جمال بيروت الفريد هو مصدر ثرائها وشقائها الأبديين

ننُّوس اليوناني في قصيدته الرؤيوية «ملحمة بيروت الميمونة»

جانب من مدينة بيروت (أ.ف.ب)
جانب من مدينة بيروت (أ.ف.ب)
TT

جمال بيروت الفريد هو مصدر ثرائها وشقائها الأبديين

جانب من مدينة بيروت (أ.ف.ب)
جانب من مدينة بيروت (أ.ف.ب)

قليلة هي المدن التي كانت مسرحاً للنزاعات وصراعات القوى المتناحرة، كما هي حال بيروت ذات الجمال الآسر والتاريخ الحافل بالمفارقات. فقد قُدّر لهذه المدينة العريقة، التي اشتقت أسماؤها المختلفة، بيريتوس وبئروت وبيرويه، من لفظة البئر، وفق بعض المؤرخين، أن تدفع غالياً ثمن موقعها ودورها المميزين، وأن تهبط إلى بئر عذاباتها السحيقة كلما وصل مجدها إلى ذراه. والأرجح أن الجغرافيا الملتبسة التي وهبت بيروت نعمة الجمال، هي نفسها التي جعلتها ضحية فالقين زلزاليين، أحدهما جيولوجي يكافئ قياماتها المتجددة بالدمار الكلي أو الجزئي، والآخر حضاري ثقافي، يحول تاريخها الطويل إلى محل للتنازع الدائم بين الداخل والخارج، أو بين جماعاتها الأهلية المتنابذة.

كأن بيروت بهذا المعنى أشبه بالوعد الذي يصعب تحققه، أو بمدينة مؤجلة تظل أبداً قيد الإنجاز، أو هي قصيدة مموهة بهيئة مدينة. ولأنها كذلك، فقد حظيت عبر العصور المتعاقبة باهتمام الكثير من الشعراء الذين رأوا فيها صورة عن الشعر نفسه، سواء في بحثه اللانهائي عن يقين ما، لا يكف عن الهروب، أو في احتفاء اللغة بحريتها المجترحة خارج سجون المعاجم.

وإذا كانت بيروت قد شكّلت محوراً أساسياً للمئات من قصائد الشعراء ومقطوعاتهم ونصوصهم، فإن القصيدة الطويلة التي كتبها ننّوس اليوناني في القرن الرابع الميلادي، تحت عنوان «ملحمة بيروت الميمونة»، هي واحدة من أهم النصوص التي كُتبت في حب بيروت وحولها، عبر العصور المختلفة. لكن ما يبعث على الحيرة والاستغراب هو كون الشاعر الذي قدم هذا الإنجاز المتميز قد ظل مغموراً وغامض الهوية إلى حد بعيد، إضافة إلى أن عمله المدهش لم يلفت انتباه أحد من النقاد والدارسين العرب، قبل أن يتولى المؤرخ والكاتب اللبناني يوسف الحوراني نقله إلى العربية في العام الأخير من القرن العشرين.

الملاحظ أن كل ما ذكره المؤرخون ودارسو الأدب عن ننوس، هو أنه ولد في الإسكندرية أواخر القرن الرابع الميلادي، ثم جاء بعد ذلك إلى بيروت ليستقر فيها، وهي التي كانت في الآونة التي سبقت زلزالها الشهير مدينة الشرائع وعاصمة الثقافة التعددية، التي يقصدها الآلاف من كل صوب، لجنْي المعرفة والمتعة على حد سواء. وقد قُيض للشاعر اليوناني المأخوذ بدور بيروت الحضاري أن تتفتح موهبته في كنف التوترات المقلقة التي شهدتها الإمبراطورية الرومانية في تلك الحقبة؛ حيث لم يجد الرومان ما يردون به على دعوة المسيحية إلى قيام «مملكة السلام»، والمحبة بين البشر، سوى خوض الحروب المتكررة والمدمرة، قبل أن يأخذهم ملكهم قسطنطين إلى مصير آخر.

وحيث كانت عبادة ديونيزيوس، إله الكرمة والزرع والخمرة، شائعة في ذلك العصر، فقد جهد ننوس، الذي لُقّب بالديونيسي لشدة تعلقه بالحياة، في أن يُبعد إلهه الأثير عن صورته العنيفة، ليحوله إلى مرشد ثقافي وجمالي، وداعية للوحدة الإنسانية، حيث لا خيار أمام قطبي العالم المتصارعين سوى التكاتف والتآزر لهزيمة البربرية. وإذ اعتنق الشاعر في الوقت ذاته العقيدة الأورفية المنسوبة إلى أورفيوس، التي ترى في الفن والحب هديتي الحياة المثلى، فقد أبدى إعجاباً منقطع النظير بلبنان وأهله، فامتدح قدموس الذي خرج من صور بحثاً عن أخته أوروبا التي اختطفها زيوس، والتي أهدت اسمها إلى القارة الأوروبية، فيما أهداها من جهته حروف الأبجدية. كما أبدى في الوقت ذاته إعجاباً بأدونيس الذي قتله الخنزير البري على ضفة النهر الذي ما لبث أن حمل اسمه، وأظهر اعتزازه بالشاب الإلهي الفاتن الذي فطر مصرعه قلب أفروديت.

أما الملحمة نفسها فتروي بلغة مترعة بالاستعارات وطافحة بالحماس العاطفي قصة المدينة - الأنثى ذات الجاذبية القصوى، التي باتت مع الزمن مدينة العالم وحاضنة الحياة الهانئة، والمحصنة بسور منيع من الشرائع والقوانين. وإذ أرادت أمها أفروديت أن تبحث لها عن زوج مناسب، فقد طلبت من ابنها إيروس أن يوتّر قوسه الذهبي ويضرب بسهم واحد قلب بوسايدون إله البحر، وديونيسيوس إله الزرع والخمر. وبوثبة رشيقة وجناحين يخفقان في الخواء، أنجز إله الحب الصغير فعلته الماكرة، مخترقاً بسهمه المسنون قلب الإلهين معاً، فأقبل الأول من جهات صور ليقدم لمدينته المشتهاة ولاءه وحبه وعناقيد عنبه السوداء، بينما راح مزلزل الأرض بوسايدون يدور حول المكان، مسلحاً بأمواجه الهوج ودوامات قلبه الفائرة.

وبعد أن جعله الخجل فريسة للحذر والتردد، وعقد لسانه جمال المدينة، قرر ديونيزيوس وقد استشعر خطورة خصمه المتربص، الانتصار على هواجسه السوداء، فتقدم نحو معشوقته الفاتنة داعياً إياها إلى القبول به زوجاً بقوله:

إنني فلاح من لبنان الذي يخصُّك

وإذا كان ذلك يرضيك

فسأسقي لك أرضك وأعتني بقمحك

خذيني كبستاني كي أغرس شجرة الحياة

فأنا أعرف كيف ينضج التفاح

وأجعل الزعفران اللطيف ينمو إلى جانب اللبلاب

إلا أن قصائد الإله البري ومناشداته اللهفى لم تنجح في استمالة المدينة الفتية التي أعطت لتوسلاته أذناً صماء. وإذ كان بوسايدون يتابع حرقة غريمه وصدود معشوقته بفرح بالغ، خرج من بين الأمواج ليقدم هو الآخر أوراق اعتماده للمدينة التي خلبت لبه، فخاطبها بالقول:

اتركي الأرض أيتها الصبية

فأمكِ أفروديت لم تكن من الأرض

بل هي ابنة المياه المالحة

إنني أقدّم لك بحري المترامي كهدية عرس

لن أقدّم لكِ البصّارات بعيونهنّ الزائغة

بل سأقدم لك الأنهار كهدية زواج

وستكون جميعها وصيفاتٍ لك

حظيت عبر العصور المتعاقبة باهتمام الكثير من الشعراء الذين رأوا فيها صورة عن الشعر نفسه

وعندما ظهر لأفروديت أن الطرفين متساويان في حبهما لابنتها الفاتنة، أعلنت أن عليهما أن يتقاتلا من أجل العروس، التي ستكون مكافأة المنتصر على شجاعته. وإذ وافق الإلهان العاشقان على الاقتراح، لم يترك كل منهما سلاحاً يملكه إلا واستخدمه في المعركة، فاقتلع ديونيسيوس كروم لبنان من جذورها وبدأ يجلد بها عرين خصمه اللدود. وانتضى بوسايدون شوكة البحر المثلثة، وأجهز بها على الكثير من كائنات البر، قبل أن تشتبك الأسماك مع السحالي، وزهور اللوز مع رغوة الزبد، والأمواج مع جذوع الزيتون. ورغم شعور المدينة الخفي بأن قلبها بدأ يميل إلى فتى الكروم الوسيم، فإن زيوس كان له رأي آخر فزلزل بصواعقه العاتية كيان ديونيسيوس المذهول، تاركاً لغريمه البحري أن يكسب الحرب، ويصبح عريس المدينة بلا منازع.

ومع ذلك فإن بوسايدون أدرك بحدسه الثاقب أن ألق بيروت الفعلي لن تحققه سوى التسويات العادلة بين المتنازعين حولها، فقرر بعد الانتهاء من مراسم الزفاف، أن يتصالح مع اللبنانيين، وأن تكون مساعدتهم في خوض غمار البحر بمثابة الهدية الثمينة لمصاهرته لهم. أما ديونيسيوس المثقل بألم الحب ووطأة الهزيمة، فقد أقنعه أخوه إيروس أن يترك جبال لبنان ومياه أدونيس ليلتحق ببلاد اليونان؛ حيث تنتظره نساء فاتنات ليعوضنه عن خسارته.

والحقيقة أن قراءة متأنية لملحمة ننوس، لا بد أن تُشعرنا بالذهول إزاء ذلك الثراء التخييلي والأسلوبي المدهش الذي يمتلكه المؤلف، كما إزاء وقوفه العميق على معنى بيروت ودورها التنويري، فضلاً عن رؤيته الاستشرافية لمآلات المدينة التي ظلت عبر التاريخ محلاً لتنازع البشر والآلهة، وصراع الداخل والخارج، وحصّالة للمآسي التي لم يكن انفجار مرفئها المروع قبل سنوات أربع سوى حلقة من حلقات مكابداتها المتواصلة. ولعل أفضل ما أختم به هذه المقالة هو استعادة ما كتبه سباستيان كراموازيه في القرن السابع عشر، الذي وصف ننوس بالقول «إنه يساوي جلال هوميروس وسمو بندار وتماسك سوفوكليس وبساطة هزيود وملوحة أريستوفان. إنه الشاعر الذي كان يبحث عنه أفلاطون دون أن يعثر عليه».


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!