شواهد قبور أنثوية من البحرين

فنٌّ بتقاليد متعدّدة في قالب محلّي خاص

ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
TT

شواهد قبور أنثوية من البحرين

ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين

كشفت حملات التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن فن جنائزي عريق يتجلّى بنوع خاص في شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية. تحضر المرأة بقوة في هذا الميدان، وتتجلّى في نماذج ثابتة تتشابه في قالبها الثابت الجامع، وتختلف في عناصر تفاصيلها المتعدّدة المتحوّلة. يظهر هذا القالب الواحد بشكل جلي في شاهد خرج من مقبرة المقشع، يمثّل سيدة ترتدي اللباس التقليدي المتعارف عليه. ويبرز هذا التباين بشكل خاص في شاهد آخر خرج من مقبرة الشاخورة، يُمثّل سيدة تتميّز بأناقتها المترفة.

بين عام 1992 وعام 1993، أجرت بعثة محلية حملة تنقيب واسعة في مقبرة أثرية تقع في الشمال الشرقي من مملكة البحرين، تجاور قرية المقشع وتُعرف باسمها. أدّت تلك الحملة إلى الكشف عن مجموعة من اللقى المتعددة الأنواع، منها شاهد قبر عمودي من الحجر الجيري يبدو أقرب إلى منحوتة ثلاثية الأبعاد، عُرض للمرة الأولى في باريس ضمن معرض مخصص لآثار البحرين، أُقيم في معهد العالم العربي في ربيع 1999. يبلغ طول هذه المنحوتة 37 سنتمترا، وعرضها 17 سنتمترا، وتُمثّل سيدة منتصبة ترتدي عباءة طويلة تلتف حول رأسها وجسدها على شكل المعطف اليوناني التقليدي. يعلو هذا المعطف ثوب من قطعة واحدة يظهر منه طرفه الأسفل، وفقاً للقالب الكلاسيكي المعهود الذي عُرف في سائر الشرق الهلنستي.

يوحي طول المنحوتة بأنها تجسّد تمثالاً نصفياً، مع ظهور إضافي للقسم الأعلى من الساقين المتمثّل في الوركين. يبدو القالب في ظاهره يونانياً تقليدياً، غير أن الأسلوب المتبع في نقش ثنايا العباءة الملتفّة حول القامة يعكس أسلوباً شرقياً مغايراً يظهر في اعتماد شبكة من الخطوط المتوازية هندسياً تنسكب حول القامة وتحجب مفاصل البدن بشكل كامل. تُمسك السيدة بيدها اليسرى طرف العباءة الأوسط، وترفع ذراعها اليمنى نحو أعلى صدرها، باسطة راحة يدها، وفقاً لحركة تقليدية تميّز بها الفن الإيراني القديم، في زمن الإمبراطورية الفرثية التي امتدت في أوجها من الروافد الشمالية للفرات، في ما يُعرف في زمننا بوسط تركيا، إلى شرق إيران، وسادت على طريق الحرير، وأضحت مركزاً للتجارة والتبادل التجاري والاجتماعي في القرنين الميلاديين الأولين. يظهر هذا الطابع الشرقي كذلك في نحت سمات الوجه، وفي نقش ملامحه وفقاً لطراز خاص يغلب عليه طابع التحوير والاختزال.

العينان لوزتان واسعتان مجرّدتان من أي تفاصيل، وأجفانهما محدّدة بوضوح. الأنف متّصل بخط واحد مع الجبهة، والفم كتلة بيضاوية أفقية يخرقها في الوسط شق يفصل بين الشفتين. تعلو الجبين خصل من الشعر نُقشت على شكل شبكة هندسية تحاكي في صياغتها وريقات نبات النفل المتجانسة، وتعكس هذه الشبكة كذلك أثر التقاليد الفرثية التي بلغت مناطق واسعة من الشرق القديم. تختزل هذه المنحوتة في صياغتها قالباً اعتُمد بشكل واسع في البحرين في الحقبة التي عُرفت بها الجزيرة باسم تايلوس، كما تشهد مجموعة كبيرة من شواهد القبور الأنثوية التي عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عديدة تعود إلى هذه الدولة الجزيرية الواقعة على الجهة الشرقية من شبه الجزيرة العربية.

ساد هذا التقليد بشكل واسع كما يبدو، غير أن هذه السيادة لم تحدّ من ظهور تنوّع كبير في العناصر التي تهب القالب الواحد أوجهاً متجدّدة. تتجلّى هذه الخصوصية في شاهد قبر عُرض ضمن معرض آخر خاص بالبحرين أقيم في المتحف الوطني للفن الشرقي في موسكو في خريف 2012. خرج هذا الشاهد من مقبرة الشاخورة الأثرية شمال غرب القرية التي تحمل اسمها، على مقربة من جنوب شارع البديع، شمال المنامة، وهو على شكل كوّة من الحجر الجيري يبلغ طولها 46 سنتمتراً، وعرضها 39 سنتمتراً. تتكوّن هذه الكوّة من عمودين يعلو كلاً منهما تاج مجرّد، وقوس عريض يخرقه شق في الوسط، ويُعرف هذا القوس في قاموس الفن اليوناني الكلاسيكي بـ«قوس المجد». وسط هذه الكوّة، على سطح الخلفية الأملس، تبرز قامة أنثوية ناتئة، نُقشت ملامحها وفقاً للأسلوب التحويري المختزل الذي اعتُمد بشكل واسع في البحرين.

تشكل النماذج الثلاثة صورة مختزلة تشهد لحضور المرأة في الفن الجنائزي الذي ازدهر في تايلوس في ذلك الزمان

يتكرّر القالب المألوف. تمسك السيدة بيدها اليسرى طرف وشاحها، وترفع راحة يدها المبسوطة نحو صدرها في وضعية الابتهال المألوفة، غير أنها تكشف هنا عن شعرها الطويل، على عكس التقليد المتبع. يتكوّن هذا الشعر من كتلتين متوازيتين يفصل بينها شق في وسط أعلى الرأس، وتزين هاتين الكتلتين شبكة من الخطوط الغائرة ترسم ضفائر الشعر المنسدلة على الكتفين، كاشفتين عن أذنين كبيرتين، يُزين طرف كل منهما قرط دائري. يحدّ العنق العريض عقدان يختلفان في الشكل. يبدو العقد الأسفل أشبه بسلسلة تحوي في وسطها حجراً مستطيلاً، ويتكوّن العقد الأعلى من سلسلة من الأحجار اللؤلؤية المتراصة. حول معصم الذراع اليسرى، يلتفّ سوار عريض، يجاوره خاتم يظهر في الإصبع الخامسة المعروفة بالخُنصر. يماثل الوجه في تكوينه وجه المنحوتة التي خرجت من مقبرة المقشع. الوجنتان مكتنزتان. العينان لوزتان ضخمتان مجردتان من البؤبؤين. الأنف كتلة مستطيلة ومستقيمة. والثغر منمنم مع شق بسيط في الوسط.

يحضر هذا النموذج المميز بشكل مغاير في قطعة أخرى من مقبرة الشاخورة، عُرضت كذلك في موسكو، وهي تمثال جنائزي منمنم على شكل لوح جيري، يمثّل سيدة أنيقة يعلو رأسها أكليل عريض يتكون من سلسلة من المكعبات المتوازية. ترخي هذه السيدة ذراعها اليمنى على وركها المنحني بشكل طفيف، وترفع ذراعها اليسرى نحو وسط صدرها، كاشفة عن سوار يلتف حول معصمها.

أُنجزت هذه القطعة على الأرجح في القرن الميلادي الأول، وأُنجز شاهد قبر المقشع وشاهد قبر الشاخورة في مرحلة لاحقة، بين القرن الثاني والقرن الثالث. وتشكل هذه النماذج الثلاثة صورة مختزلة تشهد لحضور المرأة في الفن الجنائزي الذي ازدهر في تايلوس في ذلك الزمان، جامعاً بين تقاليد متعدّدة في قالب محلّي خاص.


مقالات ذات صلة

ما الذي تبقى من الاستشراق؟

ثقافة وفنون أرنست رينان

ما الذي تبقى من الاستشراق؟

أثار المفكر المرموق أنور عبد الملك في حينه (1962) موضوعاً مهماً، وهو يعرض لأزمة الاستشراق.

د. محسن جاسم الموسوي
ثقافة وفنون جوهر التاريخ وروح الأسطورة في منعطفات النص

جوهر التاريخ وروح الأسطورة في منعطفات النص

منذ رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، وحتى أعمال إلياس خوري، وقبلهما التوحيدي والجاحظ، هناك أنواع متعدّدة من السرد.

قاسم حداد
ثقافة وفنون «المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

رغم وفاته في سن السادسة والثلاثين، فإن الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والممثل الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 - 1982) ترك وراءه كنزاً من الإبداع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثالان من متحف البحرين الوطني بالمنامة (مقبرة الحجر الأثرية)

سيّدتا الحجر تحافظان على سرّ هويتهما الفنية

كشف أثري بمقبرة في بلدة بالبحرين، تم العثور فيها على تمثالين أنثويين في مدفن فارغ من أي عظام بشرية، ويتميّزان بأسلوب فني فريد من نوعه.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «أمشي ويصل غيري»... سامح محجوب يستعيد جماليات قصيدة التفعيلة

«أمشي ويصل غيري»... سامح محجوب يستعيد جماليات قصيدة التفعيلة

ديوان جديد للشاعر المصري سامح محجوب يستعيد من خلال أجوائه جماليات قصيدة التفعيلة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر
TT

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

رغم وفاته في سن السادسة والثلاثين، فإن الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والممثل الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 - 1982) ترك وراءه كنزاً من الإبداع يتكون من 40 فيلماً سينمائياً وأكثر من 16 نصاً مسرحياً، علاوة على العديد من الأعمال الدرامية الإذاعية والتلفزيونية. اللافت أن شهرة منجزه السينمائي، طغت على منجزه المسرحي فجاء كتاب «المسرح الألماني المضاد» الصادر عن «الهيئة المصرية لقصور الثقافة»، سلسلة «آفاق عالمية»، للباحث د. أسامة أبو طالب ليرد الاعتبار إلى تجربة الرجل مع فن المسرح.

يبرر المؤلف أهمية مسرح فاسبندر بأنه وضع فيه عصارة فنه ورحيق تمرده ومرارة إحساسه المرهف بتناقضات الأشياء والبشر ووعيه الحاد بمفارقات الوجود والكون ومعاناته من خذلان الرؤى وخسارة التوقعات وجنون الصدمة وعمى المفاجأة حتى أصبح عقله مكتظاً، وناء وجدانه بحمل المعرفة الحارقة المبكرة فاستسلم بإرادته مقرراً أنه لم تعد لديه طاقة للاحتمال، وليستسلم الجسد المرهق ويتوقف القلب الذي أنهكته شدة الخفقان حتى أنه لم يكن ينام إلا أقل القليل وسُئل ذات يوم «لماذا لا تأخذ قسطاً طبيعياً من النوم»، فأجاب: «سأنام فقط عندما أموت».

كان عام 1968 بزخمه السياسي وما أطلق عليه «ثورة الطلبة» في أوروبا هو بداية ميلاد «المسرح الألماني المضاد» على يد فاسبندر كفن مهموم بالسياسة ومقاومة مفاهيم القهر والقمع والطغيان التي تمارسها السلطة على نحو صبغ مجريات الأحداث ووقائع الحياة في القرن العشرين، مع نزعة إنسانية فياضة لا يصعب اكتشافها في أعمال هذا النوع من المسرح، رغم الكثير من الاتهامات الموجهة له بسبب المنافسة أو بسبب عدم الفهم أو كراهية التجديد المعتادة، التي وصفت فاسبندر وأصحابه ومنهجهم بالعدمية تارة وتارة أخرى بالدعوة إلى الانحراف.

استفاد «المسرح المضاد» في تحققه من السينما وحرفياتها، إضافة إلى استخدام «التمسرح» و«التغريب»، بمعنى الخروج عن المألوف، فضلاً عن تبني فكرة «اللحظة المسرحية الساخنة» ذات الطابع الاندماجي بين العرض والمشاهد تمهيداً للخروج بها إلى فعل جماعي ذي صفة تحريضية. وانفتح المسرح المضاد كذلك على تجارب المسرح السياسي دون التقيد بتقاليده الصارمة، وتجلى كل ذلك عبر العديد من المسرحيات التي ألفها فاسبندر منفرداً، أو كانت تأليفاً مشتركاً مع آخرين. ومن أشهر مسرحيات فاسبندر في هذا السياق «المدينة والقمامة والموت» و«دم على حلق القطة» و«حرية بريمر» و«لا أحد شرير ولا أحد طيب».

ويتطرق المؤلف إلى مسرحية «القمامة والمدينة والموت» باعتبارها أبرز أعمال فاسبندر، حيث وضعت المدينة في بؤرة المفارقات الغريبة والرؤية غير المسبوقة التي تجعلها مخيفة وقاتمة، وتبعث على الرعب المقترن بالكآبة. في الليل تتجلى المدينة وتبالغ في زينتها ومغرياتها وكأنها نسخة عصرية من أساطير «سادوم» أو «عامورة»، حيث المفاتن تلطخ وجهها القبيح، أما في النهار فينكشف كل شيء على حقيقته الصادمة.

وتبرز المسرحية كيف كان فاسبندر مولعاً بالدراما النفسية، وهو ما يتجلى في فيلمه «الخوف من الخوف» الذي يروي قصة ربة بيت من الطبقة المتوسطة تضطر إلى أن تسجن نفسها في بيت كئيب جداً مع زوج قلق ومرتبك نفسياً، ما يدفعها إلى إدمان الفاليوم والإفراط في تناول الكحول، إذ بدأت تعاني من الاضطراب النفسي، وتخشى أن تنحدر صوب الجنون.