حامل الطير... تمثال برونزي من موقع «مليحة» الأثري

كتلة واحدة مستطيلة تخرج منها ذراع مرفوعة نحو الأعلى

تمثال برونزي من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة
تمثال برونزي من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة
TT

حامل الطير... تمثال برونزي من موقع «مليحة» الأثري

تمثال برونزي من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة
تمثال برونزي من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة

من موقع «مليحة» الأثري في إمارة الشارقة، خرجت مجموعة من القطع البرونزية المتعدّدة الأشكال والأنواع، منها تمثال برونزي من الحجم الصغير يمثّل شاباً فتياً يقف منتصباً بثبات، حاملاً بيده اليمنى طيراً.

تتبع هذه المنحوتة بشكل واضح نسقاً فنياً نشأ في جنوب الجزيرة العربية، وانتشر في نواحٍ كثيرة من هذا الإقليم، غير أنها تتميّز بحضور عنصر تصويري غير معهود، يتمثّل في هذا الطير فوق يد حامله المرفوعة نحو الأعلى.

يبلغ طول هذا التمثال البرونزي 18 سنتيمتراً، ويتألف في الأصل من قطعة واحدة تعرّضت للتلف، فانقسمت، وباتت مكوَّنة من كتلتين منفصلتين، عُثر على الكتلة العليا في موقع، وعُثر على الكتلة السفلى في موقع آخر، وجرى جمعهما وترميمهما، فاستعاد التمثال شكله الأصلي، غير أنه فقد للأسف جزءاً كبيراً من ذراعه اليسرى.

اكتُشف هذا المجسّم في أثناء أعمال المسح والتنقيب «على سطح» الأنقاض، كما يشير التقرير العلمي، أي خارج موقعه الأصلي، ويوحي حجمه وتكوينه بأنه تمثال نذري يعود إلى معبد أو إلى مزار خاص بأحد المساكن، وقد خرج من موقعه، وغرق تحت رمال الصحراء مع اضمحلال مملكة «مليحة» وتلاشيها في القرن الميلادي الرابع.

تُجسّد هذه المنحوتة الجذابة شاباً أمرد يقف منتصباً في وضعية يغلب عليها الجمود؛ الصدر عارٍ، واللباس يقتصر على مئزر طويل يلتفّ حول الخصر، وينسدل حتى أخمص الساقين، كاشفاً عن قدمين عاريتين مستقيمتين، حُدّدت أصابعهما بشكل هندسي، فقد هذا المئزر سمات تفاصيله، وما بقي منها يُظهر شقاً عمودياً في الوسط، وحزاماً معقوداً ذاب في الكتلة البرونزية. يستقرّ الرأس فوق عنق عريضة تخرج من وسط كتفين مستقيمتين، منتصباً في وضعية المواجهة، محدّقاً إلى الأمام. الوجه دائري، العينان حدقتان فارغتان ومجردتان من أي تفصيل، والأنف كتلة مستطيلة ناتئة، والثغر شق مقوّس يرسم ابتسامة جليّة تُضفي على هذا الوجه طابعاً نضراً جذاباً.

خصل الشعر التي تكلّل الرأس ذائبة في الكتلة البرونزية، وهي محاطة بإكليلَين متوازيَين يشكّلان على ما يبدو طرف قلنسوة. الصدر أملس، ويخلو من أي إشارة إلى مفاصله. الجزء الأعلى من الذراع اليسرى ملتصق بالبدن.

في المقابل، تخرج الذراع اليمنى عن حالة الجمود التي تسود القامة، وترتفع نحو الأعلى، حاملة فوق قبضة يدها طيراً يظهر في وضعية جانبية تخلو من أي حركة حية، يحضر هذا الطير في قالب تحويري مجرّد بحيث يصعب تحديد فصيلته، وهو من الحجم المتوسط، ويتميز بمنقار طويل بارز، وعنق عريضة، وذنَب قصير.

في الخلاصة، يحضر هذا الشاب الأمرد في وضعية المتعبّد المبتهل، ويقف بخشوع حاملاً إلى معبوده تقدمة تتمثّل بطير يبدو أشبه بعصفور كبير فحسب.

يتبنّى هذا التمثال طرازاً معروفاً نشأ في جنوب الجزيرة، حيث عرف انتشاراً واسعاً على مدى قرون من الزمن، ويتجلّى هذا الطراز في كتلة واحدة مستطيلة تخرج منها ذراعان متقدّمتان إلى الأمام في خطوط شبه مستقيمة، بحيث تمثّل كل ذراع في ثنيتها زاوية قائمة، يخلو الجسد من النسب التشريحية، وتبدو نسبته صغيرة للغاية قياساً إلى رأسه الكبير. الوجه في أغلب الأحيان دائري، والرقبة غليظة وقصيرة. العينان لوزتان واسعتان، الأنف مستقيم، والثغر منمنم، ويتألف من شفتين مضمومتين تكشفان في كثير من الأحيان عن ابتسامة لطيفة تميّز بها هذا النسق الفني الخاص بجنوب جزيرة العرب.

اتخذ هذا النسق في بعض الأحيان طابعاً مختلفاً تجلّى في ظهور المبتهل بقامة طويلة تراعي النسب التشريحية الواقعية، غير أن هذه القامة حافظت على الوضعية الأصلية التي عُرف بها، وبقيت ذراعاها مرفوعتين إلى الأمام في وضعيّة الابتهال التقليدية، ويظهر هذا النسق في كثير من التماثيل، أشهرها تمثال محفوظ في متحف صنعاء يُعرف بتمثال «معدي كرب»، وهو اسم صاحبه الذي كرّسه للمعبود «ألمقة»، سيد السلامة والحماية في مملكة سبأ، كما تقول الكتابة المنقوشة على ثوبه.

يتبنّى التمثال طرازاً معروفاً نشأ في جنوب الجزيرة حيث عرف انتشاراً واسعاً على مدى قرون من الزمن

إلى جانب هذا التمثال الذائع الصيت، تحضر تماثيل نذرية كثيرة تشابه في تكوينها تمثال «مليحة»، منها على سبيل المثل تمثال آخر من محفوظات متحف صنعاء، مصدره معبد أوام، الشهير بمحرم بلقيس.

بلغ هذا الطراز نواحي أخرى تقع خارج جنوب الجزيرة، كما يشهد تمثال برونزي من الحجم الصغير محفوظ في متحف قسم الآثار الخاص بجامعة الملك سعود في الرياض، مصدره قرية الفاو، القالب واحد وثابت، والرأس منتصب في وضعية المواجهة فوق كتفين مستقيمتين، تتقدّم الذراع اليسرى إلى الأمام بثبات، وتشكّل في ثنيتها زاوية مستقيمة.

في المقابل، ترتفع الذراع اليمنى نحو الأعلى، وتظهر في قبضة يدها عصاً ذات رأس دائري يصعب تحديد هويّتها.

على صدر هذا التمثال تظهر كتابة منقوشة تتألف من 4 أسطر، ضاع الجزء الأكبر من أحرفها، ويوحي حضور عبارة تعني «أهدى» بأن هذه القطعة هي في الأصل تمثال نذري أهداه متعبّد إلى معبود ضاع اسمه للأسف.

يبدو تمثال «مليحة» مشابهاً لتمثال الفاو، غير أنه لا يماثله بشكل مطابق، من جهة أخرى، يتميّز هذا المجسّم بحضور الطير الذي يرفعه حامله كأنه تقدمة يُهديها إلى معبوده، ويبدو أنّه يتفرّد بهذه التقدمة غير المألوفة.

كشفت حملات التنقيب المتواصلة في «مليحة» عن نقوش سبئية كثيرة، كما كشفت عن مسبوكات تحمل كتابات بهذا الخط، كذلك خرجت من هذا الموقع قطع فنية تحمل الطابع الفني الخاص باليمن القديم، ويبدو تمثال حامل الطير قطعة من هذه المجموعة التي تظهر العلاقة التي ربطت «مليحة» بجزيرة العرب، في زمن احتلّت فيه مكانة عالية على طريق الحرير البحري، وشكّلت محطّة تجارية رئيسية في هذه الناحية من شمال شرقي شبه الجزيرة.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.