شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

اسمه الغني بالدلالات بدا مزيجاً من إغواء اللون وترجيعات الزمن الأندلسي

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل
TT

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

قلّ أن حظي شارعٌ من شوارع المدن الحديثة، بالمكانة التي حظي بها شارع الحمراء في العاصمة اللبنانية. لا بل إن اسم ذلك الشارع، يكاد يكون موازياً لاسم بيروت نفسها، واختزالاً لصورها المتقلبة في مرايا التفتح أو الذبول، الازدهار أو الانحلال. صحيح أن الرقعة الضيقة للمدينة المحشورة بين فكي الجبال والبحر، لم تسمح للشارع بأن ينافس على مستويي الطول والاتساع، كلاً من الشانزليزيه في باريس، أو الشارع الخامس في نيويورك، أو أكسفورد في لندن، ولكن الصحيح أيضاً أن شارع الحمراء الذي يمتد من محلة الصنائع شرقاً، لينتهي في الغرب عند تقاطع السادات، وبطول ألف وخمسمائة متر، قد اكتسب سمعته ومكانته من عوامل مختلفة حولته في النصف الثاني من القرن العشرين إلى واحد من أشهر الشوارع في بلاد العرب، وأكثرها صلةً بروح العصر وصور الاجتماع المديني.

وإذا كان اسم الحمراء بحد ذاته هو أحد العناصر المهمة التي منحت الشارع جاذبيته وسحره الفريدين، فإن سبب التسمية لم يكن واحداً عند أولئك الذين تصدوا بالدراسة المعمقة لتاريخ المدينة العريق والحافل بالأحداث. فإذ يذكر عبد اللطيف فاخوري أن سبب التسمية يعود إلى بني الحمرا الذين قدموا تحت ضغط القبائل القيسية من العراق إلى سهل البقاع اللبناني، قبل أن يهبطوا لاحقاً إلى بيروت، ليقطنوا ضاحيتها الغربية المسماة برأس بيروت، يرجح سمير قصير أن تكون تسمية الحمرا مرتبطة بذلك الفيض اللافت من «أنوار النيون التي أضاءت قبل عقود عدة لافتات المقاهي وقاعات السينما والمشارب والمقاهي، بالإضافة إلى المظاهر الأوروبية التي تسم الأمكنة والنساء».

وإذ يشير قصير إلى احتمال أن تكون التسمية مرتبطة بكثبان الرمل الحمراء التي زرعها الفلاحون بالصبار في أزمنة سابقة، يؤكد في الوقت نفسه على الذاكرة العربية الجمعية التي أعادتها التسمية إلى أطياف قصر الحمراء في غرناطة، حيث التماثل وارد بين الشارع البيروتي والأندلس الحافلة بصور الملذات والمتع ونضارة العيش.

وحيث لم تفت المؤرخين الإشارة الى الدور المفصلي الذي لعبه تأسيس جامعة بيروت الأميركية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، في نمو المنطقة الواقعة بين شارعي بلس والحمراء، فإن مراكز الثقل البيروتية الكبرى ظلت حتى منتصف القرن الفائت موزعة بين وسط المدينة والمنطقة المعروفة بالزيتونة وبعض المتفرعات الأخرى. لا بل إن الكاتب والأكاديمي اللبناني جبرائيل جبور يتحدث عن أحوال المحلة التي كان يطلق عليها قبل قرن من الزمن اسم «مزرعة الحمرا»، إذ كان الشارع المعروف باسم جان دارك يرسم بأبنيته القليلة الحدود الغربية للعاصمة اللبنانية.

والواقع أن الصعود المتسارع لدور الشارع كان يتغذى من عوامل عدة، بينها تعاظم دور العاصمة نفسها التي تمكنت بفضل موقعها الجغرافي المميز، وبما تمتلكه من مساحات الحرية والتنوع، إضافة إلى إفادتها من فائض الثروة العربية النفطية، من أن تتحول إلى نقطة التقاء نادرة بين الشرق والغرب، وأن تصبح قِبلة العرب ومصرفهم ومطبعتهم وفندقهم ومركز ترفيههم وموئل المعارضين منهم. ولم يكن مستغرباً أن يصبح شارع الحمراء منذ حقبة الاستقلال المنصة الأهم لرياح الحداثة الوافدة، وهو الذي استطاع أن يوائم بنجاح باهر بين أقانيم الاقتصاد والسياحة والثقافة والاحتفاء بالحياة. وفي حين استطاعت واجهات محلاته الأنيقة واللماعة أن تبهر أنظار زائريه بآخر ابتكارات دور الأزياء في أوروبا والعالم، انتشرت بين ظهرانيه العديد من دور السينما والمسرح وصروح الفكر والفن ومقرات الأندية الثقافية. دون أن نغفل الدور الرائد لجريدة «النهار»، التي تمكنت بما اجتذبته من قامات صحافية وفكرية أن تشكل العمود السياسي الفقري للكيان اللبناني، بقدر ما تمكن ملحقها الثقافي من أن يرفد حركة التجديد الشعرية والأدبية، ببعض أفضل أسمائها ونتاجاتها.

ولا نستطيع أن نغفل في الوقت ذاته الدور المحوري الذي لعبته مجلة «شعر»، وندوتها الحوارية الأسبوعية، في إطلاق الثورة الثانية للحداثة، بعد أن تكفلت «الآداب» بالثورة الأولى. كما لا نستطيع أن نغفل «الندوة اللبنانية» التي أرادها ميشال أسمر أن تكون منصة مفتوحة وجريئة لحوار الثقافات، ولا مسرح البيكاديللي، الذي استضاف صوت فيروز ومسرح الرحبانيين الغنائي، فضلاً عن داليدا وميكيس تيودوراكيس وشارل أزنافور، وغيرهم من فناني العالم ومبدعيه. أما مقاهي الرصيف التي انتشرت على جانبي الشارع، والتي اتسعت دائرة روادها لتشمل خليطاً من النخب المثقفة، بشقيها المقيم والوافد، فقد بدت التجسيد الأمثل لصورة المدينة الشرفة، مقابل أنواع أخرى من المدن، مغلقة على نفسها وشبيهة بالقلاع.

أما العد العكسي لازدهار الشارع ودوره المهم على الصعد كافة، فقد بدأ مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، التي لم يستطع تجنب شظاياها ومفاعيلها المدمرة، ثم زاد من حدته تذرر الكيان نفسه، الذي نخره الفساد والتنابذ الطائفي من كل جانب، دون أن يتاح للشارع المتماهي مع روح بيروت، أن يستعيد وهجه السابق وماضيه الوردي. صحيح أن قوة الحياة التي تعتمل في أحشائه قد عصمته من السقوط بالضربة القاضية، إلا أنه كان يخسر دوره بالنقاط، ويفقد بين صدمة وأخرى ما تبقى له من رصيد.

وقد يكون زياد الرحباني بما يملكه من موهبة ورؤية ثاقبة الى المستقبل واحداً من الفنانين القلائل الذين حدسوا بالمآلات القاتمة لشارع الحمراء، كما للمدينة برمتها، حين ذهب في عمله المميز «شي فاشل» إلى القول بأن انفراط عقد المدينة يعني بالضرورة انهياراً لمسرحها، بما هو فن مديني بامتياز. ولم يمر بعد ذلك وقت طويل حتى أقفل مسرح البيكاديللي أبوابه، وأطفأت دور السينما أضواءها الواحدة تلو الأخرى، وأقفلت مقاهي الرصيف العريقة كـ«الهورس شو» و«الستراند» و«الألدورادو» و«المودكا» و«الويمبي»، ليبدأ بعدها عصر المقاهي المعولمة ومطاعم الوجبات السريعة ومؤسسات تبييض الأموال.

العد العكسي لازدهار الشارع ودوره المهم على الصعد كافة بدأ مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية

وفي ظل الانهيار المالي الأخير، حيث لم تعد المداخيل الشحيحة لمثقفي المدينة وكتابها الأحياء، تسمح لهم بدفع التكلفة الباهظة لفناجين قهوتهم التي دأبوا على احتسائها في مقاهي الشارع الرئيسي، راح هؤلاء يبحثون في متفرعات الحمراء الضيقة عن أماكن أقل كلفة وأكثر تواضعاً للقاءاتهم اليومية، وهو ما عثروا عليه بعد لأي في مقهى «الحمرا إكسبرس»، الذي تذكّر بساطته وطابعه الرومانسي بصوت فيروز وأغاني ماري هوبكنز الدافئة.

وإذا كانت الصورة النمطية التي رسمتها لشارع الحمراء، الذاكرة الجمعية لسكان الأرياف النائية والضواحي المهمشة، تبدو مزيجاً معقداً من «الحقد» الطبقي على الشارع، والوقوع المضاد في فخ جماله المغوي، فإن الحروب والأزمات المتعاقبة التي نزلت به، قد قلصت المسافة بينه وبين ضواحي المدينة وأحيائها الفقيرة الأخرى، متكفلة بتحويل الضغائن المترسبة في أذهان «أعدائه» السابقين إلى رغبة ملحة في ارتياده أو الإقامة بين ظهرانيه. والأرجح أن الذين قرروا بعشرات الآلاف اللجوء إلى شارع الحمراء، بفعل الدمار الكارثي الذي ألحقته بمناطقهم وأماكن سكناهم الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، لم يجدوا في الشارع المنهك من الإهمال والغارق في نفاياته وفوضاه، ما يطابق تصوراتهم عنه، بل وجدوا فيه نسخة معدلة قليلاً عن الشوارع البائسة التي غادروها مكرهين.

ولعل أكثر ما يستوقف الوافدين إلى الشارع في الآونة الأخيرة، هو عدم قدرتهم وسط زحام البشر والسيارات والدراجات النارية على التحرك من أماكنهم بوصة واحدة، إلا ببذل الكثير من العناء. أما اللون الأحمر الذي انتزع الشارع منه اسمه وبريقه الشهواني، فقد تراجع منسوبه إلى حد بعيد، لتحل محله الألوان الداكنة والسوداء لسكان الشارع الجدد، ولضيوفه الهائمين على وجوههم، بحثاً عن أمان مفقود ووطن متعذر التحقق.

اللون الأسود الذي رفعت منسوبه بشكل ملحوظ ثياب النازحين.


مقالات ذات صلة

رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية

ثقافة وفنون قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة

رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية

كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الرقائق الذهبية، زُيّن بعض منها بنقوش تصويرية

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون دينا مندور

دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

تُعد المترجمة المصرية، دينا مندور، أحد أبرز مترجمي الأدب الفرنسي إلى العربية، حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة «السوربون» الفرنسية

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

يحتضن الشاعر المصري كريم عبد السلام، فلسطين، في ديوانه الذي وسمه باسمها «أكتب فلسطين - متجاهلاً ما بعد الحداثة»، ويكشف أقنعة المواقف والسياسات المتخاذلة.....

جمال القصاص
يوميات الشرق الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ (أ.ف.ب)

«نوبل الآداب» للكورية الجنوبية هان كانغ

فازت الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ (53 عاماً)، بجائزة نوبل للآداب لعام 2024، نظير «نثرها الشعري المكثّف الذي يواجه الصدمات التاريخية»، وكشفها في كل عمل من

محمد السيد علي (القاهرة)
كتب أريك ماريا ريمارك

لا صوت يعلو على صوت القلب

إحدى الروايات التي سحرتني منذ قراءاتي الأولى، والتي بالتأكيد شجعتني - ومن ضمن أعمال خالدة ألمانية أدبية أخرى - على دراسة الأدب الألماني في جامعة بغداد

نجم والي

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة
TT

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

يحتضن الشاعر المصري كريم عبد السلام، فلسطين، في ديوانه الذي وسمه باسمها «أكتب فلسطين - متجاهلاً ما بعد الحداثة»، ويكشف أقنعة المواقف والسياسات المتخاذلة من حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على مدار عام مضى، ولا تزال مستمرة على يد المحتل الإسرائيلي، محولاً الشعر إلى فعل مقاومة يعري هذه المأساة، وحبال التواطؤ التي تسهم في صنعها واستمراريتها، ضارباً عرض الحائط بكل القيم والقوانين والأعراف الدولية والإنسانية.

ومثلما تتعدد صور هذه المأساة الوحشية، تتعدد صور فعل المقاومة في الديوان، الصادر حديثاً عن دار «يسطرون» للنشر بالقاهرة، مرتكزاً على السخرية سلاحاً للهدم والبناء، وهتك المسكوت عنه، والمهمش فيما وراء الأشياء وفي طوايا الواقع المرير. وعبر 114 صفحة، يتحول الديوان إلى مسرح لتراجيديا مفتوحة على البدايات والنهايات، تختلط فيها الملهاة بالمأساة، ويراوح الإيقاع فنياً بين اللهاث للقبض على الحدث في فورانه الماثل للعيان، وتأمّل ما نجم عنه من خراب ودمار وقتل وتجويع وتشريد واغتيال لكل ما هو حي، جراء هذا العدوان المتوحش، الذي لم تعرف البشرية نظيراً له فيما مرت به من حروب ونكبات. وأصبح يثير قلق الوحوش ملوك الغابات والبحار معبرة عن قلقها البالغ والشديد على الاحتمال، أو قدرة الأرض على تحمل دماء وعظام الأبرياء المقتولين غدراً.

فهكذا، من شعرية التقرير بنسقها السردي الصادم المباغت، وشعرية الدراما التي يتنازع فيها الصراع على التشبث بإرادة الحياة والحلم بغد أكثر عدلاً وأماناً، إلى شعرية التهكم والسخرية حتى من الموت نفسه، باعتباره تناسلاً جديداً للحياة في حيوات أجساد أخرى. يوثق الشاعر لكل هذه المرايا المهشمة بمجموعة من الصور الملتقطة من رحم المأساة في غزة، كما يستدعي صوراً أخرى لأبطال ومناضلين قاوموا المستعمر المحتل دفاعاً عن الحق والكرامة الإنسانية؛ مثل جيفارا.

ويستحضر الصورة التراثية الأيقونة الشائعة لصلب المسيح، يكررها في لقطات متتالية تشبه البانوراما التشكيلية، حيت يتناثر عليها الضوء والعتمة من زوايا ومساقط مختلفة، ساتراً عورته بالكوفية الفلسطينية الشهيرة، في رمزية حية تمزج الدال بالمدلول، تشي بأن المسيح يصلب من جديد هنا، وأن كل دعاوى الخلاص التي يطلقها المحتل هي محض افتراءات وأكاذيب مضللة.

وفي صور أخرى يبدو القمر بكامل استدارته محلقاً بمفتاح القدس في السماء، وتزينه هذه الكوفية أيضاً؛ محتفظة بنصاعتها برغم القذائف التي تصوب إليها من كل الجهات. كما يستند التوثيق على حقائق دامغة تتمثل في نص القرارات الدولية التي صدرت عن منظمة الأمم المتحدة منذ عام 1947، وتؤكد حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة فوق أرضهم المغتصبة. لكل هذا يكتب الشاعر فلسطين، يمد ألف «أكتب» في الغلاف، ويأخذ حرف الطاء شكل خريطة فلسطين، كأنه يثبتها في جدار التاريخ كحقيقة غير قابلة للمحو أو النسيان. وكما يقول مستهلاً الديوان:

«أكتب فلسطين لأني لست قاتلاً أو شاهدَ زور

أكتب فلسطين ليتوارى شبحُ المنفى وتغادر الطيور السماوات

المستأجرة

أكتب فلسطين فتعود المستوطنات وطناً

أكتب فلسطين فتطرد القواميس كلمة النكبة ويتراجع الضباعُ إلى

البحر

أكتب فلسطين لأنضم إلى الشهداء في ملكوتهم والضحايا في

محارقهم واللاجئين في مخيماتهم والمقصوفين في عراء الإنسانية

أكتب فلسطين لأنهض في نفسي، وينهض معي من يرى ويسمع

أكتب فلسطين بالأحلام كلها، بيقين الأم الثكلى: سنبقى هنا...

قلنا سنبقى

أكتب فلسطين ضد الوحوش وفى مواجهة المجرمين

ليت لي حيواتٍ لأكتب وأكتب، وأصواتاً لأردد دون توقف، وأيديَ كثيرةً

لأحمل البنادق».

يضم الديوان ثلاث قصائد تشكل الكتلة الأساسية هي: «ناقد في شرفة الطابق العاشر، جوليات وداوود قبل المونتاج، إلهي إلهي... لماذا تركتني»، تعقبها قصيدة طويلة في نحو 50 صفحة تشكل محور الإيقاع لهذه الكتلة، يفكك فيها الشاعر اسم فلسطين ويحول حروفه لأوتار رنانة: «فاء... فلسطين، لام... لأن المسافة صفر، سين... السفاح المسكين، طاء... طبعاً مع الوحوش أفضل جداً، ياء... يا ليل القمر فلسطيني، نون... نحيا سيرة مقاوم». بينما تبدو الذات الشعرية كأنها طفل يقف وسط الخراب على عتبة اللغة والكلام يعيد تهجئة الاسم، كأن الاسم نفسه بمثابة مفتاح للولوج إلى العالم المحيط، ومعرفة خباياه وأسراره، ويتم ذلك في وحدات شعرية تلعب على جدل الاتصال/ الانفصال، لتشكل من خلاله ضفيرة شعرية يتواشج فيها الحدث الدامي المتناثر على الأرض، وما يتركه على عين النص والقارئ من ذبذبة بصرية نازفة أيضاً.

يقول الشاعر في النص الأول «ناقد في شرفة الطابق العاشر»، مستدعياً الآخر الضد، في حوار ضمني أحادي، تعلو فيه نبرة الاستعلاء وادعاء الحكمة، كما يسخر من فكر ما بعد الحداثة باعتباره أسلوباً ينطوي على التشكيك في التصورات والرؤى والأفكار الراسخة، فلا ثقة في العقل والحقيقة والهوية والموضوعية كقيم محفزة على التقدم وبناء المستقبل، في مقابل الترسيخ لفكرة «التشيؤ» معياراً لعالم جديد مصطنع ينهض على منطق السطوة والقوة والنفوذ، وهو المنطق نفسه الذي يحكم عقلية العدو الغاصب في هذه الحرب، نلمس ذلك في مقتطف من هذا النص يقول:

«أيها الشاعرُ،

أحذركَ

جلوسُكَ على الرصيف لا يعطيكَ الحق أن ترى الحرب

لا أحد هنا يتحدثُ عن القتل المنظم أو القتل العشوائي

لا أحد يتكلم عن الإبادة وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها

لا أحد يلتفت إلى الأطفال المقتولين والأطفال الممزقين والأطفال

التائهين تحت الأنقاض

لا أحد

لا أحد من فريقنا يلتفت إلى تلك الأمور المعقدة

تفهمني طبعاً،

اغسل يديكَ من أوحال السياسة لو سمحت

وابتعد عن العشوائيات والباعة المتجولين في المترو ومولد الحسين.

لا يهمني أن تكون غير مرئي

لكن ليس من شأنك أن ترى الطفلة الميتةَ من الجوع،

أو الطفلَ المقتولَ واسمُه مكتوبٌ على جبهته، لأن الموت يُنسي

كثيراً

أو الطفلَ الذي يكتب اسمَ عائلته على كفه قبل أن ينام

أو الطفلَ الذي يقول لأمه: أنا خائفٌ يا أمي، رغم موته منذ

ساعتين

ليس من شأنكَ

أنت مجرد شاعر في صحراء ما بعد الحداثة

عيناك لا تتعدى أوهامَكَ الصغيرة

وخيالكَ لا يتجاوز بابَ بيتكم».

يوثق الشاعر لكل المرايا المهشمة في قصائده بمجموعة من الصور الملتقطة من رحم المأساة في غزة

من ثم، تبرز فكرة المحاكمة في الديوان، وتتخذ منحى هزلياً على لسان هذا المجرم، في نص «سين... السفاح المسكين» الذي يلعب على حرف السين من أبجدية اسم فلسطين، فلا هو يستطيع أن يتخلص من القتل الذي تحول إلى فعل إدمان، كما تبدو محاولات التطهير أشبه بمتاهة وحلقة مفرغة، تتسع كل يوم وتتحول في مواجهة فعل المقاومة الباسلة إلى هاوية، يخشى السفاح أن تبتلعه، لكنه يظل مؤرقاً، يجأر بالشكوى أمام قاضٍ متوهم، صنعه من هلاوس هذا الأرق الممض على مدار سبعة أيام، في دلالة موحية على انطلاقة «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023:

«في اليوم الثالث

جاء السفاحُ المسكينُ للمحكمة

سيدي القاضي:

لن تصدقَ حتى ترى بعينيك

أنا نفسي لم أصدق حتى حملوني في هليكوبتر إلى الشاطئ

يتوالدون من حبات الرمل سيدي

نعم،

الأطفالُ الذين قتلناهم،

لأنهم سيؤذوننا في المستقبل،

رأيتُهم يختبئون في حبات الرمال

ينمون على الصخور مع الطحالب

ويلقى بهم البحرُ مع الموج

ثم يكبرون في الليل تحت ضوء القمر

تصور سيدي...

قصفنا الشاطئ والبحر والأمواج والصخور

لكنهم ما زالوا يختبئون، ثم يتسللون عند الفجر

لا يعقل سيدي القاضي أن نحارب البحر ورمال الشاطئ والصخور

هذه الحربُ غيرُ عادلة

وتستنزفنا كل يوم... كل يوم».

في السياق نفسه، يوسع الديوان درامياً من فضاء هذا المشهد، عبر مسرحية هزلية من فصل واحد بعنوان «الزعماء يصنعون السلام» (Handmade)، أبطالها خمسة شخوص يمثلون القوة العظمى التي تتحكم بمصير العالم، في إشارة إلى الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن وتملك حق النقض (الفيتو). يجلسون على قطع من الحجارة بين أنقاض مبنى متهدم تفوح منه رائحة الدماء وأشلاء القتلى، يحولهم النص إلى هياكل بشرية، يتبادلون الحوار حول السلام والموت والأرض وغواية الغزل والحب، وفي آخر تصويت عن مدى استعداد الأرض للسلام «ترتفع أصوات انفجارات وطلقات رصاص وقصف بالطائرات، ويشتعل المسرح ليتفرق الزعماء هاربين بحثاً عن مخبأ».

في ختام هذه الإطلالة على هذه المغامرة الشعرية الشيقة والمتميزة، يترك الشاعر كريم عبد السلام النهاية مفتوحة على كل الاحتمالات، بينما تطل من قاموس «لسان العرب» كلمة حياة بكل مرادفاتها واشتقاقاتها، كأنها تصارع الموت بكل مرادفاته، تاركاً «لسان الغرب» تعبر عنه الصور الدموية للمأساة، وفي «لسان الحال» يعيد نشر الوثائق الدولية التي تنص على حق الفلسطينيين في الحياة.