سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

ثريا التركي تحكي رحلتها من «عنيزة» إلى كاليفورنيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا
TT

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

في كتابها «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا»، الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» للنشر بالقاهرة، تطرح الدكتورة ثريا التركي سؤال الهُوية والثقافة من خلال اقتفائها للجذور التي تتواصل معها ببصيرة مشهدية فائقة، تحكي من خلالها سيرتها الذاتية كأول سعودية تتخصص في مجال الأنثروبولوجيا بعد دراستها لها في أميركا، وتدريسها لها فيما بعد في جامعاتها العريقة مثل هارفارد وكاليفورنيا وجورج تاون وبنسلفانيا، لتصير من أوائل السيدات اللواتي حصلن على شهادة الدكتوراه في بلادها وسط سياق مجتمعي كان يتحفظ على تعليم الفتيات، لا سيما التعليم العالي.

تبدأ ثريا التركي الحكاية من سيرة الطفلة «ثريا» التي كانتها، وتفتحت عيناها على الحياة بوصفها: «الابنة الصغرى لشيخ نجدي وربة منزل حجازية»، ورغم الوجهات الجغرافية المتباعدة التي تتوالى في كتابها المكرس لرحلتها الممتدة بين الثقافات والمدن والمؤسسات التعليمية، فإن مدينة «عنيزة» السعودية تظل البؤرة المركزية بين تلك الوجهات، ففيها ولد الأب «محمد السليمان التركي»، الذي تستهل الكتاب بتحية له، فلولاه ما استطاعت اعتلاء سلم التعليم الذي امتد بها لتصبح أستاذة جامعية في مجال الأنثروبولوجيا. تقول: «إذا كان الكثيرون يعتبرون أنني كنت استثناءً في الانتصار على التقاليد السائدة في مجتمع شبه الجزيرة غير المتحمس لتعليم الفتيات حتى العقد السابع من القرن العشرين، فإنني أعتبر أن الاستثناء الحقيقي هو أبي بسماحه لي بالانخراط في التعليم، سواء في مدارس لبنان أو مصر ثم دخولي الجامعة الأميركية في القاهرة».

تتقاطع السيرة الشخصية للمؤلفة مع محطات مفصلية في الخريطة التاريخية والثقافية على المستويين السعودي والعالمي ليبدو صوتها هو ابن السياق التاريخي والمجتمعي والثائر عليه في آن واحد، فهي ابنة لأسرة تقليدية لأب وأم اختارت أن تُخصص عن سيرتهما الفصل الأول من الكتاب الذي أطلقت عليه «نبتدي منين الحكاية؟» بما يحمله العنوان من نوستالجيا غنائية يمكن سماع أصدائها على مدار الكتاب.

وُلد الأب محمد السليمان التركي في مدينة «عنيزة» التابعة لمنطقة القصيم وسط شبه الجزيرة العربية التي كانت في سنوات القرن العشرين الأولى تتبع ما يُعرف بسلطنة نجد، وتتبع الكاتبة سيرة والدها إلى أن يقرر الهجرة إلى الحجاز (جدة) تحديداً. وهي هوامش تحرص الكاتبة على ذكرها في الربط بين تتبع سيرتها الذاتية وسيرة الوطن السعودي وتحولاته، ليس فقط على المستوى السياسي ولكن على المستوى الاجتماعي، كما تربط الكاتبة بين الانفتاح المبكر على تعليم البنات باعتباره نتاجاً لتعرض بعض الأسر النجدية والحجازية لثقافة حواضر مصر والشام، ما بدأ يسفر عن إرسال أوائل البنات السعوديات للالتحاق بالمدارس في أواسط أربعينات القرن الماضي، في وقت كانت جدة لا تعرف سوى بعض المدارس غير الرسمية «الفقيهة» لتعليم البنات قراءة القرآن وأعمال الخياطة والتطريز.

مشاعر مُركبة

ساهم هذا الانفتاح النسبي على الخارج وما شهده من بداية تعليم الفتيات، في أن تُرسل الأسرة ثريا إلى مدرسة داخلية إنجليزية في لبنان تحت رعاية أسرة لبنانية صديقة لأسرتها، وبرغم التعليم المميز الذي كانت تتلقاه في ذلك الوقت، فإنها لمست في تلك الفترة التعامل مع الصرامة، والغربة التي شعرتها مع استماعها للهجة اللبنانية للمرة الأولى، مروراً بتعرفها على الطقوس الدينية المسيحية بوصفها في مدرسة «تبشيرية»، أما ما لم تستطع نسيانه فهو شعورها المبكر بعدم تقبل المعلمات لها، ما راكم داخلها شعوراً بالاختلاف «كنت في أعينهن بدوية همجية، انطلاقاً من نظرة استعلائية نمطية كنت أشعر بها على الدوام من جانبهن»، وهي مشاعر تنفير تدريجية قادتها ذات يوم للانفجار في وجه معلمة أهانتها وأهانت أمها، ما قاد «ثريا» الطفلة في هذا الوقت لصفع تلك المعلمة التي أهانتها، في مشهد من المشاهد التي لا تُنسى في الكتاب، وهي تقول: «كانت هذه هي بدايات لمقاومتي لما تصورته محاولات لقهري».

بوح ومصارحة مع الذات

بصفة عامة، لا تسعى ثريا التركي في كتابها لرسم صورة مثالية عن نفسها بقدر ما تتلمس الصدق وهي تتذكر لحظات بعيدة من حياتها، أو حتى تعيد محاولة فهم مشاعرها المبكرة، خاصة حيال مشاعر الاستعلاء أو عدم التقبل أو التهميش، بما في ذلك علاقتها بأقرب الناس لها، فهي تعترف أن علاقتها بوالدتها كانت «مُركبة»، فرغم حبها الشديد لها فإنها تقول في لحظة مكاشفة خاصة: «أعترف بعد كل هذا العمر وقلبي يعتصره الألم بأنني كنت أخجل من والدتي، لأنها لم تتحصل على تعليم جيد - وكذلك أبي - ولم تكن تجيد لغات أجنبية، فالكثير من أمهات صديقاتي المصريات يُجدن إما الإنجليزية وإما الفرنسية»، تظل ثريا في حالة مراجعة لهذا الشعور وعدم الارتياح له، فتسأل نفسها مراراً: «لماذا فعلت ذلك؟ لماذا كنت أخجل من أمي؟».

تتمسك الكاتبة بروح البوح والمصارحة في محطات الكتاب المختلفة، كالتي تحدثت فيها مثلاً عن مرحلة دراستها الثانوية في مصر في مدرسة «كلية البنات الإنجليزية» بمدينة الإسكندرية، وانفتاحها على جنسيات مختلفة من مختلف العالم، والكثير من روح الشغب أو «الشقاوة» كما تصفها وهي تروي ملامح منها بحس طريف، وسرعان ما تربط تلك الأيام بالأحداث المركزية التي كانت تعيشها مصر من اضطرابات سياسية تزامنت مع فترة تأميم جمال عبد الناصر قناة السويس وما تبعها من عدوان ثلاثي على مصر.

مفترقات الطرق

تصف ثريا التركي أكبر وأصعب تحدٍ واجهته على الإطلاق وهو إقناع والدها بأن يسمح لها بدخول الجامعة، وما كان يصاحبه من تصورات نمطية ترتبط بالانفلات الأخلاقي، فتروي كيف كانت الحياة الجامعية في هذا الوقت ترتبط في صورتها الذهنية بأعمال إحسان عبد القدوس التي تقول إن تأثيرها كان كبيراً على الصورة الذهنية عن الجامعة لدى الأوساط المحافظة في العالم العربي.

تروي ثريا عن الوساطات العائلية التي ساهمت في إقناع والدها، بالموافقة على التحاقها بالجامعة الأميركية بالقاهرة، التي تصف كيف كانت في فترة الستينات قبلة للطلاب العرب، وسط تطلعاتها للشعور بالاستقلال، وهي معركة تظل تقطعها ثريا التركي حتى بعد تخرجها وصولاً لمعركتها الأكبر لتحضير الدراسات العليا في الولايات المتحدة وسط مشاعر متخبطة بالخوف من هذا المجهول الأميركي، وعدم الرغبة في العودة إلى بلادها، بعد إتمام دراستها الجامعية في مصر: «أي أمان في حياتي سيكون في عودتي إلى السعودية والحياة في كنف زوج يتحكم في شؤوني، وأصبح ظلاً لقراراته؟».

تتقاطع السيرة الشخصية للمؤلفة مع محطات مفصلية في الخريطة التاريخية والثقافية على المستويين السعودي والعالمي

تدرس ثريا في جامعة «بركلي» بقسم الدراسات العربية وتنخرط في دراسة الأنثروبولوجيا في مسار أكاديمي يظل يتسع تدريجياً داخل أروقة الجامعات الأميركية فتتعرف داخلها على التيارات السياسية، «منظمة الطلبة العرب» ونقاشات القضية الفلسطينية في مقابل سياسات الولايات المتحدة تجاه العرب وحركة المد الصهيوني، تتذكر ثريا كيف تزامن كل هذا مع نكسة 5 يونيو (حزيران) 1967 وانكسار مصر وقتها، والصدمة القاسية مع توارد أنباء هزيمة الجيوش العربية.

ورغم التعليم الأجنبي الذي تلقته على مدار حياتها والدراسات العلمية والكتب البحثية التي نشرتها بالإنجليزية، فإن سؤال الشرق والغرب يظل حاضراً في وجدانها، فيشغلها مثلاً موضوع ذوبان الهوية العربية في الثقافات الأخرى، وتذكر أنها طالما ما كانت تسأل طلابها: لماذا نكتب باللغة الإنجليزية إذا كان بمقدورنا الكتابة بالعربية؟، تظل تحمل هذا السؤال، كما تحمل داخلها غصة بسبب أمنيتها التي لم تتحقق بأن تعمل بالتدريس في جامعات المملكة العربية السعودية، وتقول: «عندما يعمل الإنسان وينتج فوق تراب بلده الذي وُلد فيه يتضاعف شعوره بالإنجاز والإسهام في بناء وطن يسكنه قلبه»، وتتحدث عن أن عملها بالتدريس بالجامعة الأميركية بمصر والحياة فيها كان تعويضاً عن سنوات الغربة، حيث عاشت في مصر الجزء الأكبر من حياتها، وتصفها: «مصر مكاني وموطني المختار».

تتكئ الكاتبة على قيمة الصداقة التي تتسلل على مدار محطات الكتاب، وتخصص لها فصلاً خاصاً، يقع في 244 صفحة، ويضم مجموعة متنوعة من الصور تظهر فيها في مراحلها العمرية بصحبة أفراد عائلتها وأصدقائها. وتتوقف عند إحداها في مرحلة التسعينات خلال قضائها عطلة مع عائلتها في «سيردينيا» الإيطالية، تقول إن زوجها عندما نظر لصورتها تلك علّق بأنها صورة «ثريا الأصلية»، فتحاول تفسير ذلك قائلة: «هي صورة لسيدة تشعر بالراحة مع نفسها، والرضا تجاه هُويتها».


مقالات ذات صلة

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

ثقافة وفنون روايات رومانسية سريعة الاحتراق

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

تميل الرومانسية إلى بناء نتائج إيجابية من قرارات فظيعة. وتدور رواية «الحقيقة وفقاً لأمبر» التي كتبتها دانيكا نافا حول بطلة تتخذ المزيد من القرارات السيئة

أوليفيا وايت
ثقافة وفنون «حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

«حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

بدأت الحكاية في أبريل (نيسان) 2020. كان زمن الحَجْر وغلبة العزلة، حين لمحت الصحافية اللبنانية جودي الأسمر تجّاراً في منطقتها يدّعون الالتزام بالإغلاق العام

فاطمة عبد الله (بيروت)
كتب مايا ويند

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

ساهمت التظاهرات الطلابيّة التي شهدتها جامعات ومؤسسات تعليمية في دول الغرب احتجاجاً على العدوان المستمر على قطاع غزّة في إلقاء الضوء على نكبة الفلسطينيين

ندى حطيط
كتب «الشارقة الثقافية»: أفريقيا في المدونة الشعرية العربية

«الشارقة الثقافية»: أفريقيا في المدونة الشعرية العربية

صدر أخيراً العدد 95، لشهر سبتمبر (أيلول) 2024م، من مجلة «الشارقة الثقافية»، وقد تضمن مجموعة من الموضوعات والمقالات والحوارات، في الأدب والفن والفكر والسينما.

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون جورج أورويل

غضب وطني في بريطانيا بعد بيع أرشيف جورج أورويل بالقطعة

بـ10 آلاف جنيه إسترليني يمكن شراء رسالة كتبها بخط اليد، مؤلف رواية «1984» إريك بلير (1903 – 1950)، الشهير بالاسم الأدبي جورج أورويل.

ندى حطيط (لندن)

قبر هيلي الكبير ونقوشه التصويرية الفريدة

قبر هيلي الكبير ونقوشه التصويرية الفريدة
TT

قبر هيلي الكبير ونقوشه التصويرية الفريدة

قبر هيلي الكبير ونقوشه التصويرية الفريدة

تحوي منطقة العين في إمارة أبو ظبي سلسلة من المواقع الأثرية، أشهرها تلك التي تقع في واحة هيلي. في هذه الواحة، تمّ إنشاء حديقة آثار خاصة بهذه المنطقة منذ نهاية ستينات القرن الماضي، وتمّ تصميم هذه الحديقة لتسليط الضوء على معالم هيلي القديمة. أبرز هذه المعالم قبر دائري كبير يُعرف بـ«مدفن هيلي الكبير»، يعود إلى نحو 2030 عاماً قبل الميلاد، ويتميز بنقوشه التصويرية الاستثنائية التي تزين بابه الجنوبي وبابه الشمالي.

تقع منطقة العين على سهل رسوبي خصب، تَحُدُّه من جهة الغرب صحراء الربع الخالي الشاسعة، ومن جهة الشرق سلسلة جبال الحجر التي تغطي جزءاً كبيراً من شمال سلطنة عُمان. تقع واحة هيلي شمال هذه المنطقة السهلية، وتضم عدداً كبيراً من المستوطنات والأبراج والمدافن وأنظمة الري، كشفت عنها حملات المسح والتنقيب المتعاقبة منذ عام 1959.

قادت بعثة دنماركية أولى هذه الحملات، وعمدت إلى تسجيل اكتشافاتها وترقيمها وفقاً للأساليب المنهجية المتبعة، وتمثّل أحد أبرز هذه الاكتشافات بقبر دائري كبير ظهرت معالمه في منتصف الستينات، حمل رقم 1059، وعُرف طويلاً بهذا الرقم.

تمّ إنشاء حديقة آثار هيلي لإبراز هذه المعالم وإتاحة الفرصة أمام الزوار للاطلاع عليها، كما تمّ إنشاء متحف حمل اسم «متحف العين»، ضمّ مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المكتشفة في نواحٍ عديدة من هذه المنطقة. تجاور حديقة آثار هيلي غرباً قرية تحمل هذا الاسم، وتشكّل آثار هذه القرية امتداداً لهذه الحديقة. في المقابل، وعلى بعد كيلومتر واحد شمالاً، نقع على مدفنين يُعرفان بمدفني هيلي الشماليين، تفصل بينهما مسافة تقارب 200 متر. يرتفع المدفن الأول على شكل برج دائري، ويتألف من طابقين يضمّان 4 أقسام تفصل بينها جدران متوازية. يبدو المدفن الثاني مشابهاً من حيث التصميم الهندسي، وتتميّز واجهته بأحجارها المشذّبة.

تعود هذه المنشآت إلى عدة مراحل متعاقبة. تُنسب أقدم هذه المنشآت إلى حقبة تمتد من منتصف الألف الرابع إلى الربع الأول من الألف الثالث قبل الميلاد، وتشهد لاستقرار الإنسان في القرى، واعتماده على الزراعة القائمة على الآبار الجوفية، واستخدامه الحجر والطين في تشييد المساكن. تلي تلك الحقبة حقبة أُطلق عليها اسم أم النار، وذلك نسبة إلى جزيرة أم النار التي تقع قبالة ساحل إمارة أبو ظبي، وتمثّل موقعاً أثرياً خرجت منه اكتشافات كبيرة، سلّطت الضوء على حياة سكان شبه جزيرة عُمان خلال العصر البرونزي، بين عام 2500 وعام 2100 قبل الميلاد. في تلك الحقبة، ظهرت المستوطنات الكبيرة، وتميّزت بعض مبانيها بطابع دائري يحاكي الأبراج. وضمّت هذه المستوطنات قبوراً دائرية جماعية متعددة الحجرات، شُيّدت بأحجار مشذبة.

تشكّل منطقة هيلي أكبر مجمع أثري للعصر البرونزي في دولة الإمارات العربية. تعود أغلب منشآت هذه المنطقة إلى حقبة أم النار، وتشهد لتاريخ غني يمتد من بداية الألف الثالثة قبل الميلاد إلى بداية الألف الثانية دون انقطاع. تنتمي منشآت حديقة آثار هيلي إلى تلك الحقبة، وأبرزها القبر 1059 الذي بات يُعرف اليوم بمدفن هيلي الكبير. كذلك ينتمي المدفنان الشماليان إلى الحقبة نفسها، ومن هذين المدفنين خرجت مجموعة كبيرة من اللقى والكسور، شملت أواني خزفية وأوعيةً وأدواتٍ مصنوعة من الحجر الصابوني الأملس. تنتمي القرية الواقعة غرب حديقة آثار هيلي إلى تلك الفترة، وتضمّ أسس 10 منازل، خرجت منها مجموعة كبيرة من اللقى، إضافة إلى عدد من أوعية التخزين الكبيرة.

تشمل اللقى الأثرية التي خرجت من مواقع هيلي المختلفة أواني فخارية مزينة بأشرطة متموجة، وبتقاسيم هندسية متعدّدة صيغت باللون الأسود على خلفية حمراء، كما تشمل أواني متعددة مصنوعة من الحجر الصابوني الأملس، زيّنت بشبكات هندسية تتبع طرازاً خاصاً في الصياغة والتأليف. في هذا الميدان، يسود الطابع التجريدي بشكل شبه كامل، وتحضر العناصر التصويرية بشكل خجول للغاية. يخرج القبر 1059 عن هذا السياق، وينفرد بنقوشه التصويرية التي تجمع بين العناصر الآدمية والحيوانية.

يُعد مدفن هيلي الكبير من أكبر المدافن الجماعية الدائرية التي كشفت عنها حملات التنقيب. يبلغ قطر هذا المدفن المبني من الحجر 12 متراً، وارتفاعه 4 أمتار، ويبدو كأنه في حلّته الأصلية بعد أن تمّ ترميمه بشكل كامل، حيث شمل هذا الترميم إعادة بناء ما سقط من مكوّنات بنائه الخارجي. يضمّ هذا القبر الكبير 4 غرف داخلية، خصّصت كل منها لدفن عدد محدد من الموتى مع حاجياتهم الشخصية، وفقاً للتقاليد المتبعة، ويمتاز بمدخلين زُيّنت واجهة كل منهما بحلّة نحتيّة ناتئة.

على حجر الباب الجنوبي، وفوق مدخل هذا الباب، يظهر شخصان متجاوران، يقفان جنباً إلى جنب في وضعية المواجهة، بين حيوانين كبيرين يتواجهان في وضعية جانبية. يبدو الشخصان من دون أي ملامح، وهما أشبه بخيالين حدّدت حدود قامتيهما فحسب، وتبدو البهيمتان أشبه بظبيتين من فصائل الظباء الصحراوية الوحشية، ويكلل رأس كل منهما قرنان طويلان يماثلان قرون المهاة. على حجر الباب الشمالي، وفوق مدخل هذا الباب، يظهر في أعلى اليمين شخصان متعانقان، ويظهر في أعلى اليسار شخص يجلس على ظهر حمار، وشخص يقف من وراء هذا الحمار، حاملاً رمحاً ودرعاً. في أسفل مدخل الباب، يظهر فهدان متواجهان جانبياً ينقضان في حركة جامعة على غزال يحضر في وضعية مماثلة.

تحاكي هذه الصور الناتئة أشكالاً تصويرية تظهر على أختام تعود إلى تلك الحقبة، وتمثّل هذه الأشكال المشتركة كما يبدو العلاقة الشائكة التي قامت بين الإنسان الحيوان في البلاد التي عُرفت قديماً باسم ماجان. تعكس هذه الصور الاستثنائية طابع الأسلوب الذي ظهر في وادي السند، وتشهد للرابط الذي جمع بين بلاد ماجان وبلاد ملوخا التابعة لهذا الوادي.