كلام الشموع

كانت الدموع في الأساطير الكنعانيّة والرافدينيّة والمصريّة مفصلاً مهمّاً من العقيدة الدينيّة

"نصب الحرية" لجواد سليم
"نصب الحرية" لجواد سليم
TT

كلام الشموع

"نصب الحرية" لجواد سليم
"نصب الحرية" لجواد سليم

لأم كلثوم أغنية من تأليف أحمد رامي وتلحين محمد القصبجي عنوانها «سكت والدمع تكلّم على هواه»، تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي، فهي ليست إذن مما طربَ عليه أبناء جيلي، وعندما سمعتها لم تصمد معي أكثر من دقيقة، بسبب إيقاعها البطيء والرتيب، لكني قرأتُ عنها وأكاد أقول حفظتُ كلماتها في قصّة قصيرة لفؤاد التكرلي هي «الأغنية الأخرى»، ضمن مجموعته القصصيّة «حديث الأشجار»:

«سكت والدمع تكلّم على هواه/ والقلب ياما بيتألّم/ تنزل دموعي على خدودي/ وأقول لها دموعي شهودي... ما تصدّق...».

في «لسان العرب» البكاء ربما كان بصوت أو من دونه، فإذا كان بصوت فهو نحيب، والنشيج مثل النحيب، وقيل هو أشدّه، وشهقت الفتاة إذا ردّدت البكاء في صدرها، فإذا صار صوت النحيب أو النشيج صياحاً فهو عويل، وأجهشت فلانة: تهيّأت للبكاء، وتهمّعت: بكت أو تباكت.

في قصّة فؤاد التكرلي تُقرّر الدموع الصامتة مصيرَ بطلة القصّة، عندما ترفض الزواج من شابّ ثري تقدّم لخطبتها، وتُفضّل عليه حبيبها رغم أنه فقير أو معدم، لكنها تحبّه، وهي المسألة الأهمّ. ندعو في العراق الدموع الصامتة أو الساكتة: «بكاء الشموع»، نوع من بلاغة سامية يلجأ إليها الإنسان في حالات القهر الشديد، وجاءت الاستعارة من أغنية «يبنادم» (يا بني آدم) للمغنّي حسين نعمة: «بجي (بكاء) الشموع الروح/ بس (فقط) دمع ما مش (من دون) صوت/ رَبطَة جِنِحْ مكسور/ قلبي يرفّ بَسْكوتْ (أي من غير صوت)».

دموع الفتاة في القصة هي كلامها، وقد صارت شمعة تذوب من فرط الألم والحزن، وكانت تحاول أن تستحضر حبيبها الغائب في جلسة الخطوبة، بواسطة همس يقع في آخر درجات الصمت، كي يراه أهلها وخطيبها ويتركون الاثنين في حالهما. يقول الشاعر الألماني شليغل: «الكلمات! ما هي؟/ دمعة واحدة ستقول أكثر منها جميعاً»، وبالفعل أدّت دموع الفتاة ما يعادل أطناناً من الكلام، لأن الخطوبة فشلت، وعادت الحبيبة إلى حبيبها.

بالنسبة إلى صموئيل بيكيت، يجري الأمر بالعكس بقدر مماثل، فهو يقول: «كلماتي هي دموعي»، أما نيتشه فهو يرى أنه «لا يستطيع التفريق بين الدموع والموسيقى»، رغم أن ليست هناك علاقة مباشرة أو غير مباشرة، في رأيي، بين الاثنين. اقتبسَ فكرة نيتشه الملتبسة الشاعر سيوران، وكتب قائلاً: «الدموع هي الموسيقى في شكل ماديّ».

في الأساطير الكنعانيّة والرافدينيّة والمصريّة تكوّن الدموع مفصلاً مهمّاً من العقيدة الدينيّة، فالبكاء والنشيج والعويل واجب على الجميع، لأنّه سوف يؤدي إلى بعث الإله الميّت. تبكي عشتار تموز في سبيل إعادته إلى الحياة، وتبكي عنات أخاها بعل، ومثلها تفعل الإلهة إيزيس مع أخيها أوزوريس، وربما كان لمراسيم عاشوراء لدى الشيعة علاقة بهذه الطقوس، فهم يبكون الحسين بن علي بن أبي طالب إحياءً لذكراه في كلّ عام.

عندما تسأل القاموس عن مرادف لكلمة دمعة ودموع يأتيك الجواب فراغاً على الورقة أو على شاشة الحاسوب. ليست هناك كلمة قريبة غير العَبْرة، وهي الدمعة قبل أن تفيض، والرقراق هو الدمع الذي يغمر العين ولا يسيل. لا شبيه للدموع لأن أصلها واحد رغم أن معانيها متعدّدة. يقول الشاعر الإنجليزي وليم بليك: «فرط الحزن يُضحك، وفرط الفرح يُبكي»، والاثنان تصاحبهما العَبرات أو الدموع، لكن بكاء الشموع، أيْ كلامها البليغ والمعبّر والصامت، اختُصّت به المرأة عندما يأكل قلبها اليأس، لعلّه ينقذها ويعالج قلبها المكلوم من الألم والحزن.

يتألف «نصب الحريّة» للنحّات جواد سليم الذي يتوسّط ساحة التحرير في بغداد من أربع عشرة منحوتة من البرونز، تتوزّع على جداريّة طولها خمسون متراً وترتفع عن الأرض ثمانية أمتار، فهو إذن من أكبر النصب في العالم. إحدى وحداته اسمها «الشهيد»، وفيها رجل ساقط كأنما من شاهق، ذراعاه ووجهه يتجّه إلى الأرض، أُمّه تحضن صدره بقوّة وتَعول، وتجلس قربها فتاتان إحداهما ترتدي عباءة سوداء هي الأخت أو الزوجة، تبكي بصمت رمادي ويداها على الوجنتين لصدّ سيل الدموع الجارية. هو بكاء الشموع إذن أو كلامها باللسان العراقي المبين. في المشهد تجسيد للوخز القلبي الذي يطبع حالة الحزن، وقد أعطاه النحّات موقع المركز في النصب. ثمّة ما يُثير بعض الاضطراب في حركة الساقين المعلّقتين في الهواء باتجاه السماء، كما أن هناك قوة روحيّة عميقة في ثبات يدَي الفتاة على الوجنتين، ومبتكرتها هي المرأة العراقيّة. في ظروف فجائيّة ووحي مصادف عبّرت هكذا عن يقظتها الأوليّة وخوفها من الألم والموت، ونقل الفنان عنها هذه اليقظة. إن مهمّته تتلخّص في حمل الخوف من داخلنا إلى الخارج، حيث الضوء، من أجل خلاصنا، وقد نجح جواد سليم في أدائه هذه المهمّة بصورة باهرة. أمام أحد وجوه النساء وبكائها الصامت ينقل النحّات في دفتر مذكراته هذا البيت الشعري لإيليوت:

«ما هذا الوجه/ أشدّ وضوحا وأقلّ وضوحا...».

الشعر مدوّن بالإنجليزيّة، ونقله إلى العربيّة محرّر المذكرات وناشرها، وهو جبرا إبراهيم جبرا في كتابه «جواد سليم ونصب الحريّة». الدموع الصامتة عندما تبلّل الخدّ المسفوع تُزيدُ من وضوح ملامحه، حين تشوّهها أو تطمسها. وجوهنا ليست ذاتها في كلّ وقت، وهي لمسة الفنّ التي ترسم انعكاسات السماء عليها فتظهر على حقيقتها. وفق القاعدة الفنية التي أتانا بها الشاعر محمود البريكان: «الفقدان يكون أجمل حين تُصاغ المراثي»، فإن مشهد اليدين على وجنتي الأخت الباكية غدا أغنية رقيقة بموسيقى هادئة تشدو المرأة فيها بحزنها، وبهذه الطريقة ضَمِن جواد سليم أنْ لا أحد يملّ من تأمّل نصب الحريّة، لأن قصّة الشهيد تتوسّطه فهي مركز الثقل الإبداعي للنصب، أو ما يُدعى مصدر اللذّة الإبداعيّة. ويُلاحظُ المتتبّعُ للتخطيطات «الاسكتشات» في المذكرات أن الفنّان أعاد هذا المشهد في صفحات عديدة، كأنه صار بصمة أو إشارة جوهريّة لا يمكن الاستغناء عنها في التعبير عن المرأة البغداديّة. هل كانت نبوءة أن شدائدَ قادمة وكوارث سوف تقع في البلاد في العقود القادمة؟

أكان يجب أن يطول هذا العذاب إلى ما لا نهاية... أعني أن يتحوّل العراق إلى غرفة فارغة لا شيء فيها سوى الحزن؟

شهد أبناء جيلي حفلات إعدام السجناء السياسيين في الساحات من سلطة حزب البعث الذي حكم العراق بين 1968 و2003، وكانت قوات الشرطة تشترط على الأهالي عدم إقامة مراسم العزاء، وإلا تعرّضوا للسجن أو الترحيل ومصادرة الأملاك. لنا أن نتخيّل صورة بيت الفقيد من الداخل، والنساء فيه يذبن مثل الشموع من فرط الحزن. كما أن فصيلة من المخبرين ينتشرون في كلّ مكان، ويدوّنون (التقارير)، أي ملاحظاتهم المكتوبة يرفعونها إلى السلطات، فلا يحقّ للأم والأخت والزوجة النحيب أو النشيج والعويل، والمسموح هو «بجي (بالجيم المعطّشة أو المثلثة) الشموع الروح/ بس دمع ما مش صوت».

الحزن الذي يصاحب البكاء الصامت يكون أكثر قوّة، وبالتالي أذى، وهو السبب الذي يدفع الجلّاد في طلبه، لكي يُنزل بالضحيّة عذاباً أكبر. علي عيدان عبد الله شاعرٌ مغمور، رغم أنه أوّل من كتب قصيدة النثر في العراق. في إحدى قصائده تصوير لحالات الإعدام الجماعي رمياً بالرصاص، وكانت تتمّ في الساحات وأمام جمهور من الناس، من بينهم أقارب الضحايا. أنقل لكم قصيدة الشاعر كاملة لأنها تختصر كلّ ما قلته. عنوانها «آباء لا يموتون»:

«لم يكتفِ قادة الحملة بتقييد الرجال في صفّ واحد فحسب، ولكنهم حشّدوا أطفالهم ليجبروهم على التصفيق مع كلّ رشّة رصاص تطيح بآبائهم الموقوفين أمامهم مكتوفي الأيدي،

لكننا حين كبرنا

وأدركنا حقيقة ما جرى

قرّرنا أن نكون آباءً

لآبائنا الأجلّاء

أولئك الذين لا يموتون

والذين نكرّمهم كآلهة في أرضنا».

لم نعثر خلال دراستنا فيما يُدعى «علم اجتماع الدموع» على ذِكر للبكاء الصامت في تاريخ العراق القديم والوسيط، أي إنه خاصٌّ بعصرنا الحديث. حين تبكي العيون مثل الشموع التي يركض فيها الصمت لكي تذوب، تتمنّى صاحبة القلب الضعيف الممرور الشفاء ولو عن طريق الموت. أكان يجب أن يطول هذا العذاب إلى ما لا نهاية، أعني أن يتحوّل العراق إلى غرفة فارغة لا شيء فيها سوى الحزن؟

عندما يتوقف الحاكم عن التمسّك بأدنى حالات الإنسانيّة يُصاب بحالة انفعال شديدة تشبه الخبال، تؤدي به إلى ارتكاب مثل هذه الجرائم. هل كان بقاء حزب البعث في السلطة في العراق نحو أربعة عقود دليلاً على سخط الربّ علينا وعقوبته لأننا اعتقدنا في أحد الأزمان أن الخير في بلادنا لا ينتهي؟ سورة النحل، آية 112: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَة كَانَتْ آمِنَة مُّطْمَئِنَّة يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).


مقالات ذات صلة

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب إميلي هنري

إيميلي هنري... كتب تحقق أعلى مبيعات من دون ترويج ولا «تيك توك»

لم يسبق لإيميلي هنري قط أن أجرت جولة للترويج لأحد كتبها أو قرأت مقاطع من كتبها داخل إحدى المكتبات بهدف الترويج.

إليزابيث إيغان
كتب «منازل العطراني»... سيرة ذاتية بنكهة الرواية الحديثة

«منازل العطراني»... سيرة ذاتية بنكهة الرواية الحديثة

رواية «منازل العطراني» للروائي جمال العتابي، الصادرة عام 2023، سيرة ذاتية بنكهة الرواية الحديثة

فاضل ثامر

الفن إبداع لا اكتشاف

الفن إبداع لا اكتشاف
TT

الفن إبداع لا اكتشاف

الفن إبداع لا اكتشاف

ليسوا بالقلة من يرون أن الفلسفة يجب أن تكون خادمة للعلم، وأن عليها أن تصمت ما عدا طرح الأسئلة عليه لكي يجيب هو عنها. نحن نتحدث عن أناس من أذكى أذكياء العالم من أمثال ويلارد كواين ولودفيغ فتغنشتاين وفلاسفة الوضعية عموماً. ومع ذلك، فالأقرب أنهم مخطئون في هذا التقرير؛ لأن العلم بطبعه جزئي يحتاج إلى من يملك الرؤية الكلية الشاملة التي ترى اللوحة كاملة، وهذا لا يوجد إلا عند الفيلسوف المثالي. كم من عالِم يُشار إليه بالبنان، لكنه ما إن يتجاوز تخصصه المعملي أو النظري ويتفلسف، حتى يأتي بالآراء الغريبة والتصورات القاصرة. وهذا يصيبنا بصدمة؛ لأننا نتخيل أن من سار على نهج التجربة العلمية لا يمكن أن يخطئ. ونحن مخطئون في هذا.

يبدو أن هناك نوعاً من الغلو والتأليه للعلم في أزمنتنا، وهناك اندفاع كبير لتقديس جديد لما يسميه هايدغر وغادامر «طريقة التفكير الحسابي» المبني على الأرقام والريضنة. هو عظيم في اكتشاف الطبيعة، لكنه ليس بصالح للتعاطي مع الإنسان.

ولعل أكثر الناس غلوّاً في العلم هم أولئك الذين لم يقرأوا تاريخه جيداً وكيف بدأ صغيراً ممزوجاً بالخرافات، كخرافة القيثارة الفيثاغورية التي زعم أن الآلهة تعزف عليها. ثم تضخم بعد الثورة العلمية التي انتهت بموت نيوتن، ثم كيف انتهى الأمر إلى النسبية كما يطرحها توماس كون الرافض فكرة تطور العلم المطرد.

لعله من الحسن أن نتفلسف قليلاً على ثنائية العلم والفن، وأن نسلط الضوء على الفن وأن نتحسس ما يعنيه. الحياة ليست كلها علماً، بل ما أقل مساحة العلم، الطبيعي، موضوع الحديث، في حياتنا، إذا ميزنا بينه والتكنولوجيا. فالتكنولوجيا هي الآلات والأنظمة والوسائل التي تهدف إلى التجميع والتخزين ونقل الطاقة والمعلومات وليست العلم نفسه، وإنما هي التي تمد العلم بالمعدّات التجريبية.

في عالمنا العربي، هناك عدد قليل من المختصين الذين يكتبون عن ثنائية العلم والفن. الفن على درجة عالية من الأهمية، خصوصاً، عندما ننتبه إلى عميق تأثيره على الإنسان، وعلى درجة احتياجنا إليه. لعل السبب في هذا هو أننا ما زلنا لا نحترم الفن حقاً كما يستحق. مع موافقتي على أن الفن إنما هو للمتعة المجردة، إلا أن هذه المتعة في حاجة إلى تقدير أكبر. لا يليق أبداً أن ننظر إلى الفنان على أنه مجرد شخص نستأجره ليسلينا بعض الوقت.

ما أريد أن أسلّط عليه الضوء اليوم هو أن ثمة مزية للفن على العلم، قد لا تلتفت إليها النظرات العجلى؛ فالعالم الطبيعي يكتشف حقائق موضوعية موجودة من قبله. إن لم يكتشفها علماء عصرنا فسيكتشفها علماء العصور المقبلة. الحديد يتمدد بالحرارة، ولن أقول المعادن كلها تتمدد بالحرارة؛ لأننا لسنا على يقين من ألا نكتشف معدناً لا يتمدد أبداً. هذه حقيقة موضوعية، من ضمن الموضوعات الواقعية التي تتميز بصفات وعلاقات موجودة خارج الإنسان ومستقلة عنه. مع أنه من الممكن أن نتحدث عن موضوعية انعكاس الواقع عند البشر، أي يمكن أن نتكلم عن وجود مضمون موضوعي في الذهن البشري، ما دام أن هذا المضمون هو انعكاس موضوعات العالم الخارجي.

أما الفن، فلا يوجد فيه حقيقة موضوعية على الإطلاق، هو شيء ذاتي بالمرة، وهو يُخلق من لا شيء، وهو لا يكتشف شيئاً كان موجوداً قبله. عمل موزارت كله إبداع على غير مثال سابق، ولا يوجد فيه اكتشاف لكنوز كانت مدفونة؛ فالكنز هو عبقريته فقط، ولو لم يولد موزارت لحُرمنا للأبد من اثنين وعشرين عملاً أوبرالياً وواحدة وأربعين سيمفونية لم يسمع العالم مثلها قط. لو لم يوجد موزارت فهذا معناه أن فنه سيكتسب صفة العدم. العدم لا اسم ولا صفة له سوى أنه عدم، لم ولن يدخل عالم الوجود.

لو لم يولد فرنسيس فورد كوبولا لما أمكن على الإطلاق تحويل رواية ماريو بوزو «العرّاب» إلى هذه التحفة الفنية الخالدة التي تصنف على أنها أفضل عمل فني سينمائي في كل تاريخ السينما. ولو لم يولد مارلون براندو لبقي الممثلون ربما على طريقة التمثيل المسرحي القديمة التي تجبر الممثل على القيام بكثير من الحركات الجسدية التي تبدو اليوم مضحكة. تكمن عبقرية براندو في أنه صاحب فكرة «عيش الدور» بمعنى أن ينسى ذاته الحقيقية ويتقمص الشخصية فعلاً في شهور التصوير، فيخلد للنوم باكراً إن كان يتقمص شخصية رجل عجوز، ويزيد وزنه إن كانت الشخصية لرجل سمين ويعيش في السجن لفترة إن كان يمثل دور سجين. هذه الفكرة الإبداعية انتقلت إلى أجيال من الفنانين ولم تكن لتصبح حقيقة لولا براندو. لولا هؤلاء العظماء - أعني كل فنان مميز في كل حقل - لأصبح ثمة قصور في التصوير الفني للعالم.

أمر آخر قد يكون من المناسب قوله هنا، لكي يحافظ الفن على طبيعته المطلقة الإبداعية الذاتية التي لا علاقة لها باكتشاف المعارف، لا بد من إبعاده عن الآيديولوجيات. إن كان له من أهداف فهي أهداف الفنان الخاصة وما يريد إيصاله من رسائل. الفن لم يوجد لكي يتقدم بدلالات معرفية ولا لتطوير برامج تربوية ولا حتى أن يخدم الحاجات العملية للمجتمع، فالفنان، أولاً وأخيراً، وُجد لكي يكون حُرّاً في مجتمعه، لا أن يكون رسالياً من أي نوع كان. الفن شيء روحاني أو قل هو تعبير عن الروح والإرادة والإلهام والشعور، وقد يعبر عن اللاشعور والانفعالات النفسية الخاصة للفنان الفرد. هكذا هو وهكذا يحسن أن يبقى.