وجهان فتيّان من فيلكا يتبعان الأسلوب اليوناني

هل يمثّلان ملامح الفاتح المقدوني الكبير؟

مجسمان من محفوظات متحف الكويت الوطني مصدهما جزيرة فيلكا
مجسمان من محفوظات متحف الكويت الوطني مصدهما جزيرة فيلكا
TT

وجهان فتيّان من فيلكا يتبعان الأسلوب اليوناني

مجسمان من محفوظات متحف الكويت الوطني مصدهما جزيرة فيلكا
مجسمان من محفوظات متحف الكويت الوطني مصدهما جزيرة فيلكا

في نهاية خمسينات القرن الماضي، شرعت بعثة دنماركية في استكشاف جزيرة فيلكا الكويتية، وأظهرت الحفائر الأولى مسكناً كبيراً عُرف باسم «دار الضيافة». من هذه الدار، خرجت مجموعة كبيرة من اللقى، بينها قطعة على شكل قالب فخاري يحوي صورة غائرة لرأس آدمي، قيل إنّه يماثل في ملامحه وجه الإسكندر الأكبر. واصلت هذه البعثة مهمتها في مطلع الستينات، وكشفت عن أسس مجمع شُيّد على شكل مربع، عُرف باسم القلعة اليونانية. حوت هذه القلعة مجموعة أخرى من اللقى، منها تمثال صغير من الطين المحروق يمثّل رأس شاب أمرد يحمل كذلك سمات الفاتح المقدوني الشهير.

تقع فيلكا في الركن الشمالي الغربي من الخليج العربي، ويضم الجزء الجنوبي الغربي من هذه الجزيرة أهم مواقعها الأثرية، التي تتوزع على سلسلة من التلال، أشهرها «تل سعد» و«تل سعيد». على مقربة من الساحل، وفي منطقة منخفضة بين هذين التلّين، تقع «دار الضيافة»، وتحوي 12 غرفة، منها غرفة تضم مجموعة كبيرة من القوالب الصغيرة المصنوعة من الآجرّ، ممّا يوحي بأن هذه الغرفة شكّلت في الأصل محترفاً محلياً لهذه الصناعة. تنتمي هذه القوالب إلى صناعة تقليدية شاعت بشكل واسع في الشرق القديم، وتتمثّل وظيفتها في صب المجسمات الصلصالية المصنوعة من الطين المحروق.

حسبما جاء في التقرير الأولي الخاص بأعمال البعثة الدنماركية، تمّ صبّ مادة طرية في عدد من هذه القوالب، فخرجت منها تماثيل صغيرة، وتبيّن أن أحد هذه التماثيل المنمنمة يمثّل رأساً تحيطه هالة ويتميّز بأسلوبه اليوناني. وقيل يومها إن هذا الرأس يمثّل رأس الإسكندر الكبير، «وليس من المؤكد بالطبع أنها تمثّل رأس الإسكندر، إلاّ أن ملامح الوجه تشابه ملامحه المشهورة». يبلغ ارتفاع هذا التمثال المنمنم نحو 6 سنتيمترات، وقد وصل بشكل مجتزأ؛ بسبب كسر في القالب الأثري الذي خرج منه، وما تبقّى منه يمثّل الجانب الأيسر من الرأس، من طرف الرقبة الأسفل، إلى أعلى الشعر الذي يكلل الرأس، وذلك ضمن قالب بيضاوي يحيط به على شكل هالة.

قيل في البدء إن هذا الرأس يمثّل الإسكندر الكبير، ويشهد للأثر اليوناني المبكر في جزيرة فيلكا التي عُرفت كذلك باسم إيكاروس، تيمّناً بالجزيرة الشهيرة الواقعة في بحر إيجة الذي يشكّل خليجاً صغيراً ممتداً للبحر الأبيض المتوسط بين أوروبا وآسيا. وقيل إن هذا القالب هو واحد من القوالب التي تعود إلى جنود الإسكندر الذين قدموها نذوراً بعد انتصارهم على أعدائهم في الهند، وعودتهم «سالمين إلى هذه الجزيرة القريبة من بابل، عاصمة الإسكندر الشرقية». ورأى البعض أن الهالة المحيطة بهذا الوجه الفتي الأمرد تحوي شبكة من الخطوط تحاكي تقليدياً شُعُع الشمس، ممّا يوحي بأن هذا الوجه يمثّل الأمير البطلمي الإسكندر هيليوس، أي إسكندر الشمس، ثاني أبناء كليوباترا الثلاثة، أو الإسكندر بالاس، ملك الدولة السلوقية وابن أنطيوخوس الرابع. في المقابل، رفض البعض الآخر هذه القراءات المختلفة، ورأى أن الرأس يمثل البطل الإغريقي هيرقليس في شبابه، واستندت هذه القراءة إلى حضور هذا البطل في فيلكا الذي تشهد له نقوش وقطع أثرية متفرقة.

تكرّر هذا السجال حول تمثال آخر من الطين المحروق، خرج من «القلعة اليونانية» التي تقع على «تل سعيد»، على بعد 300 متر إلى الشرق من «تل سعد»، وهي قلعة محصنة من زواياها الأربع بأربعة أبراج، وتحوي معبدين، الأول مبني على الطراز الإغريقي، وعلى مقربة منها عُثر على لوح حجري يُعرف بـ«حجر إيكاروس»، يحوي نقشاً كتابياً طويلاً ساهم بالتعريف بتاريخ فيلكا في الحقبة التي عُرفت فيها باسم إيكاروس. من هذه القلعة، خرجت مجموعة صغيرة من المجسمات الطينية ذات الطابع اليوناني الصرف، منها الرأس المعروف باسم «رأس الإسكندر»، وهو تمثال من الحجم الصغير، يبلغ طوله نحو 8 سنتيمترات. حافظ هذا الرأس على سماته، وتعرّض إلى تلف طفيف في الجانب الأيسر من الأنف. الملامح واقعية، وتختزل مثال الفتى الأمرد النضر الذي عُرف بشكل واسع في العالم اليوناني، كما في العالم الهلنستي الذي شكل امتداداً له.

قيل عند اكتشاف هذا الرأس إنه يمثل «رأس الإسكندر أو أحد الملوك السلوقيين الذين كانوا يحكمون في الشرق الأوسط»، والمعروف أن حامية تابعة للسلوقيين استقرّت في الجزيرة، قبل أن تتحوّل فيلكا إلى مستعمرة في مطلع القرن الثالث قبل الميلاد، بأمر من أنطيوخوس الثالث الأعظم، الحاكم السادس للإمبراطورية السلوقية. وتوسّعت القلعة في ذلك العهد حتى سقوط السلطة السلوقية في بلاد ما بين النهرين في عام 114 قبل ميلاد المسيح، وأدّى هذا السقوط إلى التخلي عن هذه الحامية التي استقرت في فيلكا، وطبعتها بثقافتها.

رأى البعض أن هذا الرأس يمثل الملك السلوقي الإسكندر بالاس، ورأى البعض الآخر أنه يمثل الملك ديميتريوس الأول الذي حكم قبله. في المقابل، قيل إن هذا الرأس يُمثل هيرقليس في شبابه، واستندت هذه القراءة إلى شواهد أثرية مشابهة خرجت من طرسوس في جنوب تركيا، وديلوس في الجزء الجنوبي من بحر إيجة، كما استندت إلى نقوش تصويرية ظهرت على قطع ما يُعرف بـ«العملات الصورية»، أي القطع المعدنية التي جرى سبكها قديماً في مدينة صور.

في الخلاصة، تبقى هذه القراءات المتعددة افتراضية، والأكيد أن الوجه الذي ظهر في قطعتين أثريتين من ميراث فيلكا يتبع فنياً الأسلوب اليوناني، ويمثّل شخصاً يصعب تحديد هويته بشكل قاطع في غياب أي عنصر تصويري يشكّل صفة خاصة به.


مقالات ذات صلة

هل طرد أفلاطون الجسد من جنة الحب؟

ثقافة وفنون مأدبة أفلاطون

هل طرد أفلاطون الجسد من جنة الحب؟

لم يكن كتاب «المأدبة» الذي وضعه أفلاطون قبل خمسة وعشرين قرناً مجرد مدونة منتهية الصلاحية حول الحب والرغبة والعلاقات بين البشر

شوقي بزيع
ثقافة وفنون دولوز

دولوز... انحاز إلى المقهورين ووقف مع الشعب الفلسطيني

لم يكن جيل دولوز، الفيلسوف الفرنسي الشهير (1925 – 1995)، ممن يرجون فائدة من الكتابة عن حياة المؤلفين الشخصيّة، إذ كان يعتقد بأهمية أن تستحوذ على اهتمامنا.....

ندى حطيط
ثقافة وفنون مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

صدر حديثاً عن «منشورات رامينا» بلندن ديوان شعريّ باللغة الكردية يحمل عنوان «Toza Rojên Berê» للشاعر السوريّ حسين درويش، وهو من ترجمة الشاعر والمترجم ياسين حسين.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون دانيال كلاين

«المعنى الحائر» في هوامش الفلسفة والحياة

يستعير الكاتب الأميركي دانيال كلاين مقولة الفيلسوف راينهولد نيبور: «كلما وجدت معنى الحياة يغيّرونه» ليكون عنوان كتابه الذي ينطلق فيه من تلك «الحيرة»

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب علي الوردي

تهميش تاريخ القبيلة العربية

لعلنا لا نشتطّ في الدعاوى إذا قلنا إن القبيلة العربية هي التي جعلت الشرق شرقاً عربياً كما نعرفه متصلاً بعضه ببعضه الآخر من نجد إلى ليبيا

خالد الغنامي

صدور كتاب للفلسطيني فاروق وادي بعد سنتين من رحيله

صدور كتاب للفلسطيني فاروق وادي بعد سنتين من رحيله
TT

صدور كتاب للفلسطيني فاروق وادي بعد سنتين من رحيله

صدور كتاب للفلسطيني فاروق وادي بعد سنتين من رحيله

صدر حديثاً عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» كتاب «منازل القلب: كتاب الإسكندرية»، للكاتب الفلسطيني الراحل فاروق وادي، وجاء في 232 صفحة من القطع المتوسط.

يقول الروائي والشاعر إبراهيم نصر الله في تذييله للكتاب:

«بصدور هذا الكتاب، يكون قد مرَّ عامان على رحيل فاروق وادي، ولعل أجمل ما يتركه لنا الكاتب إبداع جديد لم يسبق لنا أن قرأناه، نحن الذين نفتقده يوماً بعد يوم، أكثر فأكثر، هو الذي أمتعنا بعدد من أجمل الروايات العربية، متوَّجة بعمله السّاحر الأخير (سوداد: هاوية الغزالة).

ثمة هوة عميقة أحدثها غياب فاروق في حياة القريبين منه، بحيث يمكنني القول إنها المرة الأولى التي أحس فيها بفداحة فقدان صديق.

ويأتي هذا الجديد، كما يشير فاروق في مقدمته التي كتبها للكتاب بنفسه، استكمالاً لثلاثية عشق المدن: رام الله، بيروت، الإسكندرية، هو الذي بدا لي دائماً أن أحاسيسه تجاه مدينة لشبونة، التي بدأ يستطيب الإقامة فيها، كانت تتطور بتسارع كبير بحيث تكون المدينة الرابعة، وليس أدلّ على ذلك من رواية (سوداد)، وكأن قلب فاروق لا يستطيع أن يكون خالياً من حبّ مدينة جديدة. هو الذي كان مضطرّاً دائماً إلى أن يكون بعيداً عن المدن التي أحبّ، مع اختلاف الأسباب.

هذا الكتاب، بقدر ما هو سيرة الإسكندرية، هو سيرة فاروق نفسه، وينسحب ذلك على رام الله التي كتب سيرتها وسيرته، وبيروت في (ديك بيروت يؤذن في الظهيرة)، وإن أتقن التخفّي هنا، وفي (سرير المشتاق)، الرواية التي تكشف أكثر مما تحجب.

وفي كل هذه الكتب، وغيرها، بقي فاروق واحداً من الناس، بعيداً عن بطولات الرّواة وزهْوِهِم بهذه البطولات، ففي كل ما كتب بقي ذلك الإنسان الذي يعشق ويحبّ ويتأمّل، ويسخر من كلّ شيء، ومن نفسه. لكنّه حين يكتب، يكتب بكل الحبّ، فلا يحبّ أنصاف المدن، ولا أنصاف الصداقات، ولا أنصاف الحقائق.

لا يرحل الرائعون، بقدر ما تتضاعف قوة حضورهم، ونحن نكتشف كلّ يوم كم نحن نحبّهم».