلل كيْر ثلاث ترجمات سينمائية لرواية هرمان مليفل «موبي ديك» (1851). وتتضمن فصول الكتاب الأخرى، بمواضيعها المختلفة، أمثلةً وإحالات على عدد غير صغير من ترجمات سينمائية قديمة وحديثة.

تبدأ كيْر بمناقشة الترجمة الحرفية، الفيلم «موبي ديك» (1956)، الذي أنتجه وأخرجه جون هيوستن. وتشرح أنه في الترجمة الحرفية يبقى الفيلم المُنْتَج قريباً من النص قدر الإمكان، ويتبع صانع الفيلم، كما فعل هيوستن مع رواية ملفيل، النص الأصل بإعادة تشكيل تفاصيل الشخصية والزمان والمكان، بطريقة تجعل الفيلم يبدو كنسخة «فاكسيميلي». لا مكان في الترجمة الحرفية للحرية الإبداعية والجرأة في التأويل اللتين تميزان الترجمات الأخرى. وعادة، إن لم يكن دائماً، يخفق هذا النوع من الترجمة في سبر أفكار مؤلف النص الأدبي؛ وتوضح أن فيلم هيوستن يتضمن أمثلة على نقاط القوة والضعف الشديدة في ترجمة الفيلم الحرفية. بيد أنه يحقق نجاحاً، إلى حد ما، على مستوى القصة بالحفاظ على الدراما في الرواية؛ وعلى المستوى الفني، لاحتوائه بعض المشاهد ذات المذاق الكثيف والمالح، كما تقول، الذي يميز نص ملفيل.

وتشكل الترجمات السينمائية التقليدية غالبية الأفلام المترجمة عن نصوص أدبية. وفي هذا النوع من الترجمة، تبقى الترجمة (الفيلم) قريبة من النص المصدر قدر الإمكان، مع تعرضه للتغييرات الضرورية أو المناسبة وفقاً لرؤية المخرج التأويلية واهتماماته الأسلوبية. ولكن غالباً ما يكون الدافع وراء التغييرات هو الحاجة إلى إبقاء طول الفيلم وتكلفة الإنتاج داخل حدود السيطرة، وللمحافظة على اهتمامات وأذواق الجماهير... وقد تضاف أو تحذف مشاهد من النص، وغالباً ما تكون الشخصيات مركبة، وربما يصاحب ذلك تغييرات في الأمكنة والأزمنة بهدف تحقيق الإثارة البصرية. يمثل الفيلم «موبي ديك» (1998) للمخرج فرانك رودام نموذجاً للترجمة التقليدية، إذ تحافظ الترجمة على حبكة النص والزمان والمكان، وتجدد بعض التفاصيل مثل دمج استطرادات ملفيل عن صيد الحيتان في حوارات البحارة، وتصوير مصاعب الحياة اليومية على متن السفينة، وإظهار تعدد جنسيات البحارة، وتقطيع ومعالجة الحيتان على ظهر السفينة.

وتقدم كيْر الفيلم الصامت «وحش البحر» (1926) للمخرج ميلارد ويب نموذجاً للترجمة الراديكالية، التي تمنح صانع الفيلم الحرية الفنية الكاملة، والانفتاح على إمكانات غير محدودة للتعبير والتأويل، إلى حد المجازفة بأن تكون الترجمة تعبيراً عن ذاتها لدرجة تثير التساؤل، والشك في قرابتها من النص المصدر. بكلمات أخرى، إنها تعيد صياغة وتشكيل النص سينمائياً، بتغيير بعض أو كل التفاصيل بطريقة تدعم رؤية صانع الفيلم.

أتاحت الترجمة الراديكالية لمخرج «وحش البحر» فرصة الاستفادة من ثلاثة أشياء: 1 - قدرة الأدب على منح الفيلم مكانة فورية وقابلية للتسويق، 2 - الشعبية المتزايدة ببطء لكتاب ملفيل آنذاك، 3 - التذوق الشعبي في عشرينات القرن الماضي لقصص المغامرين المتهورين وملاحم البحر، إلى جانب الشعبية الدائمة لقصص الحب. (27).

يتضمن «وحش البحر» (1926) قصة حب بين القبطان آهاب سيلي والفتاة الشابة الجميلة إستر هاربر. وتتكرر قصة الحب بين آهاب وفيث مابل في نسخة «موبي ديك» (1930) الراديكالية للمخرج لويد بيكون. تعامل المخرجان ويب وبيكون بحرية وجرأة مع الرواية مضيفين أحداثاً وشخصيات ليست موجودة في النص. وينتهي الفيلمان بنهايتين سعيدتين، بعودة القبطان آهاب إلى «نيو بدفورد»، إلى حبيبته إستر في «قصة حب»، وإلى «فيث» في «موبي ديك» (1930). نهايتان مختلفتان عن نهاية آهاب الذي يلاقي حتفه غرقاً تحت سطح البحر في الرواية.

تبدو ليندا كوستانزو كيْر مقنعةً في تنظيرها، أليس كذلك؟

(*) ناقد وكاتب سعودي