الرواية وأسلوب «ما بعد اليفاعة»

يتطلع الكتاب المعمّر إلى الطمأنينة أكثر من أي شيء آخر

حنا مينه
حنا مينه
TT

الرواية وأسلوب «ما بعد اليفاعة»

حنا مينه
حنا مينه

يمكن تفسير أسلوب ما بعد اليفاعة بوصفه صيغة تواؤم مع الحياة والكتابة بعد انقشاع أوهام البدايات، وإيناع الشكوك حول اختيارات «وهج الإنجاز السريع»، واستيعاب الأخطاء والتعلُّم من إيقاع الزمن، بل يمكن اعتبار الأسلوب في هذا المقام قرين المسافة؛ إذ يستقر الإيمان والاختيار والانتماء للأفكار والتعابير والمرجعيات والموضوعات خارج نطاق الاكتشاف والحماس والعاطفة. معنى مختلف، إلى حد ما، عمّا قصده إدوارد سعيد بـ«الأسلوب المتأخر»، ذلك الذي يحدث ويكتسب ملامحه بعد فوات الأوان، مقترناً بإحساس مأساوي بالزمن، فيبدو في غير محله.

قد تكون الرواية أبلغ الفنون تعبيراً عن أسلوب «ما بعد اليفاعة» في سعيها لتمثيل مكابدة المسافة، بما أنها تتعلق بقياس مفارقات البدايات والمصائر، خبرة لا تتأتى في اليفاعة ظاهرياً، وإنما عبر ما سمّاه ديريدا بـ«الإرجاء في العلاقة بالمعنى»، بترك الصور تكتمل عبر الاختمار في الذاكرة، إذ تكتب الرواية برغبة لاعجة لفهم ما مضى، وما تحصل في جراب العمر من خطوب وتحولات، فتتجلى بما هي تأمل في النوازع الإنسانية العصية على الفهم، المحتاجة دوماً إلى امتحان صلتها بالمعنى والعدم، على حد سواء، ومساءلة للمعتقدات والأفكار المتراسلة عبر التاريخ، عن الكون والإنسان. وعادة ما نعثر في الأعمال الروائية التي تُنعث بالطليعية على مقومات تبديل القناعات، بحيث يمكن أن تخرج بعد قراءتها من سكينة اليقين، إلى جحيم الشك، ذلك ما تحققه نصوص من قبيل «الإنجيل يرويه يسوع المسيح» لجوزيه ساراماغو، ورواية «الأحمر والأسود» لستاندال، و«الغريب» لألبير كامو، وغيرها من الروايات الخالدة، إنها الخاصية الذي تجعل الرواية تمثل بما هي مراجعة لجوهر الإيمان، وسعياً إلى سرديات نقيضة.

غسان كنفاني

والمفترض أن تكتب هذه الروايات المنطوية على مراجعات جذرية بخصوص العقيدة والوجود في سن متقدمة، سيما أن روائيين كثيرين اختاروا الانحياز لأسلوب ما بعد اليفاعة، أي التعبير الروائي، في سن ما بعد الأربعين. بيد أن تفاصيل شديدة الدلالة تجعل قارئ الرواية وناقدها والمتأمل لعوالمها يراجعون مبدأ اقتران أسلوب ما بعد اليفاعة بخريف العمر؛ إذ لم تكن رواية «الغريب» الصادرة سنة 1942 لألبير كامو، وهو في سن التاسعة والعشرين من عمره، إلا مثالاً على ارتباك هذه القاعدة، التي قد يكون رسخها صدور أعمال من قبيل «الإنجيل يرويه يسوع المسيح» في التاسعة والستين من عمر صاحبها، أي في غمار الخريف الذاهب بعنفوان الجسد والذهن.

وجدير بالذكر في هذا السياق، أن الروائي الفرنسي أندري مالرو لم يكن يتجاوز سن الثالثة والثلاثين حين حصل على جائزة الغونكور عن عمله «الشرط الإنساني»، وهي الرواية المتحفية عن جوهر الإرادة المجافية للشر، التي تغدو مكبلة للواجب، وفي تناقض مع مبدأ مكابدة العيش. لقد كان مالرو مقاتلاً في حروب عدة، من الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى الحرب الأهلية الإسبانية، إذ تطوّع فيها ضمن صفوف الجمهوريين، وكانت التجربة أكبر من السنوات التي تحوّل فيها إلى مقاتل وشاهد، ثم مناضل مناهض للاستعمار ومقاوم للغزاة والفاشيين. أستحضر رواية «الشرط الإنساني» جنباً إلى جنب مع «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، التي لم تجاوز عتبات الشرط الإنساني، إذ ارتكزت مدارات التخييل فيها على قاعدة استسلام الإنسان إلى قدره بتفاهة ودون مقاومة، لقد كتبها كنفاني وهو في السابعة والعشرين من عمره، وهو المناضل الفلسطيني الذي عاش معترك الثورة وتغريباتها المتراسلة، قبل أن يقضي في يفاعته البهية شهيداً، كانت الرؤية مرة أخرى بعيدة عن خريف العمر، إنما ناضجة، وآتية من قعر الزمن والذاكرة، لفحتها قسوة المنابذ والمنافي والحروب.

فولكنر

هل قدر الرواية أن يعوض فيها قدر الوجود على شفير الموت، ومجاورة الخطر، حكمة خريف العمر؟ لا تستقيم هذه القاعدة في سياق محفوف بالالتباسات والأقدار المتضاربة والمتنائية، فحين نشر فوكنر روايته «المحراب»، وهي من أكثر النصوص الروائية عمقاً وفتنة على امتداد تاريخ الرواية الحديث، كان في الرابعة والثلاثين من العمر، دون أمجاد تذكر، ولا أحداث أو مغامرات فارقة، بعد مسيرة خاملة في إحدى مدن ولاية المسيسيبي الأميركية، كانت حياة هادئة لا تليق بكاتب روايات الرعب والصخب التي أصدرها تباعاً. لقد كتب «المحراب» بنهم إلى الحياة ظاهر؛ حيث كان القصد تدبيج نص مثير وصاعق يفتن القراء، وخلال ثلاثة أسابيع كان قد أكمل أحد أكثر أعماله عمقاً ونضجاً إنسانياً، ولم يكن هذا النص الرؤيوي، الذي بات من أشهر الكلاسيكيات الروائية، إلا حكاية فظاعة النفس البشرية واجترائها على المحرمات، كانت الرواية تنضح بإشراقات أسلوب ما بعد اليفاعة، تلك التي وسمها أندري مالرو حين قدمها للجمهور الفرنسي سنة 1933 بقوله: «إنها إقحام للرواية البوليسية في التراجيديا الإغريقية».

لكن لنعد إلى تجربة ساراماغو نفسها؛ حيث يتجلّى العمل بما هو صيغة دنيوية للإنجيل المقدس، فيشخص يسوع في بشريته. لقد كتبت الرواية بثقل السنوات النافذة من شبكة العين العتيقة المطلة من شرفة السبعين على الماضي الذي عبّر فيه الكاتب العقائد الدينية والسياسية والنضالية قبل أن يستقر على العقيدة الروائية التي جعلته ينهي سرديته على إيقاع فجائعي، يرافق لحظة انقشاع الوهم.

وفي لقطة مماثلة تدل على قنوط بالزمن، سُرّبت وصيتا غارسيا ماركيز، وحنا مينة قبل وفاتيهما بمدة، كما ترددت شائعات كثيرة حول موتهما، لعل المشترك في الوصيتين معاً هو استرسال الصوتين في السرد المتأمل والتركيز على قيم حياتية أثيلة في الروايات. رسالتان للقارئ ليستا عن الموت وإنما عما ينبغي أن يكون وعي القارئ الحي به وبالحياة بالأحرى، دونما شعور كارثي أو حسرة أو شهوة للخلاص، وإنما بنفس أسلوبي ضاج بنبض ما بعد اليفاعة. إذ الطهرانية نقيض الرواية المعجونة بالتوق للاسترسال، لهذا يتطلع الروائي المعمّر، في سطوره الأخيرة، إلى الطمأنينة، أكثر من أي شيء آخر، بعد شبع صادق من فتن خصيبة عيشت لتُروى.

تلفت الانتباه عبارة لا تخلو من سخرية في وصية حنا مينة، تقول: «عمرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت»، تختزل جوهر الروائي المتزن العميق والشجاع على حد سواء، فبخلاف القادمين إلى الكتابة الروائية من مسارات مهنية وأكاديمية مختلفة، وتجارب حياتية مرفهة بمعنى ما، ينتمي حنا إلى زمرة الروائيين القادمين إلى الكتابة من معترك العمل اليدوي وفن مكابدة الدروب والوجوه والشهوة والظمأ، التعلُّم نفسه تجلّى بما هو وسيلة نورانية لا تمت بصلة لتحصيل القوت، تُشبه حياته حياة فنانين انطباعيين ممن تحول في اعتقادهم التعبير إلى هوية وانتماء، يمكن أن يأخذ صاحبه إلى تخوم قصوى، دون عجلة في التطلُّع إلى ما بعد ذلك من إنجاز وتحقق.

ليس من شك، أن أحد الأسباب الرئيسية لذيوع الرواية ورواج أنواعها وانتشارها، أنها تحقق مآرب انقلابية عظيمة على الأمد البعيد، وتحسن معارفنا بالمجتمع والتاريخ، وبالمدن والحضارات، وبالنفس البشرية؛ وتسهم بشكل ما في تحويل استعمالاتنا للغة ومفرداتها ومجازاتها، وتملأ ما لا يُملأ من لحظات الوجود، خارج مطحنة التواصل مع الآخرين. بيد أن الأهم والأكثر تأثيراً فوق كل ذلك هو تمكينها القارئ من إدراك معنى الأسلوب، الذي هو قرين النضج، ووعي الاستمرارية.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!