سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

ثريا التركي تحكي رحلتها من «عنيزة» إلى كاليفورنيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا
TT

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

في كتابها «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا»، الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» للنشر بالقاهرة، تطرح الدكتورة ثريا التركي سؤال الهُوية والثقافة من خلال اقتفائها للجذور التي تتواصل معها ببصيرة مشهدية فائقة، تحكي من خلالها سيرتها الذاتية كأول سعودية تتخصص في مجال الأنثروبولوجيا بعد دراستها لها في أميركا، وتدريسها لها فيما بعد في جامعاتها العريقة مثل هارفارد وكاليفورنيا وجورج تاون وبنسلفانيا، لتصير من أوائل السيدات اللواتي حصلن على شهادة الدكتوراه في بلادها وسط سياق مجتمعي كان يتحفظ على تعليم الفتيات، لا سيما التعليم العالي.

تبدأ ثريا التركي الحكاية من سيرة الطفلة «ثريا» التي كانتها، وتفتحت عيناها على الحياة بوصفها: «الابنة الصغرى لشيخ نجدي وربة منزل حجازية»، ورغم الوجهات الجغرافية المتباعدة التي تتوالى في كتابها المكرس لرحلتها الممتدة بين الثقافات والمدن والمؤسسات التعليمية، فإن مدينة «عنيزة» السعودية تظل البؤرة المركزية بين تلك الوجهات، ففيها ولد الأب «محمد السليمان التركي»، الذي تستهل الكتاب بتحية له، فلولاه ما استطاعت اعتلاء سلم التعليم الذي امتد بها لتصبح أستاذة جامعية في مجال الأنثروبولوجيا. تقول: «إذا كان الكثيرون يعتبرون أنني كنت استثناءً في الانتصار على التقاليد السائدة في مجتمع شبه الجزيرة غير المتحمس لتعليم الفتيات حتى العقد السابع من القرن العشرين، فإنني أعتبر أن الاستثناء الحقيقي هو أبي بسماحه لي بالانخراط في التعليم، سواء في مدارس لبنان أو مصر ثم دخولي الجامعة الأميركية في القاهرة».

تتقاطع السيرة الشخصية للمؤلفة مع محطات مفصلية في الخريطة التاريخية والثقافية على المستويين السعودي والعالمي ليبدو صوتها هو ابن السياق التاريخي والمجتمعي والثائر عليه في آن واحد، فهي ابنة لأسرة تقليدية لأب وأم اختارت أن تُخصص عن سيرتهما الفصل الأول من الكتاب الذي أطلقت عليه «نبتدي منين الحكاية؟» بما يحمله العنوان من نوستالجيا غنائية يمكن سماع أصدائها على مدار الكتاب.

وُلد الأب محمد السليمان التركي في مدينة «عنيزة» التابعة لمنطقة القصيم وسط شبه الجزيرة العربية التي كانت في سنوات القرن العشرين الأولى تتبع ما يُعرف بسلطنة نجد، وتتبع الكاتبة سيرة والدها إلى أن يقرر الهجرة إلى الحجاز (جدة) تحديداً. وهي هوامش تحرص الكاتبة على ذكرها في الربط بين تتبع سيرتها الذاتية وسيرة الوطن السعودي وتحولاته، ليس فقط على المستوى السياسي ولكن على المستوى الاجتماعي، كما تربط الكاتبة بين الانفتاح المبكر على تعليم البنات باعتباره نتاجاً لتعرض بعض الأسر النجدية والحجازية لثقافة حواضر مصر والشام، ما بدأ يسفر عن إرسال أوائل البنات السعوديات للالتحاق بالمدارس في أواسط أربعينات القرن الماضي، في وقت كانت جدة لا تعرف سوى بعض المدارس غير الرسمية «الفقيهة» لتعليم البنات قراءة القرآن وأعمال الخياطة والتطريز.

مشاعر مُركبة

ساهم هذا الانفتاح النسبي على الخارج وما شهده من بداية تعليم الفتيات، في أن تُرسل الأسرة ثريا إلى مدرسة داخلية إنجليزية في لبنان تحت رعاية أسرة لبنانية صديقة لأسرتها، وبرغم التعليم المميز الذي كانت تتلقاه في ذلك الوقت، فإنها لمست في تلك الفترة التعامل مع الصرامة، والغربة التي شعرتها مع استماعها للهجة اللبنانية للمرة الأولى، مروراً بتعرفها على الطقوس الدينية المسيحية بوصفها في مدرسة «تبشيرية»، أما ما لم تستطع نسيانه فهو شعورها المبكر بعدم تقبل المعلمات لها، ما راكم داخلها شعوراً بالاختلاف «كنت في أعينهن بدوية همجية، انطلاقاً من نظرة استعلائية نمطية كنت أشعر بها على الدوام من جانبهن»، وهي مشاعر تنفير تدريجية قادتها ذات يوم للانفجار في وجه معلمة أهانتها وأهانت أمها، ما قاد «ثريا» الطفلة في هذا الوقت لصفع تلك المعلمة التي أهانتها، في مشهد من المشاهد التي لا تُنسى في الكتاب، وهي تقول: «كانت هذه هي بدايات لمقاومتي لما تصورته محاولات لقهري».

بوح ومصارحة مع الذات

بصفة عامة، لا تسعى ثريا التركي في كتابها لرسم صورة مثالية عن نفسها بقدر ما تتلمس الصدق وهي تتذكر لحظات بعيدة من حياتها، أو حتى تعيد محاولة فهم مشاعرها المبكرة، خاصة حيال مشاعر الاستعلاء أو عدم التقبل أو التهميش، بما في ذلك علاقتها بأقرب الناس لها، فهي تعترف أن علاقتها بوالدتها كانت «مُركبة»، فرغم حبها الشديد لها فإنها تقول في لحظة مكاشفة خاصة: «أعترف بعد كل هذا العمر وقلبي يعتصره الألم بأنني كنت أخجل من والدتي، لأنها لم تتحصل على تعليم جيد - وكذلك أبي - ولم تكن تجيد لغات أجنبية، فالكثير من أمهات صديقاتي المصريات يُجدن إما الإنجليزية وإما الفرنسية»، تظل ثريا في حالة مراجعة لهذا الشعور وعدم الارتياح له، فتسأل نفسها مراراً: «لماذا فعلت ذلك؟ لماذا كنت أخجل من أمي؟».

تتمسك الكاتبة بروح البوح والمصارحة في محطات الكتاب المختلفة، كالتي تحدثت فيها مثلاً عن مرحلة دراستها الثانوية في مصر في مدرسة «كلية البنات الإنجليزية» بمدينة الإسكندرية، وانفتاحها على جنسيات مختلفة من مختلف العالم، والكثير من روح الشغب أو «الشقاوة» كما تصفها وهي تروي ملامح منها بحس طريف، وسرعان ما تربط تلك الأيام بالأحداث المركزية التي كانت تعيشها مصر من اضطرابات سياسية تزامنت مع فترة تأميم جمال عبد الناصر قناة السويس وما تبعها من عدوان ثلاثي على مصر.

مفترقات الطرق

تصف ثريا التركي أكبر وأصعب تحدٍ واجهته على الإطلاق وهو إقناع والدها بأن يسمح لها بدخول الجامعة، وما كان يصاحبه من تصورات نمطية ترتبط بالانفلات الأخلاقي، فتروي كيف كانت الحياة الجامعية في هذا الوقت ترتبط في صورتها الذهنية بأعمال إحسان عبد القدوس التي تقول إن تأثيرها كان كبيراً على الصورة الذهنية عن الجامعة لدى الأوساط المحافظة في العالم العربي.

تروي ثريا عن الوساطات العائلية التي ساهمت في إقناع والدها، بالموافقة على التحاقها بالجامعة الأميركية بالقاهرة، التي تصف كيف كانت في فترة الستينات قبلة للطلاب العرب، وسط تطلعاتها للشعور بالاستقلال، وهي معركة تظل تقطعها ثريا التركي حتى بعد تخرجها وصولاً لمعركتها الأكبر لتحضير الدراسات العليا في الولايات المتحدة وسط مشاعر متخبطة بالخوف من هذا المجهول الأميركي، وعدم الرغبة في العودة إلى بلادها، بعد إتمام دراستها الجامعية في مصر: «أي أمان في حياتي سيكون في عودتي إلى السعودية والحياة في كنف زوج يتحكم في شؤوني، وأصبح ظلاً لقراراته؟».

تتقاطع السيرة الشخصية للمؤلفة مع محطات مفصلية في الخريطة التاريخية والثقافية على المستويين السعودي والعالمي

تدرس ثريا في جامعة «بركلي» بقسم الدراسات العربية وتنخرط في دراسة الأنثروبولوجيا في مسار أكاديمي يظل يتسع تدريجياً داخل أروقة الجامعات الأميركية فتتعرف داخلها على التيارات السياسية، «منظمة الطلبة العرب» ونقاشات القضية الفلسطينية في مقابل سياسات الولايات المتحدة تجاه العرب وحركة المد الصهيوني، تتذكر ثريا كيف تزامن كل هذا مع نكسة 5 يونيو (حزيران) 1967 وانكسار مصر وقتها، والصدمة القاسية مع توارد أنباء هزيمة الجيوش العربية.

ورغم التعليم الأجنبي الذي تلقته على مدار حياتها والدراسات العلمية والكتب البحثية التي نشرتها بالإنجليزية، فإن سؤال الشرق والغرب يظل حاضراً في وجدانها، فيشغلها مثلاً موضوع ذوبان الهوية العربية في الثقافات الأخرى، وتذكر أنها طالما ما كانت تسأل طلابها: لماذا نكتب باللغة الإنجليزية إذا كان بمقدورنا الكتابة بالعربية؟، تظل تحمل هذا السؤال، كما تحمل داخلها غصة بسبب أمنيتها التي لم تتحقق بأن تعمل بالتدريس في جامعات المملكة العربية السعودية، وتقول: «عندما يعمل الإنسان وينتج فوق تراب بلده الذي وُلد فيه يتضاعف شعوره بالإنجاز والإسهام في بناء وطن يسكنه قلبه»، وتتحدث عن أن عملها بالتدريس بالجامعة الأميركية بمصر والحياة فيها كان تعويضاً عن سنوات الغربة، حيث عاشت في مصر الجزء الأكبر من حياتها، وتصفها: «مصر مكاني وموطني المختار».

تتكئ الكاتبة على قيمة الصداقة التي تتسلل على مدار محطات الكتاب، وتخصص لها فصلاً خاصاً، يقع في 244 صفحة، ويضم مجموعة متنوعة من الصور تظهر فيها في مراحلها العمرية بصحبة أفراد عائلتها وأصدقائها. وتتوقف عند إحداها في مرحلة التسعينات خلال قضائها عطلة مع عائلتها في «سيردينيا» الإيطالية، تقول إن زوجها عندما نظر لصورتها تلك علّق بأنها صورة «ثريا الأصلية»، فتحاول تفسير ذلك قائلة: «هي صورة لسيدة تشعر بالراحة مع نفسها، والرضا تجاه هُويتها».


مقالات ذات صلة

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

ثقافة وفنون روايات رومانسية سريعة الاحتراق

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

تميل الرومانسية إلى بناء نتائج إيجابية من قرارات فظيعة. وتدور رواية «الحقيقة وفقاً لأمبر» التي كتبتها دانيكا نافا حول بطلة تتخذ المزيد من القرارات السيئة

أوليفيا وايت
ثقافة وفنون «حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

«حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

بدأت الحكاية في أبريل (نيسان) 2020. كان زمن الحَجْر وغلبة العزلة، حين لمحت الصحافية اللبنانية جودي الأسمر تجّاراً في منطقتها يدّعون الالتزام بالإغلاق العام

فاطمة عبد الله (بيروت)
كتب مايا ويند

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

ساهمت التظاهرات الطلابيّة التي شهدتها جامعات ومؤسسات تعليمية في دول الغرب احتجاجاً على العدوان المستمر على قطاع غزّة في إلقاء الضوء على نكبة الفلسطينيين

ندى حطيط
كتب «الشارقة الثقافية»: أفريقيا في المدونة الشعرية العربية

«الشارقة الثقافية»: أفريقيا في المدونة الشعرية العربية

صدر أخيراً العدد 95، لشهر سبتمبر (أيلول) 2024م، من مجلة «الشارقة الثقافية»، وقد تضمن مجموعة من الموضوعات والمقالات والحوارات، في الأدب والفن والفكر والسينما.

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون جورج أورويل

غضب وطني في بريطانيا بعد بيع أرشيف جورج أورويل بالقطعة

بـ10 آلاف جنيه إسترليني يمكن شراء رسالة كتبها بخط اليد، مؤلف رواية «1984» إريك بلير (1903 – 1950)، الشهير بالاسم الأدبي جورج أورويل.

ندى حطيط (لندن)

بندول بنعبدالعالي!

عبد الفتاح كيليطو
عبد الفتاح كيليطو
TT

بندول بنعبدالعالي!

عبد الفتاح كيليطو
عبد الفتاح كيليطو

بنعبدالعالي يقومُ بتفكيكِ المفاهيمِ الفلسفيةِ والنفاذِ إلى لُبِّها، من دون أن يدّعيَ أنَّه فيلسوفٌ، فهو ليس لديه ثقافةٌ كلاسيكيةٌ حسب قوله يقول الناقدُ المغربيُّ عبد الفتّاح كيليطو في أحد استجواباتهِ الصحافية إنه لم يرَ نفسَهُ جديراً بالخوضِ في الأدبِ الفرنسي. وهكذا حين ناقشَ، في إطارِ شهادةِ الدراساتِ العليا، رسالتَهُ عن رواياتِ فرنسوا مورياك، سنحتْ لهُ فرصةٌ ثمينةٌ لنشرِها، لكنه رفضَ لأنها بدتْ لهُ ضعيفةً جدّاً مقارنةً بكتبِ النقدِ التي كان قد اطّلعَ عليها في ذلك الوقت (رولان بارت، شارل مورون...). بعد مدةٍ من الترددِ قامَ بتسجيلِ «المقامات» موضوعاً للدكتوراه.

بنعبدالعالي

ومن المعلومِ أن مقاماتِ الهمذانيِّ والحريريِّ تُعدُّ من نماذجِ النثرِ الفنّي، الذي اشتغلَ عليهِ «الدكاترة» زكي مبارك في منتصفِ الثلاثينات من القرن المنصرم، في أطروحتهِ «النثرِ الفني في القرنِ الرابع الهجري» في جامعةِ السوربون تحتَ إشرافِ المسيو ميرسيه. وقد اختلفَ تلميذُهُ الحادُّ الطبعِ والنبرةِ مع أستاذهِ المتمركزِ أوروبياً حولَ نشأةِ النثرِ عند العربِ، دونَ أن ينصاعَ لأمرهِ الأكاديميِّ بحذفِ ما كتبَهُ مبارك حولَ هذه النشأةِ، رغمَ نصيحةِ بعضِ الأساتذةِ الفرنسيين المستشرقين، وفي طليعتهم ماسينيون. ومع ذلك فقد رضخَ الأستاذُ لرغبةِ الطالبِ الحادة!.. لقد أخبرَهُ ماسينيون بعدَ الانتهاءِ من حصولهِ على الدكتوراه بأن «ميرسيه لا يحبُّك لكنه لا ينساك».

وقد ترجمَ الدكتور مبارك أطروحتهُ بنفسهِ إلى اللغةِ العربية. مبارك لم يكن بعيداً عن قضيةِ الفلسفةِ في أطروحتَيه الأخريين «الأخلاق عند الغزالي» و«التصوف الإسلامي».

طه حسين

يبدو أن كيليطو عاشقٌ للسانينِ، كما يكتبُ عنهُ صديقهُ عبد السلام بنعبدالعالي في كتابهِ الأخير بعدَ كتابهِ الأولِ «الأدب والميتافيزيقيا» باللغتين العربيةِ والفرنسيةِ، وكأنه بمخاطبتهِ العربَ والفرنسيينَ أسواريٌّ جديد! نعم، يبدو كيليطو هو الآخرُ يحاولُ التخلّصَ من تأثيرِ المركزيةِ الأوروبيةِ، وقد اشتغلَ - خصوصاً في أحدِ مؤلفاتِه الأولى (الكتابةُ والتناسخ) الذي ترجمَهُ بنعبدالعالي من الفرنسيةِ إلى العربيةِ - على إعادةِ قراءةٍ نقديةٍ مبدعةٍ لنصوصٍ تراثيةٍ، مستلهماً رولان بارت في أطروحتِه عن «موت المؤلف»، حيثُ ركّزَ فيها كيليطو على الجاحظِ، الذي قدّمَ في أدبِهِ الموسوعيِّ شارل بيلا كتاباً رائعاً، بدّدَ سأمَهُ من دراسةِ الأدبِ العربي. وهذا ما فتحَ عينَ كيليطو على براعةِ الجاحظِ، ومنها ما ذكره الجاحظُ في كتابِهِ «البيانِ والتبيين» عن موسى سيار الأسواري الذي «كان من أعاجيبِ الدنيا، كانت فصاحتُهُ بالفارسيةِ في وزنِ فصاحتِهِ بالعربية، وكان يجلسُ في مجلسِهِ المشهورِ به، فتقعدُ العربُ عن يمينِهِ، والفرسُ عن يسارِهِ، فيقرأُ الآيةَ من كتابِ الله، ويفسّرُها للعربِ بالعربيةِ، ثم (يحوّل) وجههُ إلى الفرسِ، فيفسّرُها لهم بالفارسية. فلا يدري بأي لسانٍ هو أفصح».

محمد عابد الجابري

لكن هل هذا هو شأنُ عبد الفتّاح كيليطو وهو يُطلُّ على القراء العرب - بعدما تَكَوَّن في تعليمه المزدوج - متعوداً ألا يقرأَ إلا النصوصَ التي كُتِبَت بالفرنسية أو بالفصحى - قارئاً ومدوّناً - مستمتعاً بلذةٍ «بارتيةٍ» في قراءةِ النصوص الأدبية؟ هذا اللسانُ المفلوقُ - كما يُعبر كيليطو - هو بصورةٍ أخرى ما أصبح عليه دارسُ الفلسفةِ العربيةِ الإسلاميةِ القديمةِ والفرنسيةِ المعاصرة. صديقُهُ د. عبدُ السلامِ بنعبدالعالي أستاذُ الفلسفةِ بجامعةِ الملكِ محمد الخامس، متتلمذاً على يدي محمد عزيز الحبابي ومحمد عابد الجابري. ما زلتُ أتذكر لقائي ببنعبدالعالي في صيفِ الرباطِ سنة 1993 - بعد يومينِ من وفاةِ الحبابي - حيث عرفني على زميليهِ الراحلينِ سالم يفوت ومحمد وقيدي، وكذلك من أصبحَ يكتبُ معه «بيدينِ» محمد سبيلا، وقد أصبحَ بنعبدالعالي اليومَ ملءَ السمعِ والبصر، اسماً لامعاً وألمعياً في فضاءِ التأليفِ الفلسفيِّ وترجمتِه. محاولاً النزولَ بالفلسفةِ من عليائها المطلقِ وتجريداتِها الذهنيةِ، إلى أرضِ الواقعِ المغربيِّ والعربيِّ الملتبس - لا أريدُ هنا مشابهتَهُ بأستاذِ الفلسفةِ المصريِّ مراد وهبة، في أطروحتهِ ومؤتمرِه عن الفلسفةِ ورجلِ الشارعِ في القاهرةِ سنةَ 1983... خشيةَ إعادةِ سجالِ المشرقِ والمغربِ جذعة! بعد أطروحةِ أستاذهِ الجابري، في برهانيةِ المغربِ الرشديةِ وعرفانيةِ المشرقِ السينية، التي جاءت إليهِ عبرَ ابنِ عربي الأندلسيِّ من المغرب! حيث لا يزالُ من تلامذةِ الجابري من يذهبُ إلى أن حفريةَ المعنى مخصوصةٌ بمتفلسفي المغربِ، والتاريخُ للأفكارِ في شكلِ العلاقةِ بين العربيِّ والفلسفةِ محدودٌ بمتفلسفي المشرق!

على أيِّ حالٍ فإن د. بنعبدالعالي يقومُ بتفكيكِ المفاهيمِ الفلسفيةِ والنفاذِ إلى لُبِّها، دون أن يدّعيَ أنَّه فيلسوفٌ، فهو ليس لديه ثقافةٌ كلاسيكيةٌ - حسب قوله - فلم يسبق له - غالباً - أن تبنَّى أيَّ أطروحةٍ، ما دامَ لا يشعرُ بامتلاكِه القدرةَ على صياغةِ عملٍ مرتبٍ (أكاديمياً)، وإنما هو يستلهمُ المفاهيمَ سواءً من دولوز أو غيرِه من فلاسفةِ فرنسا وألمانيا. فالمفهومُ الفلسفيُّ بالنسبةِ إليهِ آليةٌ لإعمالِ الفكرِ في اللامفكَّر فيه، متفاعلاً مع متغيراتِ الحياةِ وفوائضِ المعرفة - في جملةٍ من كتبِه (المقالية) العديدة ذات الصفحاتِ القليلةِ المكثفةِ الرشيقة - تأليفاً وترجمةً - نائياً بكتاباتهِ المثيرةِ للأسئلةِ عن مطولاتِ باحثي الفلسفةِ ومنظريها المشارقةِ والمغاربة. بل إنَّهُ يثورُ على نَسَقهِ الجينيالوجيِّ من آبائهِ (الحبابي والعروي والجابري)، وإن كان يبدو أقربَ إلى مؤلفِ «النقد المزدوج» و«الاسم العربي الجريح» تلميذِ رولان بارت عبدِ الكبيرِ الخطيبي بـ«ذاكرتهِ الموشومة»، مستخلصاً - بنعبدالعالي بجرحهِ وتعديلِه - من تجربةِ الخطيبي في النقدِ الأدبيِّ المتفلسفِ والكتابةِ الاجتماعيةِ والتاريخيةِ، ما جعلهُ يتماهى معه ويختلفُ معهُ في آن.

محمد رضا نصر الله

وإذ يشتغلُ بنعبدالعالي بعالمِ الفلسفةِ وكونيةِ الأدبِ والترجمةِ بتاريخِها المثقلِ بترجمةِ النصوصِ متعدّدةِ اللغاتِ، يقوم بمحو فعل الترجمة، نصّاً لا تشتم فيه رائحة اللغة الأخرى، بوصف الترجمة عملاً تراكمياً منعشاً... أو كما يُعبرُ كيليطو في مقدمتهِ المنبهرةِ بكتابِ صديقهِ «انتعاشةِ اللغة»، فلأنَّ تاريخَ الفلسفةِ هو في العمقِ تاريخُ الترجمة، كما هو ابنُ رشدٍ في ترجمتِه أرسطو، معتمداً على ما قامَ بهِ السريانُ العربُ المسيحيونَ من قبل، في ترجمةِ كتبِ أرسطو، خاصةً كتابيهِ «فن الشعر» و«فن الخطابة»، بوصفِهِما كتابينِ في المنطق. إذ عكف السريانُ على نقلِها لاستخدامها في مجادلاتِهم الدينية، التي «انتعشت» على أفكارهما، فقامَ تراجمتُهم وفي طليعتهم متى بن يونس، بترجمةِ كتاب «فن الشعر» لأرسطوطاليس، الذي شكّكَ أبو سعيد السيرافي في مناظرتهما أمام الخليفةِ المقتدر، بأنَّ متى لا يُحسنُ الترجمةَ من اليونانيةِ، رغم وجودِ رواياتٍ عن ترنُّمِ متى (منتعشاً) بأشعارِ هوميروس بأصلها اليوناني. وبسببِ تسلُّلِ المنطقِ الأرسطيِّ إلى بغدادَ العباسيةِ في ذروةِ انفتاحِها الفكري، وجدنا أبا نصر الفارابي - لبنعبدالعالي أطروحةٌ لافتةٌ في فلسفتهِ السياسيةِ المدنية - يهتمُّ بالفكرِ اليونانيِّ ويؤلفُ عن «فلسفةِ أرسطوطاليس» و«الجمعِ بين الحكيمين» أي أفلاطونَ وأرسطو، وهما كتابانِ عُني بهما أستاذُ كرسي الدراساتِ العربيةِ بجامعةِ هارفارد العراقي د. محسن مهدي، الذي ألّف كتاباً عنه: «الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية».

هذا... وقد نفختِ الترجمةُ الحياةَ في نصوصِ الأغارقةِ، لتسري إلى الغربِ الأوروبي القروسطي، ممزقةً الظلامَ الكنسيَّ بنورِها المتثاقفِ المنعش، عبر الرشديةِ اللاتينيةِ حسبَ وصفِ إرنست رينان في كتابه الشهير «ابن رشد والرشدية». يقول بنعبدالعالي في كتابه «انتعاش اللغة» (لا تعني كونيةُ الآدابِ تطابقاً يذيبُ الآدابَ المحليةَ في وحدةٍ ميتافيزيقية، وإنما وعي الذاتِ بأن الآخر مكوّنٌ من مكوّناتها، فعندما «تذبل» الآدابُ القوميةُ «تنتعش» وترى الحياةَ من جديدٍ عن طريق الآخر).

نعم.. وهاك شعراء التفعيلة - مثلاً ساطعاً - فمنذ ترجمَ علي أحمد باكثير «روميو وجولييت» سنة 1936 من الإنجليزية إلى العربيةِ على وزنِ وحدة التفعيلة، خارقاً بمغامرتِه الجريئةِ جدارَ الوزنِ الخليليِّ التاريخي الصلب. ووجدنا الشعرَ العربيَّ المعاصرَ ينتعشُ على آثارِ تداعياتِ الحربِ العالمية الثانية، مع بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة متثاقفين - مباشرةً أو مترجمين - مع نصوصِ شكسبير وت. س. إليوت وأديث ستويل وغيرهم، مشكلين بإبداعهم الشعري نقيضاً موضوعياً لجثوم الاستعمارِ الأوروبيِّ المثلثِ بلغاتِه وآدابه، على مشرقِ العالمِ العربي ومغربِه. وكان اللبنانيُّ أمينُ الريحاني قد ألقى إلينا قبلهما من مهجرهِ الأمريكي - مبدعاً ومترجماً - بقعةَ ضوءٍ غيرَ معهودةٍ بقصيدة النثر، متأثراً بخطى الشاعرِ الأميركي والت ويتمان.

أما السيّاب فقد ألهبَ ذائقةَ المستعربِ الفرنسي جاك بيرك، وهو يُلقي قصيدة «أنشودة المطر» بلسانهِ الفرنسي على أبناءِ قريته، فوجدهم يبكون - كما أخبرني في لقاءٍ متلفز - وكأنَّه «جعلَ الغريبَ ضيفاً على دارهم»، كما يعبر بنعبدالعالي في كتابهِ، حيث تفاعلَ فلاحو القرية الفرنسية بعدما «أنعشتهم» ترجمةُ القصيدة، وكأنهم وجدوا في أجواءِ قصيدةِ السيّابِ قريتهِ جيكور ونخيلها وأشجارها ونهيرها الصغير... وجدوا فيها قريتهم مؤتلفين إنسانياً مع فلاحي جيكور، رغم بُعد المسافةِ بين ضفتي لغتهم.

إذن فالترجمةُ كما يقول بنعبدالعالي عبورٌ وحركةُ انتقالٍ عبر جسرٍ يأتي بالضفتينِ إليهما، متوسلاً بتعبير هايدغر الألماني «أن التعددية ليست تساكناً بين عدةِ أشكال، حيث لا ترمي الترجمةُ إلى توحيدِ اللغاتِ وإلغاء الاختلافِ بينها، وإنما إلى بعثِ الغرابة»، وهو ما يُمثِّله بنعبدالعالي عن ترجمةِ الشاعرِ والمترجم البريطاني إدوارد فيتزجيرالد لرباعيات الخيام، حيث أعطى عمر الخيام مكاناً خالداً بين الشعراء العظام في فضاءِ الإنجليزية الثقافي. وكذلك فإن الشاعر الغنائي المصري أحمد رامي - هو الآخر - أعطى رباعيات الخيام عبر صوتِ أم كلثوم، بإعادةِ كتابتها مكاناً مؤثراً في الذوق العربي العام، بترجمتها من الفارسيةِ مباشرةً، وقد تعلَّمها في معهد اللغات الشرقية بباريس سنة 1924، سابقاً بها ترجمةَ أحمد الصافي النجفي العراقي، وإبراهيم العريض البحراني الأدق من الفارسيةِ مباشرةً، لتصبحَ هذه الترجمات لغةً ثالثةً، ذات طاقةٍ تأويليةٍ هائلةٍ في النص الخيامي المترجم.

غير أن السؤالَ المنتصب - هنا - يدورُ حول ترجمةِ النصوص عبر لغةٍ وسيطة، حيث قامَ سامي الدروبي - مثلًا - بترجمةِ رواياتِ تولستوي وديستويفسكي الروسية من الفرنسيةِ إلى العربية، ليكتشفَ المترجمُ المغربي إدريس الملياني الضليع في اللغةِ الروسية أخطاءً جسيمةً وقعت فيها ترجمات الدروبي.

أما حينما يستشهدُ بنعبدالعالي ببروست القائل «إن المؤلفات الرائعة تبدو وكأنها كُتبت بلغةٍ أجنبية»، فإنَّه يجعلني أتذكرُ على الفور مقولةَ عبد الفتّاح كيليطو (الكافكوية) في كتابه «أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية»، مخاطباً القارئ العربي «أن تمرَّ عبر البعيد لتعرفَ القريب وتعترفَ به»، مستشهداً بما كتبه د. عبد الله العروي في كتابه «خواطر الصباح» حول كتابةِ أطروحتهِ المبكرةِ عن «الآيديولوجية العربية المعاصرة» التي لقيت اهتماماً عربياً، بسبب كتابتها بالفرنسية قبل ترجمتها إلى العربية.

لكن أليسَ ذلك يُشكل عقدة نقصٍ ثقافية؟

يُجيب كيليطو في نفس مورد كلامهِ أنها «لعنةٌ تثقل كاهلَ العربِ منذ أكثر من قرن».المعروف أن جهاتٍ فرنسيةً رسمية أصبحت تتبنى نشرَ بعض النصوصِ الروائية (المغاربية) المكتوبةِ باللغةِ الفرنسية، باعتبارها إبداعاً «فرانكفونياً»، خصوصاً حين يجدون في معالجاتها ما يدعم الصورةَ النمطية المقلوبة عن المجتمعاتِ العربية المرسومة (استشرافياً) في مخيلاتهم الأوروبية.

الكاتبةُ والمخرجةُ الجزائرية آسيا جبار التي قابلتها في فندق الوحدة بالجزائر صيفَ سنة 1978، واجهتْ هذه الصورةَ الاستخذائيةَ الذليلة، وقد جاءتني تحمل أحد مؤلفاتها المسرحية «عند احمرار الفجر» عن الثورةِ الجزائرية مترجماً من الفرنسية إلى العربية، فقد عجز - وقتذاك - لسانُها عن الحديث بالعربية، رغم استشهادها في مسرحيتها بأبياتٍ من الشعر العربي القديم، فما كان منها إلا أن ترقرقت دمعةٌ متحسرةٌ في مآقي عيونها، وهي تغادرني معتذرةً عن إجراء لقاء تلفزيوني إلى دارها.

هل لهذا اندلعت الخصومةُ القديمةُ الشهيرة بين طه حسين وزكي مبارك المتخرجينِ في فرنسا، وقد أخذ مبارك على طه حسين أنه خضع لأستاذه كازانوفا، بينما أصرَّ هو على الاختلاف مع أستاذه مرسيه، وهما يناقشان أطروحتيهما، مراهنين على ما نجح فيه بعدهما عبد الفتّاح كيليطو بمهارة، وهو يسعى في كتاباته النقدية الآسرة المبهرة «ألا يكتبَ كالأوروبيين وأن يختلفَ في الآن نفسه عن الكتاب العرب».

فيا ترى، هل هو نفسُ الرهانِ الصعب الذي يُحاوله بنعبدالعالي، وبندول أطاريحه يتراوحُ منذ عقودٍ، بين قطبي الفلسفةِ العربيةِ الإسلامية القديمة والفلسفة الأوروبية المعاصرة - مؤلفاً ومترجماً، محاولاً خلخلة الثقافة النمطية والمفاهيم السائدة؟