حجر آدم شاهداً ودليلاً

بحثاً عن بلاد ماجان

ختمان من موقع رأس الجنز وحجر من موقع آدم
ختمان من موقع رأس الجنز وحجر من موقع آدم
TT

حجر آدم شاهداً ودليلاً

ختمان من موقع رأس الجنز وحجر من موقع آدم
ختمان من موقع رأس الجنز وحجر من موقع آدم

تتحدّث النصوص المسمارية السومرية عن بلاد ماجان الغنية بـ«النحاس الجبار»، غير أنها لا تذكر موقعها بدقة، مما جعل تحديد هذا الموقع موضع سجال بين المختصين في النصف الأول من القرن الماضي. تواصل هذا السجال في العقود التالية، وأوضحت الأبحاث الآثارية المتواصلة في الخليج العربي خلال العقود الأخيرة أن اسم ماجان يشير إلى إقليم عُمان في جنوب شبه الجزيرة العربية بشكل عام، وإلى شمال سلطنة عُمان وأراضٍ واسعة من الإمارات العربية المتحدة بالتحديد.

يحضر اسم ماجان في نصوص مسمارية سومرية من بلاد ما بين النهرين تعود إلى القرون الأخيرة من الألفية الثالثة قبل الميلاد، ويقابله اسم ماكان في النصوص الآكادية. يذكر نقش سومري أن جوديا، «باتيسي» مدينة لكش، أي حاكمها وكاهنها، جلب الحجر من ماجان لصنع التماثيل. ويذكر نقش آكادي أن «سرجون ملك كيش انتصر في 34 حملة، وهدم المدن جميعها حتى شاطئ البحر»، وأرسى السفن من ماجان على أرصفة مدينة آكاد. وتذكر نصوص أخرى أن مانيشتوشو، ثالث ملوك الإمبراطورية الآكادية، قاد حملة ضد ماجان، وكذلك فعل من بعده وارثه نارام سين.

انشغل العلماء في تقصّي موقع ماجان منذ ظهور هذه النصوص، واختلفوا في تحديده بشكل كبير، كما ذكر جواد علي في «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام». قيل إن اسم ماجان يشير إلى «القسم الشرقي من الجزيرة، من أرض بابل إلى الجنوب»، وقيل إنها «تقع على مقربة من ساحل الخليج، في موضع في الرمال جنوب يبرين»، داخل المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية، وهو موضع يُعرف باسم مجيمنة، المشابه لاسم ماجان. وقيل أيضاً إن ماجان تقع على مقربة من الساحل، عند مصب وادي الشهبة. وقيل أيضاً إن مدلول اسم ماجان تغيّر بين فترة تاريخية وأخرى، والأرجح أنها بلاد تقع على ساحل الخليج، وهي من البلاد التي كان سكانها «يتاجرون منذ القديم مع الهند وإيران والسواحل العربية الجنوبية، ومع أفريقيا أيضاً».

تجاوزت الأبحاث المعاصرة هذه القراءات، وبات من المؤكد أن ماجان تقع في شمال إقليم عُمان، وأنها شملت أراضي واسعة مما يُعرف اليوم بالإمارات العربية المتحدة، كما أنها شملت في بعض الحقب أراضي تقع شمال محافظة مسندم التي تقع في أقصى شمال عُمان، وتطلّ على مضيق هرمز. احتلت هذه البلاد موقعاً مهمّاً على ساحل الخليج العربي وخليج عُمان في العالم القديم، ولعبت دوراً ريادياً في التجارة العابرة للخليج، ما بين بلاد الرافدين وبلاد وادي السند وبلاد عيلام الممتدة على الهضبة الإيرانية في جنوب غربي آسيا. وكانت كما يبدو مملكة لها نظامها الخاص، ذكرت النصوص المسمارية ملوكها «إينسي ماجان».

خرج ميراث ماجان من الظلمة إلى النور بفضل أعمال المسح والتنقيب المستمرة في زمننا، وتمثّل هذا الميراث بسلسلة من الأبراج المنتشرة على رؤوس الجبال، وبمجموعة كبيرة من المقابر، إضافة إلى مجموعة أخرى من مخلفات صهر النحاس. حوى هذا الميراث مجموعة صغيرة من الأختام تشهد لممارسة هذه الصناعة في حقبة مبكرة. في عام 1990، استعرض الباحث الأميركي دانيال بوت مجموعة من 29 ختماً، حملت 11 قطعة منها صورة ثور من فصيلة الدرباني، وهي فصيلة «الزيبو» التي تُعرف بحدبة دهنية على أكتافها، ويعود أصلها إلى شبه القارة الهندية. صُنعت هذه الأختام محلياً، غير أنها تحمل الطابع الذي ساد في وادي السند، وتشهد للعلاقة الوثيقة التي ربطت بين بلاد ماجان وبلاد ملوخا، وهي البلاد التي ذُكرت كذلك في الكتابات المسمارية، واحتار أهل الاختصاص في تحديد موقعها، والأرجح أنها في موقع يرتبط بوادي السند.

أثبتت الأبحاث المعاصرة أن ماجان تقع في شمال إقليم عُمان وأنها شملت أراضي واسعة مما يُعرف اليوم بالإمارات العربية المتحدة

في هذا السياق يبرز ختم مميّز عثرت عليه بعثة فرنسية إيطالية مشتركة عام 1993 في موقع رأس الجنز. يحتلّ هذا الموقع جغرافياً أقصى نقطة في شرق شبه الجزيرة العربية، ويتبع محافظة جنوب الشرقية في سلطنة عمان، وهو موطن لمحمية سلاحف، وفيه تمّ إجراء اكتشافات أثرية مهمة، تدل على اتصاله بوادي السند في الماضي القديم. في هذا الموقع، عثرت البعثة الفرنسية الإيطالية على ختم «تجريدي» يحمل ما يشبه كتابات يصعب تفكيكها، كما عثرت على ختم آخر زيّن نقشاً تصويرياً آدمياً. خرج هذا الختم من المبنى الذي حمل رقم 7 في تقرير المسح، ويعود إلى نحو 2300 سنة قبل الميلاد، ويمثّل شخصين متجاورين يقفان منتصبين في وضعية واحدة أمام ما يُشبه سعفة شجرة نخيل، احتلّت الطرف الأيمن من مساحة الختم المستطيلة. تتكرر هذه القامة البشرية بشكل مفرد على ختم آخر من موقع رأس الجنز، حيث تحضر إلى جانب بهيمة تمثل على ما يبدو كلباً سلوقياً.

تبدو القامتان مجرّدتين من الملامح، وهما أقرب إلى خيالين حُددا بشكل واضح، واللافت أنهما يمثلان معاً نموذجاً تصويرياً يتكرّر في مجموعة محدودة من الشواهد، تعود إلى أواخر الألف الثالث قبل الميلاد. من هذه الشواهد، تبرز قطعة تُعرف بـ«حجر آدم»، وهو على الأرجح حجر جنائزي خرج من مدفن يصعب تحديد موقعه، ونُقل إلى غابة العميري في الجهة الغربية من ولاية أدم بمحافظة الداخلية، حيث جرى استخدامه ضمن بناء حجري بسيط. حمل هذا الحجر اسم الولاية التي اكتُشف فيها، وهو حجر مسطّح يبلغ طوله 61 سنتيمتراً، وعرضه 92 سنتيمتراً، أُضيف إلى تأليفه الأصلي بعض الإشارات والأحرف العربية.

يتجلّى هذا التأليف في نقش ناتئ يمثل كذلك شخصين متجاورين، فقد أحدهما جزءاً من قامته. يظهر في الجهة اليمنى شخص يرتدي ثوباً طويلاً، رافعاً يده اليسرى نحو أسفل صدره. ويظهر في اليسرى شخص يبدو عارياً، يرفع يده اليسرى نحو الأعلى. يرمز هذا التأليف إلى طقس من الطقوس الاجتماعية والدينية، ويشير إلى صلة القرب على الأرجح، غير أن تفسيره بشكل جليّ لا يزال يمثّل تحدياً للباحثين في ميدان الآثار العُمانية.


مقالات ذات صلة

أربعة أيام في محبة الشعر

ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.