مجسّمان جنائزيان من مقبرة «سار» الأثرية

يمثلان طرازاً وسيطاً لأسلوب محلي بأساليب متعددة

مجسّمان من مقبرة «سار» محفوظان في متحف البحرين الوطني بالمنامة
مجسّمان من مقبرة «سار» محفوظان في متحف البحرين الوطني بالمنامة
TT
20

مجسّمان جنائزيان من مقبرة «سار» الأثرية

مجسّمان من مقبرة «سار» محفوظان في متحف البحرين الوطني بالمنامة
مجسّمان من مقبرة «سار» محفوظان في متحف البحرين الوطني بالمنامة

خرجت من مقبرة «سار» الأثرية في البحرين مجموعة كبيرة من القطع الفنية النحتية تعود إلى الحقبة التي عُرفت فيها الجزيرة باسم تايلوس، بين القرن الأول قبل الميلاد، والقرن الثاني للميلاد تحديداً. تشهد هذه المجموعة لثراء هذا الموقع الاستثنائي في ميدان الفنون الجنائزية، وتتميّز بتعددية الطُّرُز الفنية المتّبَعَة في النقش والنحت، كما يتّضح عند دراسة نماذجها المختلفة. وفيما يتبنّى جزء كبير من هذه القطع قوالب جامعة، يتفرّد بعض القطع في المقابل بأساليب تبدو غير شائعة، ومنها قطعة عُرضت في باريس ضمن معرض مخصّص للبحرين، أُقيم في معهد العالم العربي في صيف 1999.

عُثر على هذه القطعة خلال أعمال التنقيب التي أجرتها بعثة محلية بين عامي 1995 و1996 في مساحة محدّدة من مقبرة «سار» التي تقع في المحافظة الشمالية، وتبعد نحو 10 كيلومترات غرب العاصمة المنامة. وكُشف عن هذا الأثر الفني للمرة الأولى في المعرض الذي أُقيم في العاصمة الفرنسية على مدى 4 أشهر، وهو على شكل مجسّم آدمي صُنع من الحجر الجيري، يبلغ طوله 27 سنتيمتراً، وعرضه 10 سنتيمترات، وسُمْكه 7 سنتيمترات. نُحت هذا النصب الصغير في كتلة واحدة تتكون من مساحة مستطيلة تعلوها مساحة دائرية. تمثّل المساحة المستطيلة بدن هذا المجسّم الآدمي، وتمثّل المساحة الدائرية رأس هذا البدن.

تحاكي بنية هذا التكوين بشكل عام طرازاً معروفاً باسم «نفيش»، وهو تعبير آرامي مرادف لتعبير «نفس» في العربية. وهذا الطراز معروف في البحرين، كما تشهد مجموعة من القطع خرجت من مقابر أثرية تقع في المحافظة الشمالية، منها مقبرة الشاخورة، ومقبرة الحجر، ومقبرة أبو صيبع. كما أنه معروف خارج البحرين، كما تشهد قطع مماثلة عُثر عليها في جزيرة تاروت، في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية. يتميّز هذا الطراز بأسلوبه التجريدي الصرف، إذ تخلو مساحته المسطّحة من أي ملامح آدمية، وتمثّل القطع التي تتبنى هذا الطراز شواهد قبور تُغرز في الأرض، وذلك لتحديد موقع الدفن، وتخليد ذكرى من دُفن فيه.

يحاكي المجسّم الذي خرج من مقبرة «سار» هذا الطراز في الظاهر، غير أنه لا يتبنّاه كما يبدو. تتكوّن مساحة هذا المجسّم من كتلة عمودية أسطوانية، وتتميّز بحضور الملامح الآدمية بشكل جليٍّ. الوجه بيضاوي يغلب عليه الشكل الدائري، وملامحه مختزلة غير أنها واضحة، وتتمثل بعينين لوزيّتين صغيرتين نُقشتا بشكل غائر، يتوسّطهما أنف مستطيل طويل نُقش بشكل ناتئ. يحضر الثغر بشكل بسيط، ويتمثّل في كتلة بيضاوية ناتئة بشكل طفيف، يخرقها في الوسط شق غائر يفصل بين الشفتين المجرّدتين. وتحضر الأذنان بشكل مشابه، وتتمثّل كل منهما بكتلة نصف دائرية تستقرّ عند حدود العين.

تحمل مساحة البدن شبكة من النقوش المتوازية تشير إلى ثنايا رداء يتلفع به صاحب المجسّم، ومن طرف هذا الرداء المنسدل، تخرج راحة كف اليد اليمنى المنبسطة، مع خمسة خطوط متوازية غائرة ترسم حدود أصابعها الخمس. كذلك، تظهر اليد اليسرى في الطرف المقابل، وتأخذ شكل كتلة بيضاوية مجرّدة تحتجب تحت ثنية الرداء التي تُمسك بها كما يبدو. يصعب تحديد وظيفة هذا المجسّم، والأرجح أنه صُنع ليرافق المتوفى الراقد في القبر كما يرى أهل الاختصاص. يشابه هذا المجسّم شواهد القبور التي تصنّف تحت خانة «نفيش»، ويختلف عنها بكتلته الأسطوانية وبملامحه الواضحة. في المقابل، تشير كف اليد اليمنى المنبسطة عند أعلى الصدر إلى نسق فني شائع، يحضر بشكل واسع في شواهد القبور التي تتبنى نسقاً تصويرياً يخرج بشكل كامل عن هذا النسق التجريدي. ويشير هذا العنصر تحديداً إلى وضعية المبتهل التي تكوّنت في العالم الإيراني القديم، في ظل الإمبراطورية الفرثية، وبلغت نواحي عديدة من الشرق القديم، واتّخذت في هذه البقاع أشكالاً متفرّعة جديدة.

تتميّز هذه القطعة بهذا الأسلوب المبتكر، غير أنها لا تتفرّد به، إذ نقع على قطعة مماثلة خرجت كذلك من مقبرة «سار»، وحضرت ضمن معرض آخر خاص بالبحرين أُقيم في المتحف الوطني للفن الشرقي في موسكو في خريف 2012 وحمل عنوان «تايلوس... رحلة ما بعد الحياة»، وضمّ مجموعة مختارة من القطع الأثرية الجنائزية، تختزل «شعائر وطقوس الدفن في البحرين» بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثالث للميلاد. تماثل هذه القطعة في تكوينها كما في حجمها القطعة التي عُرضت في معهد العالم العربي، مع اختلاف بسيط في بعض التفاصيل. ملامح الوجه واحدة، غير أنها تبدو أقل رهافة، كما يظهر بشكل خاص في نقش العينين اللوزيتين. الأنف الناتئ مهشّم للأسف، والأذنان المنمنمتان تحدان مساحة الوجه عند حدود العينين، والثغر شبه ذائب في الكتلة الحجرية.

تغيب ثنايا الرداء عن هذه الكتلة كلياً، وتحضر اليد اليسرى في المقابل، وتظهر أصابعها الخمس بشكل كامل. يتكرّر حضور راحة اليد اليمنى المنبسطة في وضعية الابتهال التقليدية، وتشير إلى ظهور نسق اختمر واكتمل في مرحلة لاحقة، كما تشهد عشرات شواهد القبور التي خرجت من عدة مقابر أثرية في العقود الأخيرة.

في الخلاصة، تمثّل هاتان القطعتان الفريدتان اللتان خرجتا من مقبرة «سار» طرازاً وسيطاً يحمل السمات الأولى لأسلوبٍ محليٍّ يجمع بين أساليب متعدّدة خرجت من العالمين اليوناني والإيراني، وذلك فقاً لمسار حضاري طبع مواقع متعدّدة في الشرق القديم، أشهرها عربياً تدمر في سوريا، والبتراء في الأردن، والحضر في العراق.



عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب
TT
20

عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

في نهاية يناير (كانون الثاني) من كل عام ينتظر القراء والكتاب معرض القاهرة الدولي للكتاب؛ الحدث الثقافي الأبرز، بكل ما يحمله من زخم ثقافي، وفعاليات فنية، وكتب جديدة يسارع الناشرون لتجهيزها وطباعتها لطرحها بالمعرض، وفي المقابل تتحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى معرض افتراضي، إذ ينشط المؤلفون ودور النشر المختلفة في الإعلان عن كتبهم الجديدة، بأغلفتها الزاهية، وتمتلئ أجنحة دور النشر بحفلات التوقيع، ليلتقي القراء بمؤلفيهم المفضلين، يتحلقون حولهم، ويلتقطون الصور معهم، حيث يلعب الحضور الجسدي دوراً مهماً في بلورة علاقة حية من التواصل المادي الملموس بين المؤلف والقارئ؛ هذا الطقس الذي يتكرر سنوياً ويظل مبهجاً للقراء والكتاب.

ومع بدء الدورة السادسة والخمسين التي تنطلق غداً (الخميس) وتستمر فعالياتها حتى 5 فبراير (شباط) المقبل، يعيش المعرض ظاهرة لافتة قلما تتوافر في دوراته السابقة، وهي وجود كتب جديدة لن يتمكن مؤلفوها من رؤية أغلفتها وملامسة أوراقها، ولن يقيموا لها حفلات توقيع، فلن يحضروا بأجسادهم بين القراء، وذلك عقب لجوء عدد من دور النشر، الحكومية والخاصة، لإصدار كتب جديدة لمؤلفين راحلين من كبار الكتاب والرموز الأدبية والفنية، بعض هذه الكتب ينشر للمرة الأولى، وبعضها يعاد طبعه بعد نفاد طبعاته السابقة، ومعظمها مرشح لخطف الأضواء، حتى من كتب المؤلفين الأحياء، نظراً لأهميتها الكبيرة، أو لأسماء المؤلفين الراحلين الراسخة في مجالاتها، والذين يشاركون بإبداعهم من موقعهم في العالم الآخر.

ناصف والعطار: في مرايا النقد والحداثة

من الأسماء المهمة التي سيكون لها حضور قوي في معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام، الناقد والمفكر والأكاديمي الراحل مصطفى ناصف (1921 - 2008)، وهو أحد أهم النقاد العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، إذ تعاقدت الهيئة المصرية العامة للكتاب على نشر أعماله، كواحد من أبرز الداعين إلى تجديد مناهج النقد العربي عبر عملية جدلية تضع في حسبانها علاقة الذات العربية بكل تراثها الثقافي والفكري المتراكم، مع الآخر الغربي بكل إنتاجه الفكري والفلسفي. فكان ينظر إلى مناهج الحداثة الغربية بعين عربية فاحصة، تلتقط الصالح منها وتتجنّب كل ما يتنافى مع الخصوصية الحضارية للثقافة العربية.

ووفقاً هذا التعاقد، نشرت الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن إصداراتها لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، عدة كتب للناقد الراحل، منها «الصورة الأدبية»، و«نظرية المعنى في النقد العربي»، و«مسؤولية التأويل»، و«لعبة الكتابة».

من مصطفى ناصف، أحد أشهر أساتذة الأدب في جامعة عين شمس، إلى الأكاديمي البارز والمترجم الراحل سليمان العطار (1945 - 2020) الأستاذ في كلية الآداب جامعة القاهرة، استمر اهتمام الهيئة المصرية العامة للكتاب بإعادة نشر الفكر الأكاديمي والبحثي الرصين، وتعاقدت على إصدار الأعمال الكاملة له، كأحد أبرز المفكرين والمثقفين المصريين، بفكره المتميز العميق وأسلوبه النقدي، واهتمامه الخاص بقراءة التراث، وكان للخيال مكانة خاصة في فكره، واعتبره أداة للخلق المعرفي والابتكار، فدرس نظرية الخيال عند ابن عربي، في كتابيه «الخيال والشعر في تصوف الأندلس»، و«الخيال: النظرية والمجالات عند ابن عربي». كما ترجم العطار أعمالاً أدبية عالمية مثل «مائة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز، و«دون كيخوتي» لثرفانتس، فضلاً عن أن له كتابات إبداعية، مثل رواية «سبعة أيام»، ورواية «عصابة سرقة الآثار» ومجموعة قصصية «النساء لن تدخل الجحيم».

خيري شلبي... حكايات لا تموت

ومن الفكر النقدي والبحث الأكاديمي، إلى الخيال الأدبي، إذ يشارك في المعرض الروائي الكبير الراحل خيري شلبي (1938 - 2011)، أحد أهم روائيي جيل الستينات، الذي رحل عن عالمنا منذ 13 سنة تقريباً، لكن ما زالت في أدراجه أعمال لم تنشر، وعكفت أسرته على جمع مقالاته وكتاباته المتناثرة في عدد من الصحف والمجلات، ونشرها لأول مرة في عدة كتب هذا العام، وسينشر في المعرض، حسب نجله زين العابدين خيري شلبي، كتاب عن فؤاد حداد، وقد كتب عنه شلبي عشرات المقالات، تم جمع عدد منها في كتاب «القطب الأكبر»، ويصدر عن «دار غايا».

يضيف زين: «هناك كتب أخرى جديدة سوف تصدرها تباعاً (غايا)، ومنها كتاب (أساتذتي)، وهو تجميع لمقالات الراحل عن كبار الكتاب الذين كتب عنهم أكثر من مرة، مثل نجيب محفوظ وطه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي. أما الكتاب الثالث (منازل العاشقين)، فيجمع مقالاته في الثقافة الإسلامية والتصوف، بعضها سبق نشره في كتيبات صغيرة، وبعضها نشره في سلسلة مقالات بمجلة (الإذاعة والتليفزيون)، حيث كان يعمل صحافياً بها، ولم تنشر في كتب من قبل. في حين أن الكتاب الرابع (في وداع الأحباب) يصدر في جزأين، ويضم مقالات الرثاء التي كتبها شلبي في وداع الكتاب والفنانين والمثقفين وغيرهم ممن رحلوا وعاصر هو رحيلهم، أو ممن تذكرهم في ذكراهم، وهذه المقالات أيضاً كانت منشورة بشكل متفرق في مجلة (الإذاعة والتليفزيون)، ولم يسبق جمعها في كتاب».

ويضيف زين أن هناك أيضاً سبعة كتب، تصدر عن دار «بيت الحكمة»، تجمع أغلب بورتريهات شلبي التي كتبها في مجلة «الإذاعة والتليفزيون» وصحف أخرى، واخترنا البورتريهات المكتوبة عن المصريين، وجمعناها في كتاب «أعيان مصر»، وهو العنوان الذي وضعه الراحل لبعض مقالاته هذه، ولم يسبق من قبل نشر هذه البورتريهات مجمعةً في كتاب بعنوان واحد، وهو ما تصدت له «بيت الحكمة» لنشره في سبعة أجزاء.

مذكرات عميد المسرح العربي

ومن الأدب إلى الفن، فقد أصدرت «دار المعارف» طبعة جديدة من مذكرات أحد أهم رموز الفن، عميد المسرح العربي يوسف بك وهبي (17 يوليو/تموز 1898 - 17 أكتوبر 1982) بعنوان «عشت ألف عام»، بعد نفاد طبعاته السابقة. وكانت مؤسسة «دار المعارف»، حسب مدير النشر فيها إيهاب الملاح، هي التي نشرت الطبعات المتعددة والمتعاقبة من هذه «المذكرات»، وأعادت إصدارها أكثر من مرة، كانت آخر طبعة كاملة منها في عام 1976، في ثلاثة أجزاء؛ وأقبل عليها القراء، ما دفع «دار المعارف» آنذاك إلى إصدار طبعات جديدة منها في غضون فترات زمنية قليلة. وطوال ما يقرب من أربعة عقود كاملة، اختفت المذكرات تماماً، ولم تعد متاحة سوى بنسخ مفردة وقليلة جدّاً لدى باعة الكتب القديمة.

وفي سنة 2021 صدر الكتاب في طبعة كاملة بمجلد واحد يضم الأجزاء الثلاثة مجتمعة، منذ آخر طبعة صدرت عنها بين عامي 1976 و1982، وتضم ملحقاً وافراً بالصور النادرة والفريدة لعميد المسرح العربي يوسف وهبي في أعماله المسرحية والسينمائية، قبل أن تصدر هذه الطبعة الأحدث من الكتاب بالتزامن مع الدورة الـ56 من معرض القاهرة للكتاب.

أسامة أنور عكاشة... «ظل لا يغيب»

الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة (1941 - 2010)، المعروف بأيقونة الدراما التليفزيونية، سيكون حاضراً في دورة المعرض هذا العام، لكن بأعماله القصصية الأولى، إذ بدأ الراحل مسيرته كاتباً للقصة القصيرة، قبل أن يتجه للدراما التليفزيونية التي أصبح أحد أعلامها الكبار، وقد جمعت ابنته نسرين أعماله القصصية في كتاب بعنوان «ظل لا يغيب»، يصدر عن دار «بيت الحكمة»، ويضم الكتاب الأعمال القصصية الكاملة للراحل، وهي ما نشره في مجموعتي: «خارج الدنيا» (1967)، و«مقاطع من أغنية قديمة» (1985)، والقصص التي يتضمنها كتاب «على الجسر» (2005)، بالإضافة إلى قصة لم تُنشر من قبل، هي «ظلٌ لا يغيب»، التي تُعد من بواكير أعماله، وتبدو فيها البذرة التي ستنمو بعد ذلك في مسيرته الدرامية الطويلة، ويُعد عنوانها علامةً على حضوره الدائم في الساحة الإبداعية.

صحيح أن هؤلاء المؤلفين وغيرهم من الراحلين الذين صدرت طبعات جديدة من أعمالهم، غادروا عالمنا، لكن الأفكار الحقيقية والرصينة لا تموت، وقادرة على تجديد ذكرى أصحابها، ليظل دائماً حضورهم مشعاً في الوجدان والتاريخ.