الحب والغزل ليسا مسميين لمعنى واحد

الخلط بينهما لم يقتصر على العامة بل شمل النقاد والدارسين

الحب والغزل ليسا مسميين لمعنى واحد
TT

الحب والغزل ليسا مسميين لمعنى واحد

الحب والغزل ليسا مسميين لمعنى واحد

إذا كان اتساع لغة الضاد واكتظاظ معجمها بالكلمات المترادفة والمتقاربة، من علامات النعمة والثراء التعبيري، فإن الجانب السلبي من هذا الثراء يتمثل في سوء استخدامه من المشتغلين بالكتابة، حيث إن صعوبة الوقوف على المعاني الدقيقة للألفاظ تُوقِع الكثيرين في فخ المشاكلة واللبس فيما بينها. وأبرز مثال على ذلك هي المشاكلة القائمة بين شعر الحب والشعر الغزلي، اللذين لم يكفّ الدارسون والمعنيون بتاريخ الأدب عن المماثلة بينهما، أو استخدام أحدهما مكان الآخر.

والواقع أن شعرَي الحب والغزل ليسا مسميين للشيء نفسه، وإن تقاطعت سبلهما في غير زاوية. فالأول متصل بالمشاعر الإنسانية والانجذاب الروحي والجسدي إلى الآخر المعشوق، والكلام الذي يصدر عنه لا بد أن يكون منبثقاً عن شغاف القلب ومكابدات النفس وفوران الأحاسيس. في حين أن الثاني يتأرجح بين التعبير عن الإعجاب والعاطفة الصادقة، وبين الاستثمار الحَرفيّ للموهبة بُغية التقرب من المرأة واستدراجها إلى شِباك المتغزل. وهو إذ يبدو في كثير من الحالات تشييئاً للأنثى المطارَدة وتحويلها إلى دريئة رمزية لاستعراض المهارات، تتفاوت تعبيراته ونماذجه بين براعة الابتكار الأسلوبي، وبين الوصف الإنشائي والمعاني المكررة.

وقد تكون العودة إلى الجذر اللغوي للكلمتين بمثابة دليل كاشف عمَّا بينهما من فروق، حيث الحب في «لسان العرب» هو الوداد والمحبة ونقيض البُغض. وحبّة الشيء لُبابه، والقلب سويداؤه. وإذ يضع ابن قيم الجوزية الحب والمحبة في الخانة ذاتها، يصف الأخيرة بأنها «غليان القلب وثورانه عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب». أما الغزل فيَرِد عند ابن منظور بمعنى اللهو مع النساء، والمغازلة هي محادثتهنّ ومراودتهنّ، وفي المثل: هو أغزل من امرئ القيس.

وقد يكون الدنوّ والاقتراب أحد أكثر معاني الغزل دلالةً على الدور المنوط به. فإذ تقول العرب: رجل غازل الأربعين، وتعني دنا منها، يبدو الاقتراب من المرأة بدافع الاشتهاء والتملك، من وظائف الغزل الرئيسية وأهدافه. ويذهب بطرس البستاني في معجمه «محيط المحيط»، إلى وجود رابط ما بين الغزْل والمغازلة، حيث الشاعر يغزل كلماته للإيقاع بالمرأة، كما يفعل غازل القطن أو حائك الثوب. ولا بد من الملاحظة أيضاً إلى أن للغزل لغات عدة لا تنحصر في الكتابة الإبداعية وحدها، بل تتسع دائرتها على المستوى الجمعي لتشمل الكلام الشفوي ولغة الإشارة وحركات الجسد، وكل ما يسهم في إيصال رسائل الانجذاب إلى الشخص المعنيّ. وقد يحدث من جهة ثانية، أن يتورط الشاعر المطارِد فيما لم يضعه في حسبانه، وينتقل دون إرادته من خانة الهزل إلى خانة الجد، وفق تعبير ابن حزم، فيغادر نظمه الغزلي خانة اللهو والمجاملة العابرة وإرضاء الذات، ليصبح جزءاً لا يتجزأ من شعر الحب، بكل ما يكتنفه من عصْفٍ عاطفي وتعبيري.

وإذا كانت البلبلة بين المصطلحين تنعكس بوضوح في تراث العرب الأدبي والنقدي، حيث تِرِد تسمية الغزل لا الحب، في سياق الأغراض المختلفة للشعر العربي، كالمديح والفخر والهجاء والرثاء والوصف، فإن الدراسات النقدية قد توزعت هي الأخرى بين عنوانَي الحب والغزل، فآثر البعض استخدام الأول أو أحد مرادفاته، كما فعل ابن الجوزي في «ذم الهوى»، والسرّاج في «مصارع العشاق»، وابن قيم الجوزية في «روضة المحبين»، وشوقي ضيف في «الحب العذري عند العرب»، ومحمد حسن عبد الله في «الحب في التراث العربي»، وأحمد الجواري في «الحب العذري»، وصادق جلال العظم في «في الحب والحب العذري»، ورجاء بن سلامة في «العشق والكتابة»، في حين أن باحثين آخرين وضعوا مؤلفاتهم تحت عنوان الغزل، كما فعل أحمد الحوفي في «الغزل في العصر الجاهلي»، وشكري فيصل في «تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام»، وج. ك. فاديه في «الغزل عند العرب»، والطاهر لبيب في «سوسيولوجيا الغزل العربي».

ومع أن في كتاب أحمد الحوفي ما ينمّ عن رصانة في التأليف ومشقّة في البحث وإحاطة بالموضوع المتناوَل، إلا أن ما ذهب إليه من مماهاة كاملة بين الغزل والحب لا يطابق سوى جزء من الحقيقة، ويحتاج بالتالي إلى المراجعة والتدقيق. فهو يقول في هذا الصدد: «الغزل وليد عاطفة الحب، وهو يمتاز عن أبواب الشعر الأخرى كالمدح والوصف والهجاء والفخر بالصدق الشعوري لأن هذه الأغراض كثيراً ما كانت تنبعث عن ملق أو ادعاء، فتجيء متكلفة فاترة، أما الغزل فقلما ينبعث عن محاكاة أو تكلف»، في حين أن جميعنا يعلم أن كثيراً من النصوص الغزلية هي وليدة الصناعة والحرفة والمحاباة، بخلاف شعر الحب الذي يولد بشكل تلقائي من تمزقات النفس وجيشان المشاعر. وإذا كان لا بد من تقديم شواهد مناسبة للتدليل على الفروق بين شعري الحب والغزل، فيمكننا أن نستدلّ على الأول بقول عروة بن حزام، الذي يرى في العشق مَرضاً عصياً على الشفاء وعابراً للحياة نفسها:

كأن قطاة عُلِّقتْ بجناحها

على كبدي من شدة الخفقانِ

جعلتُ لعراف اليمامة حكْمهُ

وعراف نجدٍ إن هما شفياني

فما تركا من رقْية يعلمانها

ولا شربة إلا وقد سقياني

فقالا يمين الله والله ما لنا

بما ضُمِّنتْ منك الضلوعُ يدانِ

وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني

وعفراء يوم الحشر ملتقيانِ

أو بقول العباس بن الأحنف معبِّراً عن وحشة النفس وخواء العالم في غياب حبيبته فوز:

لقد كنت أطوي ما ألاقي من الهوى

حذاراً وأخفيهِ وأكتمُهُ جهدي

فنمَّتْ على قلبي سواكبُ عبْرة

تجود بها عيناي سحّاً على خدي

ولو أن خلّقَ الله عندي لخلْتُني

إذا هي غابت موحَشاً خالياً وحدي

أما الغزل فنجد ترجمته النموذجية في قصائد عمر بن أبي ربيعة، الذي لطالما تمنّت اللقاء به جميلات الحجاز، بهدف الحصول منه على قصائد تحتفي بجمالهن وتخلّده مدى الدهر، وبينها أبياته:

مكّية هام الفؤادُ بها

نسي العزاءَ فما له صبرُ

مرتجّة الردفين بهْكنة

رؤدُ الشباب كأنها قصرُ

حوراءُ آنسة مُقَبَّلها

عذبٌ كأن مذاقه خمرُ

والعنبر المسحوق خالَطَهُ

وقرنفلٌ يأتي به النشرُ

كما تقع في الخانة ذاتها أبيات يزيد بن معاوية، التي جرى إدخالها في بعض المناهج الدراسية، شاهداً نموذجياً على البنية الاستعارية للنص، ومنها قوله:

واستمطرتْ لؤلؤاً من نرجسٍ وسقتْ

ورداً وعضت على العنّاب بالبرَدِ

أما النوع الثالث القائم على امتداح الأنوثة بوصفها مشهداً جمالياً، والمجاملة المجردة من الأهواء، فيجد شاهده الأمثل فيما حدث لإيزابيل زوجة شاهين المعلوف، حين سقط فنجان القهوة من يدها باتجاه الأرض، فطلبت من الحاضرين، شاهين وميشال وشفيق وفوزي المعلوف، وجميعهم من الشعراء، أن ينظم كل منهم أبياتاً في وصف الحادثة، واعدة بأن تخص الأشعر بينهم بهدية رمزية، فقال زوجها شاهين:

ثملَ الفنجان لما لامستْ

شفتاهُ شفتاها واستعرْ

وتلظَّت من لظاهُ يدُها

وهْو لو يدري بما يجني اعتذرْ

وضعتْه عند ذا من كفّها

يتلوّى قلِقاً أنّى استقرْ

وارتمى من وجْدهِ مستعطفاً

قدميها وهو يبكي فانكسرْ

وقال ميشيل:

عاش يهواها ولكنْ

في هواها يتكتَّمْ

كلما أدنتْه منها

لاصَقَ الثغرَ وتمتمْ

دأبُهُ التقبيلُ لا

ينفكُّ حتى يتحطَّمْ

قد تكون العودة إلى الجذر اللغوي لكلمتَي الحب والغزل بمثابة دليل كاشف عمّا بينهما من فروق

وقال شفيق:

إنْ هَوَى الفنجان لا تعجبْ

وقد طفر الحزنُ على مبسمها

كلُّ جزءٍ طار من فنجانها

كان ذكرى قُبلة من فمها

وإذ انتبه فوزي إلى أن الفنجان لا يزال سالماً ولم ينكسر، استدرك قائلاً:

ما هوى الفنجانُ مختاراً

ولو خيَّروهُ لم يفارق شفتيها

هي ألقتْهُ وذا حظُّ الذي

يعتدي يوماً بتقبيلٍ عليها

لا ولا حطَّمه اليأسُ فها

هو يبكي شاكياً منها إليها

والذي أبقاه حياً سالماً

أملُ العودة يوماً ليديها!


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

رواية أميركية تمزج البهجة بالتاريخ

رواية أميركية تمزج البهجة بالتاريخ
TT

رواية أميركية تمزج البهجة بالتاريخ

رواية أميركية تمزج البهجة بالتاريخ

«لا أتذكر آخر مرة اكتشفت فيها رواية ذكية ومبهجة كهذه وعالماً واقعياً، إلى درجة أنني ظللت أنسى معها أن هؤلاء الأبطال ليسوا أصدقائي وجيراني الفعليين، كافئوا أنفسكم بهذا الكتاب من فضلكم حيث لا يسعني إلا أن أوصي بقراءته مراراً وتكراراً».

هكذا علقت إليزابيث جيلبرت، مؤلفة كتاب «طعام صلاة حب» الذي تحول إلى فيلم شهير بالعنوان نفسه من بطولة جوليا روبرتس، على رواية «جمعية جيرنزي وفطيرة قشر البطاطس» التي صدرت منها مؤخراً طبعة جديدة عن دار «الكرمة» بالقاهرة، والتي تحمل توقيع مؤلفتين أميركيتين، هما ماري آن شيفر وآني باروز، وقامت بترجمتها إيناس التركي.

تحكي الرواية كيف أنه في عام 1946 تتلقى الكاتبة جوليت آشتون رسالة من السيد آدامز من جزيرة جيرنزي ويبدآن في المراسلة ثم تتعرف على جميع أعضاء جمعية غير عادية تسمى «جمعية جيرنزي للأدب وفطيرة قشر البطاطس».

من خلال رسائلهم، يحكي أعضاء الجمعية لجوليت عن الحياة على الجزيرة وعن مدى حبهم للكتب وعن الأثر الذي تركه الاحتلال الألماني على حياتهم، فتنجذب جوليت إلى عالمهم الذي لا يقاوم فتبحر إلى الجزيرة لتتغير حياتها إلى الأبد.

وفي ظلال خيوط السرد المنسابة برقة تكشف الرواية الكثير عن تداعيات الحرب العالمية الثانية في إنجلترا، وهي في الوقت نفسه قصة حب غير متوقعة وتصوير للبطولة والنجاة وتقدير رقيق للرابطة التي يشكلها الأدب.

وتسلط الرسائل التي يتألف منها العمل الضوء على معاناة سكان جزر القنال الإنجليزي في أثناء الاحتلال الألماني، لكن هناك أيضاً مسحة من الدعابة اللاذعة إثر انتقال جوليت إلى «جيرنزي» للعمل على كتابها؛ حيث تجد أنه من المستحيل الرحيل عن الجزيرة ومغادرة أصدقائها الجدد، وهو شعور قد يشاركها فيه القراء عندما ينتهون من هذا النص المبهج.

وأجمع النقاد على أن المؤلفتين ماري آن شيفر وآني باروز أنجزا نصاً مدهشاً يقوم في حبكته الدرامية على الرسائل المتبادلة ليصبح العمل شبيهاً بأعمال جين أوستن من جانب، ويمنحنا دروساً مستفادة عبر قراءة التاريخ من جانب آخر.

عملت ماري آن شيفر التي توفيت عام 2008 محررة وأمينة مكتبة، كما عملت في متاجر الكتب وكانت «جمعية جيرنزي للأدب وفطيرة قشر البطاطس» روايتها الأولى. أما ابنة شقيقها «آني باروز» فهي مؤلفة سلسلة الأطفال «آيفي وبين» إلى جانب كتاب «النصف السحري» وهي تعيش في شمال كاليفورنيا.

حققت هذه الرواية العذبة نجاحاً كبيراً واختارتها مجموعة كبيرة من الصحف والمجلات بوصفها واحدة من أفضل كتب العام، كما تحولت إلى فيلم سينمائي بهذا الاسم، إنتاج 2018. ومن أبرز الصحف التي أشادت بها «واشنطن بوست بوك وورلد» و«كريستشيان ساينس مونيتور» و«سان فرانسيسكو كورنيكل».

ومن أجواء هذه الرواية نقرأ:

«لم يتبق في جيرنزي سوى قلة من الرجال المرغوبين وبالتأكيد لم يكن هناك أحد مثير، كان الكثير منا مرهقاً ومهلهلاً وقلقاً ورث الثياب وحافي القدمين وقذراً. كنا مهزومين وبدا ذلك علينا بوضوح، لم تتبق لدينا الطاقة أو الوقت أو المال اللازم من أجل المتعة. لم يكن رجال جيرنزي يتمتعون بأي جاذبية، في حين كان الجنود الألمان يتمتعون بها. كانوا وفقاً لأحد أصدقائي طويلي القامة وشُقراً ووسيمين وقد اسمرّت بشرتهم بفعل الشمس ويبدون كالآلهة. كانوا يقيمون حفلات فخمة ورفقتهم مبهجة وممتعة، ويمتلكون السيارات ولديهم المال ويمكنهم الرقص طول الليل.

لكن بعض الفتيات اللواتي واعدن الجنود أعطين السجائر لآبائهن والخبز لأسرهن، كن يعدن من الحفلات وحقائبهن مليئة بالخبز والفطائر والفاكهة وفطائر اللحم والمربى، فتتناول عائلاتهن وجبة كاملة في اليوم التالي. لا أعتقد أن بعض سكان الجزيرة قد عدوا قط الملل خلال تلك السنوات دافعاً لمصادقة العدو، رغم أن الملل دافع قوي كما أن احتمالية المتعة عامل جذب قوي، خاصة عندما يكون المرء صغيراً في السن. كان هناك، في المقابل، الكثير من الأشخاص الذين رفضوا أن يكون لهم أي تعاملات مع الألمان، إذ إنه يكفي أن يلقي المرء تحية الصباح فحسب حتى يُعد متعاوناً مع العدو».