شهد شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1994 حدثاً مهماً ذا صلة بالسيرة الإبداعية لكاتب الرعب والإثارة الأميركي الشهير ستيفن كِينغ. ففي الواحد والثلاثين من ذلك الشهر، حملت مجلة «ذا نيو يوركر»، إلى قرائها، ولأول مرة في تاريخها، قصة من قصصه القصيرة: «الرجل في البدلة السوداء». وقبل القصة سالفة الذكر، وفي الشهر نفسه، صدر آخر عدد من مجلة «أنتيياس - Antaeus»، محتوياً قصة أخرى لكينغ؛ قصة «ويلي الأعمى». «أنتيياس» مجلة أدبية فصلية، أسسها في مدينة طنجة دانيال هالبيرن وبول باولز. وتولى تحريرها هالِبيرن. صدر عددها الأول في صيف 1970. واستمرت تصدر في طنجة إلى حين انتقالها إلى مقرها الجديد في نيويورك منتصف الثمانينات من القرن الماضي، لتشهد نيويورك صدور العدد الأخير منها.
وبين العامين 1994 و1965، يمتد تسعة وعشرون عاماً، هي المدة التي تفصل بين نشر قصتي كينغ المذكورتين أعلاه، ونشر قصته «كنت لص قبور مراهقاً» في مجلة المعجبين «كوميكس ريفيو». أما أول قصة تلقى مقابلاً مالياً على نشرها، فكانت «الأرضية الزجاجية»، نُشِرَتْ في مجلة «قصص غامضة مرعبة» في 1967.
تغير في المناخ الثقافي
بنشرهما قصتي كينغ، أسهمت المجلتان في ردم أخدود صغير من الأخاديد الفاصلة في الثقافة السائدة بين ما هو «نخبوي» و«شعبي». ويوحي فعل المجلتين بحدوث تغير في المناخ الثقافي الأدبي والأكاديمي تجاه القص الشعبي «popular fiction»، أو الفن القصصي الشعبي، كما يسميه البعض؛ تغيرٌ ظهرت إرهاصاته في الثمانينات، وتبلور وبلغ إحدى ذرواته كما يبدو في منح جامعة كولومبيا الأميركية في نيويورك جائزة «بوليتزر» لرواية «يمامة وحيدة - 1985» لمؤلف روايات «الويسترن» والسيناريست لاري ماكميرتري. ذكرت هذا في مقالة سابقة.
وفي عام 1994 نفسه، وبدون أن يعلم كينغ أو غيره من كُتّاب القص الشعبي، ولا حتى أميركا كلها، باستثناء بعض طلاب الأكاديمي والروائي الأميركي ديفيد فوستر والاس، وربما بعض زملائه أيضاً؛ كانت رواية كينغ «كاري - 1976» ورواية ماكميرتري «يمامة وحيدة»، وكذلك «صمت الحملان - 1988» لتوماس هاريس، ضمن قائمة من ثمانية كتب من القص الشعبي اختارها والاس لتدريسها في «مقرر اللغة الإنجليزية 102 - التحليل الأدبي» في فصل الخريف.
تحذير والاس
يوضح والاس للطلاب المحتملين ضمن وصفه للمقرر، في الخطة الدراسية التي عُثر عليها في مكتبه بعد موته في 2008، أن مقرر «اللغة الإنجليزية - 102» يهدف إلى إطلاعهم وتعريفهم على بعض الطرق لقراءة القص على نحو أكثر عمقاً، وإكسابهم رؤى للكيفية التي تشتغل بها بعض النصوص، ولأجل أن تتبلور لديهم أسباب ذكية، سواء لحب أو لعدم حب أي نص. وفي الأخير، للكتابة بوضوح وعلى نحو مقنع.
ويضيف أنهم سيقرأون مجموعة متنوعة من أجناس القص الذي يعدُّ شعبياً أو تجارياً: الغموض، الرعب، البوليسي، ويسترن، ونوار (Noir)، والفانتازي. وسيتجلى نجاح «الكورس» في اكتسابهم القدرة، في نهايته، على اكتشاف وتحديد التقنيات المتطورة والثيمات الكامنة تحت السطح في الروايات التي لا تبدو سوى للترفيه بالقراءة السريعة خلال سفر بالطائرة أو جلسة على الشاطئ.
ويحذر طلابه ألا يدعوا الصفات التي قد تبدو خفيفة الوزن، على حد قوله، تضلهم وتقودهم إلى الاعتقاد بأن هذا «الكورس» مضيعة للوقت. ويؤكد أن تفكيك وقراءة تلك النصوص نقدياً سيكونان أشد صعوبة من تفكيك وقراءة النصوص «الأدبية» من وجهة نظر تقليدية.
والاس لم يكن وحيداً
اللافت والمهم أن والاس، الروائي الذي أقحمه النقاد في قوالب تصنيفات عدة، لم يكن أستاذ الأدب الوحيد الذي درّسَ نصوصاً من القص الشعبي، خلال عقد التسعينات بالذات. وكما ذكرت في مقالتي «جدار عازل يقسم الثقافة إلى ثقافتين والقص إلى قصين» (الشرق الأوسط - 5/9/2023»، حدث تغير دراماتيكي في الموقف التقليدي المتعالي تجاه القص الشعبي أفضى إلى حدوث ما يمكن وصفه بالطفرة في نقده والتنظير عنه ودراسته.
«ميتالِيبسيس» في القص الشعبي
ذات أيام كرّسْتُها للقراءة عن «ميتاليبسيس»، المصطلح الذي نقله جيرار جينيت من البلاغة إلى علم السرد، الكلاسيكي كما يسمى الآن بعد الظهور الانفجاري لعلوم السرد ما بعد الكلاسيكية ابتداءً من التسعينات أيضاً، اكتشفت وجود كتاب بعنوان «عندما تتصادم عوالم القصة... ميتاليبسيس في القص الشعبي والفيلم والكوميكس، 2015» للدكتور جف ثوس المتخصص في نظرية السرد، وعلم السرد عبر الوسائطي.
يطرح د. ثوس في كتابه نظريته عن «ميتاليبسيس» ويطبقها على الأشكال السردية الثلاثة الواردة في العنوان الثانوي. كان رأيي فيه، بعد الانتهاء من قراءته، ولا يزال، أنه من أفضل الكتب القليلة التي قرأتها التي تتناول ظاهرة «ميتاليبسيس» تنظيراً وتطبيقاً. وأكثر ما أدهشني فيه - ربما لأنني لم أتوقعه بتلك الكثافة - تجلي «ميتاليبسيس» كمكون فني وخصصية جمالية في القص الشعبي. وكان ستيفن كينغ حاضراً، مع أسماء أخرى، في الفصل الثاني «القص - Fiction» عبر سلسلة روايته «برج الظلام» بأجزائها الثمانية، وقصته القصيرة «حالة أَمْني الأخيرة».
مضت أيام التهميش
لقد مضت الأيام التي كان القص الشعبي فيها مهمشاً ومهملاً من المُنَظِّرين والنُقّاد، وازداد عدد أبواب قاعات الدراسة في المرحلتين الثانوية والجامعية التي انفتحت، وتنفتح، أمام نصوصه في كل من الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة، وآيرلندا، وفي دول أخرى وفقاً لما يذكره بيرنيس ميرفي وستيفن ماتِرسَن في مقدمة الكتاب «القص الشعبي في القرن الواحد والعشرين»، الصادر عن جامعة أدنبرة في 2018. قبل ذلك في عام 2017 فازت الرواية «السكة الحديدية تحت الأرض» لكولسون وايتهيد بجائزة «بوليتزر»، وكانت قد وصلت إلى القائمة القصيرة أيضاً لجائزة «آرثر سي كلارك» البريطانية للخيال العلمي. ذكرت هذا سابقاً أيضاً. وكان من أسباب فوزها وفوز رواية ماكميرتري بجائزة «بوليتزر» تقليصهما للفجوة بينهما والرواية الأدبية، كما يقال.
استثمار وجوائز وأسئلة
هل حدثت الالتفاتة الكبيرة والمفاجئة إلى الرواية الشعبية؛ العمود الفقري لجائزة «القلم الذهبي»، استجابةً لمؤثرات من تغيرات المواقف من القص الشعبي في ثقافات الآخرين؟ هل جائزة «القلم الذهبي» و«جائزة الأدب» لهذا العام تُعبِّران عن إدراك ووعي بأن الرواية الشعبية أصحبت توازي، أو تكاد، نظيرتها الأدبية فنياً وجمالياً وشكلاً وتطوراً في التقنيات وأساليب الكتابة؟ أو هل ثمة مشروع يراد منه، وعبر الجوائز، الدفع في اتجاه تقليص الفجوة بين النخبوي والشعبي، الفجوة التي ينكر عدد من المثقفين والأدباء وجودها إيماناً بأن الثقافة كل لا يتجزأ، وغير تراتبية، في حين أنه بانت علامات التفاجؤ عليهم لمَّا بُوغتوا بظاهرة شعبية الروائي المسلم، التي باغتت أيضاً العديد من المشتغلين في الإعلام بقنواته وأوعيته ووسائطه المختلفة؟
النفي، هو الجواب عن تلك الأسئلة؛ فالاستثمار هو ما أعتقد أنه الجواب المقنع والصحيح. وللتوضيح، يبدو أن الهيئة العامة للترفيه رأت فرصة «ذهبية» سانحة في رواج الرواية الشعبية وكثافة مقروئيتها على امتداد العالم العربي لإقامة مشروع ترفيهي جديد يضاهي في ضخامته مشاريعها القائمة التي طبّقَتْ شهرتُها الآفاق وأصبحت مغناطيساً جاذباً للأضواء الإعلامية، «جوي أوورد» على سبيل المثال.
هل حدثت الالتفاتة الكبيرة والمفاجئة إلى الرواية الشعبية؛ العمود الفقري لـ«جائزة القلم الذهبي»، استجابةً لمؤثرات من تغيرات المواقف من القص الشعبي في ثقافات الآخرين؟
الرواية في البداية والفيلم في النهاية
الرواية مادة مشروع «جائزة القلم الذهبي»؛ الصورةُ المكبرّةُ (الجائزة) لِما كان مشروعاً صغيراً وفردياً، وتكرارٌ له محلياً وعربياً. ربما يتذكر البعض رواية «تشيللو» للمستشار تركي آل الشيخ وقصة تحويلها إلى فيلم بالعنوان نفسه. هذه هي نواة مشروع «جائزة القلم الذهبي»، ومنبع الفكرة في اعتقادي.
وبوصف كابسولي، فإن الجائزة مشروع تحويل «جَنْرَ فيكشن - genre fiction» إلى «جَنْرَ موفيز - genre movies». هذا ما ينبغي التنبه له لأن المئات من هذه الأنواع «genre movies» من الأفلام الأجنبية تصب في البيوت وفي صالات السينما على مدار العام، ولا أعتقد أن الفيلم المحلي - العربي قادر على منافستها في جذب ساكني البيوت إليه، ما لم يكن في مستواها.
جائزة «هيئة الأدب»
بادرت هيئة الأدب والنشر والترجمة، بدورها، إلى استثمار شعبية أسامة المسلم بمنحه «جائزة الأدب» لهذا العام لتسبق - ولو بمنح جائزة أدبية واحدة - هيئة الترفيه التي سبقتها إلى إعلان جائزة أضخم ومتعددة المسارات. ولكن من يجاري هيئة الترفيه المتحررة من تعقيدات البيروقراطية، كما يبدو، في إقرار وسرعة تنفيذ مشاريعها، والمتمتعة بصلاحيات لا تتردد في دفعها إلى حدودها القصوى. ولكن ثمة «لكن أخرى»: إن نجاح لجنة تحكيم «جائزة القلم» في اختيار روايات، حتى وإن تكن كتلك التي يتحدث عنها والاس، لا يضمن نجاح ترجماتها السينمائية عند شبابيك التذاكر. وينطبق هذا على السيناريوهات الفائزة. فما بين السيناريوهات والشاشات الكبيرة معامل صنع الأفلام التي يتوقف نجاح منتوجاتها على مدى كفاءة وخبرة ومهارة العاملين فيها. وهذا هو بيت القصيد والجزء الصعب من مشروع الجائزة.
* ناقد وكاتب سعودي