«المعنى الحائر» في هوامش الفلسفة والحياة

الكاتب الأميركي دانيال كلاين يستعير أقوال ملهميه من الفلاسفة

دانيال كلاين
دانيال كلاين
TT

«المعنى الحائر» في هوامش الفلسفة والحياة

دانيال كلاين
دانيال كلاين

يستعير الكاتب الأميركي دانيال كلاين مقولة الفيلسوف راينهولد نيبور: «كلما وجدت معنى الحياة يغيّرونه» ليكون عنوان كتابه الذي ينطلق فيه من تلك «الحيرة» التي تكتنزها عبارة نيبور، ويختبرها من خلال «لعبة مع الأسئلة الفلسفية»، على حد تعبيره، التي خاض تأملات طويلة في دروبها منذ شغلت الفلسفة حيزاً كبيراً من تكوينه المعرفي والوجداني.

صدرت الترجمة العربية للكتاب أخيراً عن دار «آفاق» للنشر بالقاهرة بتوقيع المترجمة المصرية الدكتورة شهرت العالم، وفيه يشارك دانيال كلاين (85 عاماً) قارئه سياق فكرة كتابه الذي يستعيد من خلاله تجربة تدوينه المبكرة في «دفتر» ملاحظات صغير كان يُخصصه لتسجيل «الأقوال المأثورة» للفلاسفة الذين تأثر بهم، مصحوبة بتعليقات وهوامش كان يُدونها تحت تلك الأقوال. وبدأت رحلته مع هذا الدفتر وهو في نحو العشرين من عمره، قبل أن يتخذ قراره بالتخصص في دراسة الفلسفة في جامعة «هارفارد»، فيما يبدو أنه كان يبحث من خلال تلك الأقوال المأثورة عن «توجيه من الفلاسفة العظماء حول أفضل السبل لعيش الحياة»، كما يروي في كتابه.

بحثاً عن المتعة

استمر تدوين كلاين للأقوال الفلسفية المأثورة حتى منتصف الثلاثينات. وكان آخر تدويناته آنذاك لاقتباس من الفيلسوف واللاهوتي الأميركي راينهولد نيبور (1892-1971) يقول فيه: «كلما وجدت معنى الحياة يغيّرونه»، وهي العبارة التي سيختارها كلاين بعد نحو خمسين عاماً عنواناً لكتابه الذي قرر فيه تأمل المسافة بين ما يصفها «سذاجة» تلقيه واستسلامه الأول لأقوال فلاسفته الملهمين، وبين التراكم المعرفي الذي ساهم فيه اتفاقهم واختلافهم، وأحياناً تناقضهم، في توصيف معنى الحياة باعتباره السؤال والهاجس المركزي للفلسفة.

يستهل المؤلف كل فصل في الكتاب، الذي يقع في 255 صفحة، بأحد أقوال ملهميه من الفلاسفة، مصحوباً بتعليقاته المُبكرة «الشابة» عليه، و«المُسنة» التي تمثل أثر السنوات والخبرة في إعادة النظر لتلك المقولات وأصحابها.

يتوقف الكاتب أولاً عند الفيلسوف اليوناني إبيقور (341-270 ق.م) الذي ارتكز محور فلسفته على الانغماس الكامل في الحاضر: «لا تفسد ما لديك برغبتك في ما ليس لديك». يتأمل كلاين هذا المنطلق الفلسفي للحياة، ويقول إنه ينسجم بشكل كبير مع شكل الحياة التي اختارها هذا «الفيلسوف النادر الذي تتطابق أفعاله مع أقواله»، ولكن مسألة تجنب التفكير فيما هو أبعد من اللحظة الآنية، المتأثرة بفلسفة «الزن»، تفتح نقاشاً حول طبيعة أكثر الأسئلة البشرية إلحاحاً، وهو سؤال: «وماذا بعد؟»، وتفتح كذلك أطيافاً مختلفة للتفكير في أطروحات مذهب المتعة وفلاسفته. فإذا كان إبيقور متطرفاً في مذهبه ومن أنصار المتعة الحريصة، فإن اليوناني أريستيوبس (435-356 ق.م) كان جامحاً، وهو صاحب مقولة: «يكمن فن الحياة في الاستمتاع بالمُتع في أثناء مرورها، وأفضل المتع ليست فكرية، ولا هي أخلاقية دائماً».

بدأت رحلة المؤلف مع «الأقوال المأثورة» وهو في نحو العشرين من عمره قبل أن يتخذ قراره بالتخصص في دراسة الفلسفة

الألم والملل

هل تكمن السعادة إذاً في غياب الملل؟ يتسلل هذا السؤال بين فصول الكتاب التي تتقدم في الفضاء الزمني للفلسفة أفقياً، من الأقدم إلى الأحدث، في سعي لرصد تقاطعاتها. فعلى سبيل المثال، فإن الفيلسوف الألماني شوبنهاور (1788-1860) صاحب مقولة: «تتأرجح الحياة كالبندول، جيئةً وذهاباً بين الألم والملل»، هو في الحقيقة من أنصار مذهب «المتعة»؛ لأنه يقر بالسعادة كهدف نهائي للحياة. ومثل إبيقور قدم شوبنهاور تعريفاً للسعادة والمتعة بأنهما «غياب للخوف والألم»، كما اتفق مع الفيلسوف اليوناني على أن تقليص توقعاتنا هو الوسيلة الأساسية للتغلب على الحزن، حتى إنه قال: «أكثر الطرق أماناً لتجنب التعاسة الشديدة، هو ألا تتوقع أن تكون سعيداً جداً». يُعلق هنا مؤلف الكتاب على إغراق شوبنهاور في التشاؤم، مستشهداً بذلك على استخدامه تعبير «التعاسة الشديدة»، في حين اكتفى إبيقور بتعبير «غير سعيد».

في هذا السياق يتأمل كلاين المذهب «الانعزالي» الذي ساهم في تكوين فلسفة شوبنهاور. ويروي أنه صادف أقدم الترجمات لكتاب «أوبانيشاد»، وهو نص هندوسي مستوحى من البوذية، يقول: «وجد شوبنهاور في هذه الكتابات الصوفية الميتافيزيقية صدى عميقاً لفلسفته، على الرغم من أن الفلسفة الشرقية تحمل في النهاية نظرة أكثر إيجابية، ويطرح كتاب الأوبانيشاد كيف أن الشخص قد يتمكن من خلال الانفصال والاعتزال من تجربة القبول السلمي للحياة، وهو موقف بدأ شوبنهاور في تبنيه في نهاية حياته»، حتى إنه كتب في هذه الفترة الأخيرة أن تلك النصوص البوذية «كانت سلواي في حياتي وستكون سلواي في موتي».

ويتوقف كذلك عند فلسفة الفرنسي ألبير كامو (1913-1960) الوجودية، ويتأمل مقولته: «لا توجد سوى مشكلة فلسفية واحدة جديّة حقاً، وهي الانتحار». ويربط كلاين بين خيوط متعددة لسجالات كامو الوجودية، ومنها طرحه في روايته الشهيرة «الغريب» التي يقول فيها: «لن تعيش أبداً إذا كنت تبحث عن معنى للحياة»، فالحياة ليست شيئاً نبحث عنه بقدر ما هي شيء نخلقه. وحسب كامو، فإنه حتى من خلال التفكير في الانتحار، فإننا نكون حاضرين تماماً.

ويكشف المؤلف عن مدى تأثره بشعبية فلسفات ستينات وسبعينات القرن العشرين، وكيف أنه تقبل بشكل غير نقدي العدمية الاجتماعية والتمركز حول الذات لدى ألدوس هكسلي، وتيموثي ليري، «إلى جانب ملل وكآبة ألبير كامو وجان بول سارتر»، كما يقول عن نفسه: «كنت حينذاك منغمساً بلا شك في عقلية القطيع، ومع ذلك ساعدني هؤلاء المفكرون على رؤية الفلسفة كوسيلة لتنوير حياتي».

وكان قد صدر لدانيال كلاين عدة كتب بحثية في مجال الفلسفة التي يتخصص بها، أشهرها كتاب «رحلات مع إبيقور»، و«أفلاطون وحيوان خُلد البحر»، وكلاهما حاز على اهتمام نقدي، كما وصلا لقائمة الأفضل مبيعاً لصحيفة «نيويورك تايمز».


مقالات ذات صلة

دولوز... انحاز إلى المقهورين ووقف مع الشعب الفلسطيني

ثقافة وفنون دولوز

دولوز... انحاز إلى المقهورين ووقف مع الشعب الفلسطيني

لم يكن جيل دولوز، الفيلسوف الفرنسي الشهير (1925 – 1995)، ممن يرجون فائدة من الكتابة عن حياة المؤلفين الشخصيّة، إذ كان يعتقد بأهمية أن تستحوذ على اهتمامنا.....

ندى حطيط
ثقافة وفنون مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

صدر حديثاً عن «منشورات رامينا» بلندن ديوان شعريّ باللغة الكردية يحمل عنوان «Toza Rojên Berê» للشاعر السوريّ حسين درويش، وهو من ترجمة الشاعر والمترجم ياسين حسين.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب علي الوردي

تهميش تاريخ القبيلة العربية

لعلنا لا نشتطّ في الدعاوى إذا قلنا إن القبيلة العربية هي التي جعلت الشرق شرقاً عربياً كما نعرفه متصلاً بعضه ببعضه الآخر من نجد إلى ليبيا

خالد الغنامي
ثقافة وفنون رأس ثور ومقبض إناء من محفوظات «مركز مليحة للآثار» في إمارة الشارقة

كنز مليحة الأثري شاهد على التعددية الثقافية

من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة، خرجت مجموعة من القطع البرونزية عثرت عليها بعثة فرنسية خلال أعمال المسح والتنقيب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مسرح ما بعد الدراما والوعي النقدي العربي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مسرح ما بعد الدراما والوعي النقدي العربي

صدر حديثاً العدد 59 من مجلة «المسرح»، أغسطس (آب) 2024، التي تُصدرها دائرة الثقافة بالشارقة، وفيه مجموعة متنوعة من المقالات والقراءات والمتابعات والحوارات

«الشرق الأوسط» (الشارقة)

كنز مليحة الأثري شاهد على التعددية الثقافية

رأس ثور ومقبض آنية من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة
رأس ثور ومقبض آنية من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة
TT

كنز مليحة الأثري شاهد على التعددية الثقافية

رأس ثور ومقبض آنية من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة
رأس ثور ومقبض آنية من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة

من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة، خرجت مجموعة من القطع البرونزية عثرت عليها بعثة فرنسية خلال أعمال المسح والتنقيب التي قامت بها في هذا الموقع بين عامَي 2010 و2011. عُرفت هذه المجموعة باسم «كنز مليحة»، ودخلت «مركز مليحة للآثار» بعد أن خضعت لعملية ترميم دقيقة أعادت إليها بريقها الأصلي.

تحتلّ مليحة مكانة خاصة في خريطة المواقع الأثرية التي تمّ استكشافها خلال العقود الأخيرة في دولة الإمارات المتحدة، وتتجلّى هذه الخصوصية في تعدّديتها الثقافية التي تشهد لها اللقى الأثرية المتنوعة التي خرجت منها منذ انطلاق أعمال المسح فيها في عام 1986 إلى يومنا هذا. تقع هذه المنطقة في الجزء الجنوبي الشرقي من إمارة الشارقة، على بُعد 20 كيلومتراً من مدينة الذيد، وتمتد على مساحة نحو 5 كيلومترات مربعة، تحتضن عديداً من المعالم الأثرية البارزة، منها الحصون والمقابر، كما تضم مركزاً يزخر بعديد من الاكتشافات والمقتنيات التاريخية الخاصة بها، افتُتح في 2016، وحمل اسم «مركز مليحة للآثار».

يحتفظ هذا المركز بمجموعة صغيرة من القطع البرونزية خرجت من مبنى سكني مربع الشكل، قامت بعثة فرنسية باستكشافه منذ سنوات. يعود هذا المبنى إلى الدور الأخير من تاريخ مليحة الذي يمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي، ويبدو أنه شهد فترة سكنية قصيرة، خرب بعدها، وتحوّل إلى أطلال غمرتها رمال الصحراء. يحوي هذا المسكن المهجور قاعات موزعة حول ساحة تحتل مركز الوسط، منها قاعة مخصصة لممارسة الأعمال المنزلية، وُصفت بـ«المطبخ»، كما جاء في التقرير العلمي الخاص بأعمال المسح الذي نشرته «حولية آثار الشارقة». وبين أطلال هذا المطبخ، عُثر على مجموعة من القطع البرونزية أطلقت عليها البعثة الفرنسية التي اكتشفتها اسم «كنز مليحة». يتألّف هذا الكنز في الواقع من 5 قطع تتمثّل برأس ثور، ومقبض إناء، وقارورة صغيرة، وسلسلة مؤلفة من 20 حلقة، إضافة إلى كسرة كبيرة على شكل قلب هندسي، تعود إلى قطعة يصعب تحديد هويتها.

تتميّز قطعتا رأس الثور ومقبض الإناء بطابعهما التصويري وبأسلوبهما الفني الذي يجمع بين مؤثرات متعدّدة. يبلغ طول رأس الثور وعرضه نحو 11 سنتيمتراً، ويحوي 3 ثقوب تشير إلى أنه كان في الأصل مثبّتاً بواسطة 3 مسامير على أثاث خشبي ضاع أثره. ينتمي هذا الرأس إلى ما يُعرف في قاموس الفنون باسم «بروتوما»، وهذا التعبير يوناني، ويعني «مقدّمة جزئية»، ويشير إلى أي قطعة تمثّل رأس كائن من الكائنات الحية المتعددة الأجناس.

من جنوب شبه جزيرة العرب، خرجت عشرات المجسّمات التي تصوّر رأس الثور، وغلب على هذه المجسمات التي تعدّدت وظائفها طراز جامع خاص، تميّز بطابع هندسي اتخذ أنماطاً متعدّدة. بلغ هذا الرأس أنحاء أخرى متعددة من جزيرة العرب، وحمل في القرون الميلادية الأولى سمات واقعية حسية، تعكس أثر النماذج اليونانية التي يزخر بها كذلك هذا الميدان الفني. يتبنّى ثور مليحة هذا النسق الهلنستي بشكل جلي يظهر في تجسيم الجبهة والخدين والذقن والفم. في المقابل، يظهر الطابع الشرقي في لبدة الشعر التي تتوسط أعلى الرأس، وفي الحلقتين الدائريتين اللتين تحيطان بالقرنين الكبيرين الممتدين أفقياً، كما يظهر في الأهداب اللوزية التي تحيط بمحجري العينين، وفي السوار الذي يحدّ أعلى الأنف. يبدو هذا الرأس فريداً من نوعه في ميراث مليحة، غير أنه يمثل نموذجاً انتشر بشكل واسع في العالم المتوسّطي المتعدّد الأقاليم، وبلغ نواحي مختلفة من الشرقين الأدنى والأوسط، كما تشهد القطع الأثرية العديدة التي خرجت من مواقع متباعدة جغرافياً.

تتميّز قطعتا رأس الثور ومقبض الإناء بطابعهما التصويري وبأسلوبهما الفني الذي يجمع بين مؤثرات متعدّدة

يبدو مقبض الإناء أكثر إثارة، وتظهر عملية التنظيف والترميم التي خضع لها بعد أن طمست الأكسدة معالمه، أنه يتكون من مواد عدة معدنية، منها الفضة، ويتميز بزينته التصويرية غير المألوفة. تتألف هذه الزينة من عناصر عدة حافظت على معالمها بشكل شبه كامل، وتتمثّل في 3 وجوه آدمية وطير من فصيلة البط. في القسم الأعلى نقع على وجهين جانبيَّين متماثلين تبدو معالمهما ذكورية. يتطلع الوجه الأعلى في اتجاه اليسار، ويتطلع الوجه الأسفل إلى اليمين، ويغلب على ملامحهما الواحدة الطابع الواقعي الصرف. يعلو الرأس شريط عريض يلتف حول الهامة ويحدّ الجبين، ويبدو هذا الزي غريباً في هذه الناحية من الخليج. بين الرأسين، يحضر طير في وضعية جانبية، وتظهر معالم تكوينه المختزلة بأنه من فصيلة الإوز، ويمثل على الأرجح ما يُعرف بـ«الإوزة المصرية»، كما يوحي طول عنقه المتوسط حجماً.

يحتلّ الوجه الثالث الجزء الأسفل من المقبض، ويشكّل جزءاً من تمثال آدمي نصفي، يغلب عليه الطابع الأنثوي. ينحني الرأس بشكل طفيف نحو الأسفل، وتبدو ملامحه واقعية، كما يشهد تجسيم الأنف والثغر والعينين المطعمتين بمادة بيضاء تمثل محجريهما. تعلو هذا الرأس كتلة بيضاوية تمثل خصل شعر الرأس المرفوعة نحو الأعلى على الأرجح، وتتخذ هذه التسريحة شكل قبعة عالية. ترتدي هذه القامة ثوباً فضفاضاً، وتحمل بيدها اليمنى عصا طير، ترفعها نحو الأعلى، كما تقبض بيدها اليسرى على كتلة دائرية تظهر في القسم الأسفل من صدرها.

تمثّل هذه العصا وهذه الكتلة الدائرية عنصرين معروفين في أبجدية الفن اليوناني الكلاسيكي، يرمزان إلى القوة والسلطة والسيادة. تحمل هذين العنصرين في أغلب الأحيان صبية تجسد معبودة يونانية تُدعى نيكه، انتشرت صورتها باكراً في مناطق واسعة من الشرق الأدنى وآسيا الصغرى، وتكرّرت في ميادين مختلفة تعدّدت وظائفها، من النحت الميداني إلى القطع النقدية، وباتت صورة لسيدة تجسد القوة والسلطة فحسب. تحضر هذه الصورة في مليحة على مقبض آنية ضائعة، وتشهد للتعددية الثقافية المدهشة التي تميّزت بها هذه المقاطعة خلال تاريخها المتواصل على مدى أكثر من 6 قرون من الزمن.