شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

اسمه الغني بالدلالات بدا مزيجاً من إغواء اللون وترجيعات الزمن الأندلسي

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل
TT

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

قلّ أن حظي شارعٌ من شوارع المدن الحديثة، بالمكانة التي حظي بها شارع الحمراء في العاصمة اللبنانية. لا بل إن اسم ذلك الشارع، يكاد يكون موازياً لاسم بيروت نفسها، واختزالاً لصورها المتقلبة في مرايا التفتح أو الذبول، الازدهار أو الانحلال. صحيح أن الرقعة الضيقة للمدينة المحشورة بين فكي الجبال والبحر، لم تسمح للشارع بأن ينافس على مستويي الطول والاتساع، كلاً من الشانزليزيه في باريس، أو الشارع الخامس في نيويورك، أو أكسفورد في لندن، ولكن الصحيح أيضاً أن شارع الحمراء الذي يمتد من محلة الصنائع شرقاً، لينتهي في الغرب عند تقاطع السادات، وبطول ألف وخمسمائة متر، قد اكتسب سمعته ومكانته من عوامل مختلفة حولته في النصف الثاني من القرن العشرين إلى واحد من أشهر الشوارع في بلاد العرب، وأكثرها صلةً بروح العصر وصور الاجتماع المديني.

وإذا كان اسم الحمراء بحد ذاته هو أحد العناصر المهمة التي منحت الشارع جاذبيته وسحره الفريدين، فإن سبب التسمية لم يكن واحداً عند أولئك الذين تصدوا بالدراسة المعمقة لتاريخ المدينة العريق والحافل بالأحداث. فإذ يذكر عبد اللطيف فاخوري أن سبب التسمية يعود إلى بني الحمرا الذين قدموا تحت ضغط القبائل القيسية من العراق إلى سهل البقاع اللبناني، قبل أن يهبطوا لاحقاً إلى بيروت، ليقطنوا ضاحيتها الغربية المسماة برأس بيروت، يرجح سمير قصير أن تكون تسمية الحمرا مرتبطة بذلك الفيض اللافت من «أنوار النيون التي أضاءت قبل عقود عدة لافتات المقاهي وقاعات السينما والمشارب والمقاهي، بالإضافة إلى المظاهر الأوروبية التي تسم الأمكنة والنساء».

وإذ يشير قصير إلى احتمال أن تكون التسمية مرتبطة بكثبان الرمل الحمراء التي زرعها الفلاحون بالصبار في أزمنة سابقة، يؤكد في الوقت نفسه على الذاكرة العربية الجمعية التي أعادتها التسمية إلى أطياف قصر الحمراء في غرناطة، حيث التماثل وارد بين الشارع البيروتي والأندلس الحافلة بصور الملذات والمتع ونضارة العيش.

وحيث لم تفت المؤرخين الإشارة الى الدور المفصلي الذي لعبه تأسيس جامعة بيروت الأميركية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، في نمو المنطقة الواقعة بين شارعي بلس والحمراء، فإن مراكز الثقل البيروتية الكبرى ظلت حتى منتصف القرن الفائت موزعة بين وسط المدينة والمنطقة المعروفة بالزيتونة وبعض المتفرعات الأخرى. لا بل إن الكاتب والأكاديمي اللبناني جبرائيل جبور يتحدث عن أحوال المحلة التي كان يطلق عليها قبل قرن من الزمن اسم «مزرعة الحمرا»، إذ كان الشارع المعروف باسم جان دارك يرسم بأبنيته القليلة الحدود الغربية للعاصمة اللبنانية.

والواقع أن الصعود المتسارع لدور الشارع كان يتغذى من عوامل عدة، بينها تعاظم دور العاصمة نفسها التي تمكنت بفضل موقعها الجغرافي المميز، وبما تمتلكه من مساحات الحرية والتنوع، إضافة إلى إفادتها من فائض الثروة العربية النفطية، من أن تتحول إلى نقطة التقاء نادرة بين الشرق والغرب، وأن تصبح قِبلة العرب ومصرفهم ومطبعتهم وفندقهم ومركز ترفيههم وموئل المعارضين منهم. ولم يكن مستغرباً أن يصبح شارع الحمراء منذ حقبة الاستقلال المنصة الأهم لرياح الحداثة الوافدة، وهو الذي استطاع أن يوائم بنجاح باهر بين أقانيم الاقتصاد والسياحة والثقافة والاحتفاء بالحياة. وفي حين استطاعت واجهات محلاته الأنيقة واللماعة أن تبهر أنظار زائريه بآخر ابتكارات دور الأزياء في أوروبا والعالم، انتشرت بين ظهرانيه العديد من دور السينما والمسرح وصروح الفكر والفن ومقرات الأندية الثقافية. دون أن نغفل الدور الرائد لجريدة «النهار»، التي تمكنت بما اجتذبته من قامات صحافية وفكرية أن تشكل العمود السياسي الفقري للكيان اللبناني، بقدر ما تمكن ملحقها الثقافي من أن يرفد حركة التجديد الشعرية والأدبية، ببعض أفضل أسمائها ونتاجاتها.

ولا نستطيع أن نغفل في الوقت ذاته الدور المحوري الذي لعبته مجلة «شعر»، وندوتها الحوارية الأسبوعية، في إطلاق الثورة الثانية للحداثة، بعد أن تكفلت «الآداب» بالثورة الأولى. كما لا نستطيع أن نغفل «الندوة اللبنانية» التي أرادها ميشال أسمر أن تكون منصة مفتوحة وجريئة لحوار الثقافات، ولا مسرح البيكاديللي، الذي استضاف صوت فيروز ومسرح الرحبانيين الغنائي، فضلاً عن داليدا وميكيس تيودوراكيس وشارل أزنافور، وغيرهم من فناني العالم ومبدعيه. أما مقاهي الرصيف التي انتشرت على جانبي الشارع، والتي اتسعت دائرة روادها لتشمل خليطاً من النخب المثقفة، بشقيها المقيم والوافد، فقد بدت التجسيد الأمثل لصورة المدينة الشرفة، مقابل أنواع أخرى من المدن، مغلقة على نفسها وشبيهة بالقلاع.

أما العد العكسي لازدهار الشارع ودوره المهم على الصعد كافة، فقد بدأ مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، التي لم يستطع تجنب شظاياها ومفاعيلها المدمرة، ثم زاد من حدته تذرر الكيان نفسه، الذي نخره الفساد والتنابذ الطائفي من كل جانب، دون أن يتاح للشارع المتماهي مع روح بيروت، أن يستعيد وهجه السابق وماضيه الوردي. صحيح أن قوة الحياة التي تعتمل في أحشائه قد عصمته من السقوط بالضربة القاضية، إلا أنه كان يخسر دوره بالنقاط، ويفقد بين صدمة وأخرى ما تبقى له من رصيد.

وقد يكون زياد الرحباني بما يملكه من موهبة ورؤية ثاقبة الى المستقبل واحداً من الفنانين القلائل الذين حدسوا بالمآلات القاتمة لشارع الحمراء، كما للمدينة برمتها، حين ذهب في عمله المميز «شي فاشل» إلى القول بأن انفراط عقد المدينة يعني بالضرورة انهياراً لمسرحها، بما هو فن مديني بامتياز. ولم يمر بعد ذلك وقت طويل حتى أقفل مسرح البيكاديللي أبوابه، وأطفأت دور السينما أضواءها الواحدة تلو الأخرى، وأقفلت مقاهي الرصيف العريقة كـ«الهورس شو» و«الستراند» و«الألدورادو» و«المودكا» و«الويمبي»، ليبدأ بعدها عصر المقاهي المعولمة ومطاعم الوجبات السريعة ومؤسسات تبييض الأموال.

العد العكسي لازدهار الشارع ودوره المهم على الصعد كافة بدأ مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية

وفي ظل الانهيار المالي الأخير، حيث لم تعد المداخيل الشحيحة لمثقفي المدينة وكتابها الأحياء، تسمح لهم بدفع التكلفة الباهظة لفناجين قهوتهم التي دأبوا على احتسائها في مقاهي الشارع الرئيسي، راح هؤلاء يبحثون في متفرعات الحمراء الضيقة عن أماكن أقل كلفة وأكثر تواضعاً للقاءاتهم اليومية، وهو ما عثروا عليه بعد لأي في مقهى «الحمرا إكسبرس»، الذي تذكّر بساطته وطابعه الرومانسي بصوت فيروز وأغاني ماري هوبكنز الدافئة.

وإذا كانت الصورة النمطية التي رسمتها لشارع الحمراء، الذاكرة الجمعية لسكان الأرياف النائية والضواحي المهمشة، تبدو مزيجاً معقداً من «الحقد» الطبقي على الشارع، والوقوع المضاد في فخ جماله المغوي، فإن الحروب والأزمات المتعاقبة التي نزلت به، قد قلصت المسافة بينه وبين ضواحي المدينة وأحيائها الفقيرة الأخرى، متكفلة بتحويل الضغائن المترسبة في أذهان «أعدائه» السابقين إلى رغبة ملحة في ارتياده أو الإقامة بين ظهرانيه. والأرجح أن الذين قرروا بعشرات الآلاف اللجوء إلى شارع الحمراء، بفعل الدمار الكارثي الذي ألحقته بمناطقهم وأماكن سكناهم الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، لم يجدوا في الشارع المنهك من الإهمال والغارق في نفاياته وفوضاه، ما يطابق تصوراتهم عنه، بل وجدوا فيه نسخة معدلة قليلاً عن الشوارع البائسة التي غادروها مكرهين.

ولعل أكثر ما يستوقف الوافدين إلى الشارع في الآونة الأخيرة، هو عدم قدرتهم وسط زحام البشر والسيارات والدراجات النارية على التحرك من أماكنهم بوصة واحدة، إلا ببذل الكثير من العناء. أما اللون الأحمر الذي انتزع الشارع منه اسمه وبريقه الشهواني، فقد تراجع منسوبه إلى حد بعيد، لتحل محله الألوان الداكنة والسوداء لسكان الشارع الجدد، ولضيوفه الهائمين على وجوههم، بحثاً عن أمان مفقود ووطن متعذر التحقق.

اللون الأسود الذي رفعت منسوبه بشكل ملحوظ ثياب النازحين.


مقالات ذات صلة

رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية

ثقافة وفنون قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة

رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية

كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الرقائق الذهبية، زُيّن بعض منها بنقوش تصويرية

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون دينا مندور

دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

تُعد المترجمة المصرية، دينا مندور، أحد أبرز مترجمي الأدب الفرنسي إلى العربية، حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة «السوربون» الفرنسية

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

يحتضن الشاعر المصري كريم عبد السلام، فلسطين، في ديوانه الذي وسمه باسمها «أكتب فلسطين - متجاهلاً ما بعد الحداثة»، ويكشف أقنعة المواقف والسياسات المتخاذلة.....

جمال القصاص
يوميات الشرق الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ (أ.ف.ب)

«نوبل الآداب» للكورية الجنوبية هان كانغ

فازت الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ (53 عاماً)، بجائزة نوبل للآداب لعام 2024، نظير «نثرها الشعري المكثّف الذي يواجه الصدمات التاريخية»، وكشفها في كل عمل من

محمد السيد علي (القاهرة)
كتب أريك ماريا ريمارك

لا صوت يعلو على صوت القلب

إحدى الروايات التي سحرتني منذ قراءاتي الأولى، والتي بالتأكيد شجعتني - ومن ضمن أعمال خالدة ألمانية أدبية أخرى - على دراسة الأدب الألماني في جامعة بغداد

نجم والي

دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

دينا مندور
دينا مندور
TT

دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

دينا مندور
دينا مندور

تُعد المترجمة المصرية، دينا مندور، أحد أبرز مترجمي الأدب الفرنسي إلى العربية، حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة «السوربون» الفرنسية حول «الترجمة العربية للرواية الفرنسية ما بعد الاستشراقية»، ومن أبرز أعمالها المترجمة: «الفلاسفة والحب»، «صرخة النورس»، «مملكة الموضة زوال متجدد» و«حقيقة قضية هاري كيبر» الحاصلة على جائزة الأكاديمية الفرنسية، وشاركت في عدد من المنح التدريبية بوزارة الثقافة الفرنسية، وهي عضو في «جمعية مترجمي الآداب» بفرنسا... هنا حوار معها حول إشكاليات الترجمة وهمومها الأدبية والأكاديمية...

* طرحتِ تعبير «الرواية ما بعد الاستشراقية» في رسالتكِ للدكتوراه من جامعة السوربون ، حدثينا عن ماهية هذا الاصطلاح.

- عنوان الرسالة هو «الترجمة العربية للرواية الفرنسية ما بعد الاستشراقية»، وهو عنوان أول مرة يتم صكّه في رسالة بحث علمي، شملت الفترة من 1991 حتى يومنا هذا، أي على مدار نحو 30 عاماً. ويشير مصطلح «الكتابة ما بعد الاستشراقية» إلى الفترة التي أعقبت صدور كتاب «الاستشراق» (1978) لإدوارد سعيد. الكتاب الذي شكّل صدمة للغرب بالطبع، وأثار موجة من الجدل والهجوم العنيف على الاستشراق الكلاسيكي. ومن المعروف أن الارتباط الجزئي الذي تم بين الاستشراق الأدبي والعلمي من جهة، والاستعمار السياسي والعسكري من جهة أخرى، قد أدى لوصم الاستشراق بالتبعية المغرضة والمساعدة في تنفيذ أجندات سياسية تضرّ بالشعوب المُستعمرة أو التي تذكر في الكتابات الاستشراقية.

لذلك، فأدب ما بعد الاستشراق معنيّ بالفصل بين الكتابة في آخر 40 سنة عن الشرق، والاستشراق الكلاسيكي بداية من كتابات أنور عبد الملك في الستينات ومقاله البارز «هل مات الاستشراق؟» الذي طرح أسئلة شائكة قبل صدور كتاب إدوارد سعيد بأكثر من 10 سنوات، وانتقاد متخصصين فرنسيين لهذا الاستشراق الذي عاون الاستعمار. ثم سكت الكلام عن الكتابة عن الشرق الأوسط تحديداً، وشمال أفريقيا، وبدأت موجة كتابة جديدة من الكتابة أخذت تتكثف وتنتشر وتبرز في فرنسا، التي رصدتها الرسالة باعتبارها «ما بعد استشراقية»، وبيّنت اختلافاتها السياقية والأدبية عن الاستشراق الكلاسيكي القديم.

* كيف قمتِ بمعالجة هذه المرحلة من الكتابة بحثياً؟

- امتد البحث عبر 3 فصول، الأول اخترتُ فيه كُتاباً ذاع صيتهم في هذا الكادر الزمني، وفي أعمالهم سمات أساسية حول الكتابة عن الشرق، فتمركزت عينة البحث حول رواية «ليون الأفريقي» لأمين معلوف، ورواية «بوصلة» لماتياس إينار، ورواية «المصرية» لجيلبرت سينويه. أما الفصل الثاني فتطرق لعلم اجتماع الترجمة، الذي يتناول المرحلة التي يقطعها الكتاب الأصلي وصولاً لترجمته، بما في ذلك حيثيات عملية النشر في فرنسا والعالم العربي، وتحديداً الأسباب التي تجعلنا نُترجم أدباً يتحدث عنا بالأساس ولكن بلغة أجنبية، وأسباب حماس الناشر العربي لترجمة هذا النوع من الأدب، وسط تساؤلات طرحها البحث حول ما إذا كان لدينا فضول لرؤية أنفسنا في عين الآخر، وهل دعم المؤسسات الأجنبية لترجمة أصوات غربية تتحدث عن الشرق من الاتجاهات التي تحدد النشر؟ إضافة إلى لقاءات مع مكتبات رصدت بالإحصاءات نسب مبيعات هذا اللون من الكتابة، وحوارات مع عينة من المترجمين الذين ترجموا روايات فرنسية يدور عالمها في الشرق، كما تطرق الحديث عن مترجمين لا يُفضلون ترجمة هذا اللون من الروايات وأسبابهم في ذلك.

علم اجتماع الترجمة هو بحث في العلاقة بين الكُتاب والناشرين بوصفهم بشراً في الأساس لديهم مشاعرهم وأفكارهم، التي تحمل تأثيراتها على عملية الترجمة، ومدى حساسية مترجم في ترجمة نص يتحدث عن مجتمعه العربي، مكتوب بلغة أجنبية، فهل يتدخل لاشعورياً، فرغم الاحتراف يكون النص بيد إنسان، حيث هناك عامل التعليم وعلاقته باللغة، فنحن نفكر باللغة، والتكوين الفكري يؤثر في الاختيارات اللغوية للمترجم مقارنة بالنص الأصلي، وحساسيته في التعامل مع بعض الألفاظ، وهذا ما تناولته بتفصيل أكبر في الفصل الأخير من الرسالة حول إشكاليات الترجمة.

* ما السياقات الأبرز للكتابة ما بعد الاستشراقية التي قمتِ برصدها؟

- الحديث عن كل ما هو استشراق ظل شائكاً في فرنسا، أقرب لتابو. ومن أهم عناصر تشكيل معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية» هجرة الكتاب العرب للغرب، حتى صارت كتاباتهم عن العالم العربي مرتبطة بنسيج الكتابة في فرنسا، بداية من أمين معلوف، وسينويه، وطاهر بن جلون، وآسيا جبار، وروبير سوليه. كل تلك الأسماء من أصول عربية تعيش في فرنسا، فتشكيلهم وخلفيتهم الشرق أوسطية العربية برزت في الكتابة الفرنسية، وظل سؤال الهُوية مطروحاً في أعمالهم. وكانت هي الشغل الشاغل لأمين معلوف، صاحب العبارة الشهيرة «هُوية واحدة وانتماءات عدة»، وعندما كتب الفرنسي ماتياس إينار عن الشرق لم يذهب إليه بأحكام مُسبقة، بل اندمج تماماً في المجتمع اللبناني والسوري بشكل وثيق، وليس بشكل فانتازي. فقد ابتعدت الكتابة هنا عن الأسلوب المُعلّب الفانتازي المشغول برصد الشرق من هذه الزاوية، كما فرضت موضوعات مثل الربيع العربي والهجرات الشرعية وغير الشرعية نفسها على الأدب كقضايا معاصرة، مع ملاحظة أن المجتمع العربي بشكل عام لم يعد بعيداً بسبب الهجرة، ولم تعد صورة العربي محفوفة بالتغريب الذي كان أحد أبرز عناصر الجذب في الكتابة الاستشراقية. كتابات أمين معلوف، على سبيل المثال، وسّعت الكتابة لإطار إنساني أكبر، من خلال تخليط شخصيات غربية وعربية في متن واحد، فالحدود تم تمييعها من خلال الهجرات بشكل كبير، وهذا انعكس على الأدب.

ولأن الموضوع جديد في مجالات البحث العلمي، فقد انعكس ذلك على قلة المراجع، فهناك أبحاث أكاديمية فرنسية كثيرة، مثلاً عن أدب أمين معلوف، لكن دون الحديث عن ترجمة أعماله إلى العربية، وهو ما تناولته في البحث. كما لم تتوفر أبحاث تخص اعتبار أعماله «ما بعد استشراقية»، لذلك لجأت لتفكيك الاستشراق الكلاسيكي كمدخل تاريخي لما بعد الاستشراق في الأدب المترجم للعربية.

* في مشروعكِ للترجمة ثمة خيط أدبي يتفاعل مع موضوعات تخص المرأة. حدثينا عن هذا الاختيار؟

- يبدو أن ذائقتي تميل للموضوعات التي تتفاعل مع كيان المرأة، فأول عمل قمت بترجمته كان رواية «فاديت الصغيرة» للكاتبة جورج صاند، وكانت تتحدث عن فتاة مراهقة في مجتمع مُغلق تبحث عن الحرية، والمفارقة أن مؤلفة الرواية نفسها اختارت اسم رجل حتى تستطيع النشر، وهناك رواية «صرخة النورس» وهي من أهم الأعمال التي قمت بترجمتها، وهي سيرة ذاتية للممثلة الصمّاء الفرنسية إيمانويل لابوري، التي طالبت منذ سنوات مراهقتها الاعتراف بحقوق الصُم في فرنسا، وهي من أسست المسرح المرئي العالمي، وهو أول مسرح يدمج الناطقين والصم، وكتبت هذه السيرة وهي في العشرين من عمرها.

وأتوقف كذلك عند كتاب «المرأة الثالثة... ديمومة الأنثوي وثورته» للفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل ليبوفيتسكي، الذي قسّم تاريخ المرأة من وجهة نظره إلى 3 مراحل: الأولى مرحلة «المرأة المُأبلسة»، ثم مرحلة الاحتفاء بظهورها وتمجيد جمالها كما تجلى في عصر النهضة، وكان الرجل في المرحلتين هو من يحدد قيمتها، أما المرحلة الثالثة فهي المرأة التي تجد طريقها في كل شيء، ويطرح تساؤلات كثيرة من خلال ربطه بين المراحل الثلاث.

* كانت لديك محطة أخرى في ترجمة جيل ليبوفيتسكي، من خلال كتاب «مملكة الموضة - زوال متجدد»، الذي يطرح فيه تأملات فيما يسميها بـ«الحداثة المفرطة».

- تطرق ليبوفيتسكي لموضوع الموضة بعيداً عن الطرح التقليدي والسطحي له، والتفت إلى الشبكة الاجتماعية لتكوينها، واعتبارها مظهراً من مظاهر المنافسة الاجتماعية، وهو ما أطلق عليها «مملكة الزائل» بمعنى المملكة التي تزول وتعود من جديد، لذلك فالزوال المُتجدد إحدى سمات الموضة، سواء في الأزياء أو العمارة والأثاث حتى الموسيقى، فالحداثة المفرطة من موضوعات ليبوفيتسكي التي يتأملها في أعماله، وأعتقد أنه أحد أبرز المفكرين في فرنسا، وأفخر أنني أول من قدمته إلى العربية، وأبدأ قريباً في ترجمة أحد أعماله الجديدة، التي تسعى إلى تفكيك الظواهر التي تبدو هامشية، ولكنها كاشفة عن أعمق مشكلات المجتمع.

- هل تعدّين أن حصول عمل أدبي على جائزة أدبية حيثية كافية لترجمته إلى العربية؟

- ليس معياراً كافياً أبداً، وقد طالعت كثيراً من الأعمال التي حازت جوائز أدبية فرنسية ولكنني شعرت بأنها غير موائمة لذائقة القارئ العربي، وهناك معيار آخر هو أنني لا بد أن أحب العمل الذي سأختار ترجمته لأنني أمضي وقتاً طويلاً معه، وفي الترجمة الصادرة حديثاً لي لرواية «حقيقة قضية هاري كبير» لجويل ديكر، لم يكن حصولها فقط على جائزة الأكاديمية الفرنسية 2012 هو المعيار الوحيد الذي دفعني لترجمتها، ولكن تميز الرواية رغم كبر حجمها.

طالعت كثيراً من الأعمال التي حازت جوائز أدبية فرنسية ولكنني شعرت أنها غير موائمة لذائقة القارئ العربي

* إلى جانب الأسماء المعاصرة، ترجمت لأسماء كلاسيكية في الأدب الفرنسي، أشهرهم مارسيل بروست. حدثينا عن تجربتك في ذلك، قياساً بترجمتك لأعمال كتاب معاصرين.

- أعتقد أن العامل الرئيسي هنا هو الحفاظ على الرسالة والأسلوب الأدبي، فالكتابة الروائية هي أسلوب بالأساس، فلا يمكن أن يشعر القارئ أن جويل كيبر وإيمانويل لابوري وبروست يحملون نفس الأسلوب حين يترجمهم نفس المترجم، فعليه أن يحرص على تقديم أسلوبية الكاتب، وألا يترك أسلوبه الخاص يطغى، فيلغي الأسلوب المتفرد لكل كاتب أصلي. ويعد هذا من أهم إشكاليات الترجمة، فمارسيل بروست على سبيل المثال ذهني جداً في كتابته، ولديه ارتباط كبير بالصور التي يستخدمها بكثرة في تعبيراته، فيكون حفاظ الترجمة على أهمية هذه الصور لديه أمراً ضرورياً، حتى لو اضطررنا للجوء للهوامش في أقل الحدود. وأحياناً ما يكون من مفارقات الاحترافية أن يلجأ المترجم لبعض «الخيانة» للنص الأصلي وإجراء ما يلزم من تغييرات شكليّة كي يراعي شفرات اللغتين (لغة المصدر، ولغة الاستقبال).

* توليتِ مناصب مهمة بهيئة الكتاب المصرية والمجلس الأعلى للثقافة، برأيك ما أبرز مشكلات الكتاب المُترجم في مصر؟

- أعتقد أن المشكلات الأساسية تظل في تكوين المترجم من جهة، والميزانيات المرصودة، سواء لشراء الحقوق الأدبية أو إعادة طباعة عناوين مطلوبة من القراء، ولكن يتم التوقف عن إعادة طباعتها، وهناك كذلك مشكلة في خريطة التوزيع، فلا أفهم مثلاً لماذا لا يقوم «المركز القومي للترجمة» بتوزيع إصداراته في المكتبات المختلفة، وقصرها على منافذ المركز وبعض المنافذ في الجامعات ومعارض الكتاب بالطبع؟ جهد ممتاز، لكنه غير كافٍ في ظل المتغيرات الحديثة التي تطرأ على حياة البشر.