هل طرد أفلاطون الجسد من جنة الحب؟

كتابه «المأدبة» بدا انتصاراً للحب على الحرب عشية السقوط الأثيني

مأدبة أفلاطون
مأدبة أفلاطون
TT

هل طرد أفلاطون الجسد من جنة الحب؟

مأدبة أفلاطون
مأدبة أفلاطون

لم يكن كتاب «المأدبة» الذي وضعه أفلاطون قبل خمسة وعشرين قرناً مجرد مدونة منتهية الصلاحية حول الحب والرغبة والعلاقات بين البشر، بل هو العمل الرائد والتأسيسي الذي استطاع أن يدمغ ببصمته الخاصة تاريخ الحب ومفاهيمه والنظريات المتعلقة به في العالم، وفي الثقافة الغربية على نحو خاص. ومع أن تسمية الكتاب قد استندت إلى المأدبة العامرة التي أُقيمت في منزل الشاعر التراجيدي أغاتون، إثر فوزه في مسابقة للدراما تم تنظيمها في أعياد ديونيسيوس، إله الكرمة والزرع والخمر، فإن الفيلسوف اليوناني الأشهر أراد بتلك التسمية أن يتخطى البعد المادي للوليمة، متلمساً بُعديها الثقافي والفلسفي، وموائماً بين غذاء الجسد وغذاء الروح.

على أن أي تأمل عميق في آراء الأشخاص المشاركين في تلك المناظرة النادرة في عمقها وتنوعها، لا بد أن تسبقه وقفة مماثلة عند تاريخ المناظرة نفسها، وهي التي أقيمت في الفترة التي أعقبت اشتعال الحرب الضروس بين أثينا وإسبارطة، وقبل سنوات قليلة من انهيار المدينة التي حملت شعلة التنوير في العالم القديم. ولعل من بين المفارقات التي عكستها مأدبة أفلاطون أنها لم تكن مجرد جلسة للمنادمة والأحاديث الساخرة، تنادى إليها مثقفون أثينيون مختلفو المشارب والثقافات، معظمهم من ذوي النزعات المثلية، بل كانت مطالعة إنسانية في الحب والشغف، لم يظهر بعدها أي تصور للتفكر أو التأمل الديني للرغبة، من دون أن يستند إليها مرجعاً تأسيسياً، وفق المحلل النفسي جاك لاكان.

وإذا كان كل من المشاركين يستند إلى خلفية ثقافية ومعرفية مختلفة، فهو أمر أملاه حرص أفلاطون على تلمّس الحقيقة من غير زاوية ومنظور. وهكذا كان بين المشاركين فيدروس، الفتى المفتون بالميثولوجيا القديمة، وباوسنياس المختص بالقوانين، وأركسيماخوس المهتم بالطب والفنون، وأريستوفان الشاعر الكوميدي، وأغاتون الشاعر التراجيدي المحتفى به، وسقراط الفيلسوف الممتلئ بالحكمة. وحيث كانت أثينا تترنح تحت وطأة الضربات الإسبارطية القاسية، لم يفت أفلاطون أن يلون مأدبته بنكهة حربية، فضم إليها ألكبياديس، أحد قادة الجيش الأثيني.

وإذ يفتتح فيدروس جلسة الحوار، يكشف عن حنينه البالغ إلى الحقبة الوردية لبزوغ الوعي اليوناني، معتبراً إيروس الإله العظيم الذي لا أم له ولا أب، ومشيداً بالأجيال السابقة التي صنع أبطالها الشجعان من أمثال أخيل، مجد اليونان وعظمتها الحقيقية. ويضيف فيدروس أن الحب يدفعنا نحو التصرفات الصائبة، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يفقد شرفه أمام محبوبه حتى في لحظات الموت، وأن جيشاً من العشاق قادرٌ على هزيمة أعتى الجيوش وأكثرها بأساً.

ورأى بوسانيوس في مداخلته أن للحب الإيروسي طبيعتين اثنتين، واحدة حسية وأخرى روحية. وهو يعزو هذه الازدواجية إلى أفروديت، إلهة المتعة والجمال، التي كانت مزدوجة الهوية. فثمة أفروديت سماوية وُلدت من دون أم، من إله السماء أورانوس، وأخرى أرضية، هي ابنة زيوس وديونا، التي يسميها بوسانيوس بالوضيعة أو الدنيئة. وعدَّ أركسيماخوس أن الحب يشيع في حركة الطبيعة، ويجسد خير تجسيد حاجة الكون إلى التآلف. وهو إذ يتمتع بقوة عاتية تصعب مقاومتها، فإن هذه القوة «لا تظهر في النفوس البشرية وحدها، بل في الحيوانات والنباتات بقدر مماثل».

بعدها قدّم أرستوفان مطالعة مسهبة حول الحب مفادها أن البشر كانوا منقسمين إلى أجناس ثلاثة، ذكر وأنثى وخنثى، ليضيف بأن أجساد تلك الكائنات كانت مستديرة في السابق، وكان لكل منها أربع أيدٍ وأرجل ووجهان متماثلان، وكانت أجزاؤها السفلى مزدوجة، وحركتها في المشي دائرية أيضاً. وقد ظل شأنهم كذلك إلى أن تطاولوا على سلطة الآلهة، فقرر كبيرها زيوس قسمة كل منهم إلى كائنين اثنين؛ لكي يضعف شأنهم، ولكي ينشغل كل منهم بالبحث المضني عن نصفه المفقود. وحين يتفق لأحدهم أن يلتقي نصفه ذاك، ينتاب كليهما شعور مذهل بالتعلق والتقارب، بحيث لا يرغبان مطلقاً في أن يفترق أحدهما عن الآخر.

ثم تحدث أغاتون، الشاعر التراجيدي المحتفى به، فرفض اعتبار إيروس أقدم الآلهة، بل عدّه أجملها وأصغرها سناً، وأكثرها حرصاً على رفد العالم بالحب والتآلف والإخاء. وهذا الإله بالذات هو الذي يستحق أن تدبج له المدائح، حيث زالت بمولده معظم المنازعات بين الآلهة والبشر، وتراجع في كنفه منسوب الشقاء في السماء والأرض.

أما سقراط، فينسب رأيه في الحب إلى امرأة محنكة تسمى ديوتيما، قائلاً بلسانها إن رغبة الاتحاد في الآخر لا قيمة لها مطلقاً إذا لم تعكس نزوع صاحبها إلى الخير والجمال والخلود. ويضيف سقراط أن بعض البشر يسعون إلى الخلود عن طريق النزوع الجسدي إلى الإنجاب وتأبيد السلالة، في حين أن المبدعين منهم يؤثرون «الحبَل» في أرواحهم، فيسعون إلى إعلاء العقل ومعانقة الجمال الأسمى. وما الجمال الجسدي بشيء يُذكر إزاء ذلك الجمال الذي يشع بالمعرفة والحكمة والسمو الأخلاقي.

وإذ وافق أفلاطون نظراءه على بعض آرائهم، لم يوافق على اعتبار إيروس إلهاً، بل عدّه شيطاناً يلعب دور الوسيط بين البشر والآلهة. وهذه الماهية الشيطانية لإيروس تعود إلى ولادته من علاقة عابرة أقامها بوروس إله الرفاه المخمور، مع بينيا إلهة الفقر، أثناء وليمة صاخبة أقامها الأول احتفاءً بولادة أفروديت. وأضاف بأن إيروس كان خادم أفروديت الأمين لأنه مدين لها بولادته، وأنه كان بطبيعته محباً للجمال لأن أفروديت كانت تتمتع بجمال أخاذ. كما أن نظرية أفلاطون عن إيروس تقوم على مزاوجة جدلية بين المتناقضات، كالفقر والثراء، الحكمة والجهل، القسوة والرقة، والموت والخلود.

على الشخص الذي ينشد الحكمة أن يتدرج في العشق من الافتتان بجمال الأجساد إلى الافتتان بجمال النفوس

ويؤكد أفلاطون أن الحب لا يتم توسله بالعقل وحده، بل إن للقلب إسهامه المهم في الانتقال من المجال الحسي إلى الروحي، ومن النسبي إلى المطلق. كما أن على الشخص الذي ينشد الحكمة أن يتدرج في العشق من الافتتان بجمال الأجساد إلى الافتتان بجمال النفوس، بما يسمح للسالك أن يتحرر من عبودية التعلق بهذه المرأة أو ذلك الفتى، لكي يتمكن من رؤية الجمال الأزلي الذي هو الغاية القصوى لكل من الفكر والعاطفة.

وإذا كانت آراء أفلاطون في الحب قد شكّلت المرتكز الأهم لنظريات الحب في العالم، وفي الغرب المسيحي على وجه الخصوص، فإن الكثير من الفلاسفة والنقاد لم يروا في تلك الآراء ما يتعارض مع مبدأ العلاقة الجسدية الهادفة إلى حفظ النوع بشكل مطلق، بل مع تحول النزوع الشهواني غايةً وحيدةً ونهائيةً. ولعل غلو البعض في شططهم الروحي، هو الذي دفع هؤلاء إلى تحوير الحب الأفلاطوني وفصله التام عن طبيعته الجسدية. فالحب الأرضي - وفق أفلاطون - هو الدرجة الأولى من سلّم الحركة الارتقائية التي ينجم عنها إنجاب الأطفال وإرضاء الحاجة إلى التكاثر. أما الدرجة الثانية فترتبط بالإبداع الشعري والفني والعلمي، وصولاً إلى أعلى نماذج المعرفة والتعلق بالجمال الأسمى. والأرجح أن مقولات فرويد حول الأنا الأعلى، وتحويل الغرائز الحسية دافعاً للفن للإبداع، لم تكن بعيدة تماماً عن المقولات الأفلاطونية بهذا الخصوص.

يبقى القول أخيراً إن «مأدبة» أفلاطون قد استطاعت بثرائها الدلالي وبنيتها التعددية المفتوحة على التأويل أن تشكل المحور الأساسي لعشرات الكتب والمؤلفات والدراسات الاجتماعية والنفسية اللاحقة. ولم يفت الكثيرين أن المأدبة برمتها كانت الذريعة التي ابتكرها أفلاطون للاحتفاء بالحب والكشف عن وجوهه الملغزة، في اللحظة التي انتصر فيها «السيف على الكتب»، وعشية السقوط الأثيني أمام الجبروت الإسبارطي. وهو نفس ما فعله أراغون بعد أربعة وعشرين قرناً من الزمن، حين لم يجد خلفية ملائمة لحب إيلسا، أفضل من سقوط غرناطة ولحظة الغروب الأندلسي.


مقالات ذات صلة

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.