الندوي: 55 ألف مخطوطة عربية في متاحفنا غير محققة

المترجم الهندي يرى أن عدم وصول الأدب العربي للعالمية يكمن في الترجمة

مجيب الرحمن الندوي
مجيب الرحمن الندوي
TT

الندوي: 55 ألف مخطوطة عربية في متاحفنا غير محققة

مجيب الرحمن الندوي
مجيب الرحمن الندوي

يعد الناقد والمترجم الهندي دكتور مجيب الرحمن الندوي أحد أبرز الوجوه الأكاديمية والثقافية المعاصرة التي تخصصت في اللغة العربية وآدابها عبر قارة آسيا عموماً والهند بشكل خاص. يعمل حالياً أستاذاً للأدب العربي بجامعة «جواهر لال نهرو» العريقة وترأس لعدة سنوات مركز الدراسات الأفريقية والعربية بالجامعة. ترجم إلى العربية روايتي «نهر النار» عن الأردية للروائية قرة العين حيدر، و«الوشاح المدنس» عن الهندية للكاتب فانيشوار ناث رينو؛ فضلاً عن بعض المؤلفات الفكرية مثل «مواطن الحداثة» لديبيش شاكرابارتي، و«فكرة الهند» لسونيل خيلناني. يتحدث العربية الفصحى بطلاقة ويكتب في مختلف الدوريات عن أحدث الإبداعات في الأدب العربي، كما يترأس تحرير دورية «قطوف الهند» التي تصدر بالعربية وتستهدف صنع جسر للتواصل بين الثقافة الهندية والعالم العربي. هنا حوار معه:

> عشت طفولة قاسية في بيئة لا تشجع كثيراً على التفوق العلمي... ماذا عن البدايات الأولى وكيف تجاوزت تلك الصعوبات؟

- نشأت في قرية نائية في شرق بيهار الهندية، حيث كان معظم الناس يعملون بالزراعة، ولا يهتمون بتعليم أولادهم بسبب الفقر وقلة الوعي. والدي، رحمه الله، كان يدرك أهمية التعليم، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة، فأصر على تعليم أبنائه الخمسة. تم اختياري لمدرسة دينية وأكملت المرحلة الابتدائية في «كُتّاب» القرية رغم محدودية الموارد. التحقت بمدرسة في المدينة ثم بـ«دار العلوم بندوة العلماء» في مدينة «لكناو» حيث درست الأدب العربي والمواد الإسلامية. أكملت الليسانس والماجستير في التاريخ الهندي الحديث بالجامعة الملية الإسلامية في نيودلهي، والماجستير الثاني والدكتوراه في الأدب العربي بجامعة جواهر لال نهرو، حيث أعمل حالياً أستاذًا ورئيساً لقسم اللغة العربية. تجاوزت التحديات بفضل دعم عائلتي وإصراري على التعليم وتحقيق النجاح الأكاديمي.

> لماذا اخترت التخصص في اللغة العربية وكيف كانت رحلتك معها؟

- اختياري للتخصص في اللغة العربية كان نتيجة لعدة عوامل متشابكة أثرت في رغبتي واهتماماتي الشخصية. بدأت الرحلة من خلال دروس مدرسة كُتّاب القرية وهو ما تم بالصدفة، لكن شدتني هياكلها اللغوية المعقدة وجمالياتها الأدبية الفريدة. تزايد اهتمامي وتعمقت معرفتي باللغة العربية خلال الدراسات الجامعية، حيث درست النحو والصرف والأدب العربي الكلاسيكي والمعاصر. استمتعت بقراءة الأعمال الأدبية الكبرى في الشعر والرواية والتعرف على أساليب الكتابة المختلفة والقضايا التي تناولها الأدباء والشعراء. ما جعل تخصصي أكثر إثراءً هو التفاعل المستمر مع النصوص العربية، سواء في الدراسات الأكاديمية أو في الحياة اليومية، حيث أستمتع بالترجمة والتنظير والنقد الأدبي. والآن أعتز بثقافتي العربية مثل أي عربي، وقد منَّ الله علي منناً كثيرة بفضل اللغة العربية، وأعد عضويتي في مجلس أمناء «مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية» شرفاً كبيراً لي، كما زرت أكثر من 25 بلداً في آسيا وأوروبا وأميركا.

> لك تصريح مثير للجدل تقول فيه إن اللغة العربية تشكل هوية الهنود، حتى لو كانوا عجماً، ما الذي تقصده بالضبط؟

- لم أقل إن اللغة العربية تشكل هوية الهنود عموماً، بل قلت إن اللغة العربية تشكل هوية المسلمين الهنود بشكل خاص وأنا منهم، وأقصد بالضبط أن اهتمام المسلمين الهنود باللغة العربية كبير جداً بدافع حبهم الشديد للإسلام والقرآن الكريم، والدليل على ذلك انتشار المدارس الدينية في القرى والمدن، وعلى أقل تقدير توجد في الهند أكثر من ثلاثين ألف مدرسة عربية وإسلامية وجميعها تدار بتبرعات أهل الخير من المسلمين، وتعاني هذه المدارس الدينية من نقص شديد في التمويل، وتمر بظروف صعبة جداً خصوصاً بعد وباء الكورونا. ومع ذلك تواصل هذه المدارس تأدية دورها الديني والثقافي، حرصاً على الحفاظ على دينهم وعقيدتهم، وأيضاً تدرس اللغة العربية في أكثر من أربعين جامعة حكومية، ولذلك قلت في أحد حواراتي إن العربية تجري في دماء وعروق المسلمين الهنود، وهم يفتخرون بالانتماء للعربية مع كل ما يعانونه من عوز مالي واقتصادي. وأنجبت الهند في الماضي كبار علماء اللغة العربية والفنون العربية والإسلامية؛ منهم العلّامة مرتضى الزبيدي صاحب «تاج العروس»، والصغاني، والشاه ولي الله الدهلوي، والنواب صديق حسن خان القنوجي، وحميد الدين الفراهي، وغلام علي آزاد البكرامي، وعلي الندوي، وكثيرون ممن لا يأتي عليهم الحصر، وخلّف هولاء مآثر ذهبية في الثقافة العربية الإسلامية في الهند.

> إلى متى يظل حضور اللغة العربية في الهند قاصراً على الفضاءات الأكاديمية والدينية دون أن يشتبك مع الحياة اليومية؟

- حضور اللغة العربية في الهند، كما في كثير من البلدان غير العربية، يرتبط بالاستخدامات الدينية والأكاديمية بشكل رئيسي. تاريخياً، لعبت اللغة العربية دوراً مهماً في الدين والتعليم في الهند، خاصة في العصور الوسطى. تم استخدامها لتدريس الدين الإسلامي والعلوم المتعلقة به، بالإضافة إلى الاستخدام في العلاقات الدبلوماسية والتجارة.

لم تكن العربية في يوم من الأيام اللغة الرسمية للهند حتى في فترة حكم السلاطين المسلمين الطويلة الممتدة إلى ثمانية قرون، ولكنها كانت لغة الكتابة والتأليف العلمي، وظل نطاق استخدامها الحديثي محصوراً في بعض العائلات فقط، فلم تصبح لغة الحديث اليومي. وقد رجّح الاستعمار البريطاني للهند الكفة لصالح اللغة الإنجليزية التي سرعان ما أصبحت اللغة المهيمنة على كل الفضاءات العلمية والثقافية والسوقية، محلياً وعالمياً، مما أضر باللغة العربية كثيراً.

>لماذا تراجع دور «المجمع العلمي العربي – الهندي» الذي أسسه مختار الدين أحمد، رئيس قسم اللغة العربية في جامعة عليكره عام 1976؟

- هذا المجمع كان مؤسسة مهمة تهدف إلى تعزيز دراسة اللغة العربية والأدب العربي في الهند، وكان له دور بارز في تعزيز التواصل الثقافي بين العالمين العربي والهندي. ومع ذلك، تراجع دوره يمكن أن يُعزى إلى عدة عوامل منها تحديات التمويل وتراجع الهبات. ومن إنجازات المجمع إصدار مجلة علمية محكمة «مجلة المجمع العلمي العربي»، التي يشرف عليها رئيس قسم اللغة العربية بجامعة عليكره، وهي تعد من أرقى المجلات العلمية الصادرة في الهند باللغة العربية ويرأس تحريرها حالياً علامة الهند الأستاذ محمد ثناء الله الندوي.

> أطروحتك للدكتوراه تتناول المواضيع الاجتماعية المشتركة بين الرواية العربية ونظيرتها الأردية في الفترة من 1900 حتى 1950... ما أبرز نقاط التلاقي في هذا السياق؟

- من بين أبرز نقاط التلاقي في هذا السياق النضال ضد الاستعمار الغربي، والبحث عن الهوية الوطنية. وكتب الروائيون من الجانبين عن الطبقة الوسطى، والتحولات في النسق الاجتماعي ومواقف المجتمع من حقوق النساء وتعليمهن ومشاركتهن في الحياة العامة. وكذلك التغيرات الاقتصادية والتحديات الاجتماعية مثل الفقر والبطالة، والتأثيرات الاجتماعية للتحولات الاقتصادية مثل الهجرة الريفية إلى المدن، والحركات الفكرية والثقافية التي قامت في كلا القطرين في ظل الاستعمار الغربي.

> ماذا عن أوجه الشبه والاختلاف بين الأدب العربي ونظيره الهندي في الوقت الراهن؟

- الهند قارة بأكملها وتزخر بتعددياتها اللغوية الهائلة، فليس هناك أدب هندي واحد، بل آداب؛ منها الهندي، والأردو، والبنغالي، وغيرها (طاغور كتب باللغة البنغالية وحاز جائزة نوبل)، والأدب العربي هو أدب كل العرب. ورغم التشابهات في التراث الثقافي والشعبية الدولية، يظل الأدب العربي والأدب الهندي يتمتعان بخصوصيتهما الثقافية واللغوية التي تميزهما وتجعلهما يعبران عن تجارب وثقافات فريدة تعكس التنوع الثقافي في كل منطقة.

> أنت متابع جيد للرواية العربية الحديثة، ما أبرز ملاحظاتك عليها ولماذا لم تنل حتى الآن مكانتها العالمية مقارنة بنظيرتها الهندية المكتوبة بالإنجليزية؟

- أعتقد أن الأدب العربي الحديث والمعاصر، لا سيما الرواية العربية، لا يعاني من أزمة الإبداع أبداً، وإنما يعاني من أزمة ثقافية تتمثل في تدني مستوى القراءة في العالم العربي وعدم الترجمة على نطاق واسع. وأتفق مع المفكر الكبير إدوارد سعيد الذي قال إن الرواية العربية المعاصرة رواية عالمية وثرية، وكثير من الروائيين يستحقون جائزة نوبل، فهي أزمة ثقافية بالدرجة الأولى.

الروائيون العرب لم يقصروا قط في الإبداع، وبالفعل هناك روائيون عالميون يكتبون روايات مدهشة لو أنها كُتبت باللغات الأوربية لعُدّوا نجوماً في بلادهم. قال لي صديقي الروائي السوري الكبير نبيل سليمان إن كتاباً في أوروبا يصدر على الأقل في 10 آلاف نسخة، في حين لا تتجاوز، في أحسن الاحوال، طبعة كتاب عربي 500 نسخة، وهذا يدل على مدى الإهمال والتهميش الذي يعيشه المبدع العربي في وطنه. أنا في الحقيقة معجب جداً بمستوى الإبداع الروائي لدى الروائيين الشباب الذين أتقنوا فنهم أيما إتقان.

للأسف لا تتم ترجمة أعمالهم، إلا نادراً، للغات العالمية فيظلون مغمورين للقارئ العالمي. ولولا ترجمة روايات نجيب محفوظ إلى الإنجليزية لظلت شهرته محصورة في العالم العربي. أما الهنود الذين يكتبون باللغة الإنجليزية فتكون أعمالهم في متناول القارئ العالمي مباشرة، فتحقق لهم الشهرة والقبول على المستوى العالمي.

> سبق أن نوهت بوجود كنز معرفي من آلاف المخطوطات العربية في الهند التي تنتظر تحقيقها ونشرها. ما أبرز تلك المخطوطات، وما الذي يعيق الاهتمام بها؟

على أقل تقدير، هناك ما يزيد على 55 ألف مخطوطة عربية، في مواضيع متنوعة، وكانت هناك جهود لفهرستها، ولا أدري إن تمت فهرستها أو لا، الأمر الذي يعيق الاهتمام بها هو قلة الاعتناء بالتراث بشكل عام بسبب التدهور الاقتصادي والمعيشي والثقافي الذي يعاني منه المسلمون اليوم في الهند، فليست هناك جهود مؤسسية للاعتناء بها كما ينبغي. ويعود تاريخ بعض المخطوطات إلى القرن الأول الهجري، وعلى رأسها مخطوط «تاريخ دمشق» لابن عساكر، و«التبيان لتفسير القرآن» لأبي جعفر الطوسي، و«تحفة الغريب» للدماميني.

> أين توجد تلك المخطوطات تحديداً؟

- يحتوي «متحف سالار جونغ» في مدينة «حيدر آباد» على بعض أنفَسِ المخطوطات العربية التي تقدر بـ2620 مخطوطة، وكذلك مكتبة «خدا بخش» الشرقية العامة في مدينة «بتنه» التي تحوي نحو 9 آلاف مخطوطة وتتوزع المخطوطات الأخرى على مكتبات جامعات دلهي مثل الجامعة الملية الإسلامية و«همدرد»، و«مولانا أزاد» في جامعة عليكره الإسلامية، و«دار العلوم» و«الجمعية الآسيوية» في كلكتا التي أسسها الإنجليز.

>ما المعايير التي تحكم خياراتك بصفتك مترجماً عند نقل أعمال بعينها من الأردية إلى العربية والعكس؟

- معظم الأعمال التي قمت بترجمتها كانت جزءاً من مشروع الترجمة لدائرة السياحة والثقافة بأبوظبي، وأفضل هذا النوع من الترتيب لأنه يجنبي كثيراً من المشقات والصعوبات الإدارية، وسبق أن تم اختيارها من قبل لجنة محكمة. وكلما أخُيّر بانتقاء كتاب للترجمة أختار الذي يعجبني ويشدني إليه، وأعتقد أن أي كتاب قمت بترجمته يجب أن يكون شائقاً ومفيداً على السواء.

> تترأس تحرير المجلة الفصلية «قطوف الهند» التي تصدر بالعربية منذ ما يقرب من عامين لتكون «جسراً للتواصل بين أبناء الثقافة الهندية والعالم العربي»، وتهتم بنشر الأدب العربي، ونظيره الهندي مترجماً إلى العربية... كيف تقيم تلك التجربة، وهل نجحت المجلة في تحقيق أهدافها؟

- أحدثت مجلة «قطوف الهند» الإبداعية دويّاً كبيراً في أوساط اللغة العربية في الهند، وعُقدت عليها آمال كبيرة من جهة تنشيطها بيئة الإبداع لدى الشباب من كتّاب العربية، وبالفعل لوحظ إقبال كبير لدى أدباء على كتابة القصة القصيرة، والمجلة ما زالت فتية تجاوزت بالكاد سنتين من عمرها، وما زالت أمامنا طريق طويلة.



ما سرّ هذه الأنثى التي تتعدّد تجلياتها؟

قطعتان من موقع دبا الحصن تقابلهما قطعة من موقع الدُّور وقطعة من موقع مليحة
قطعتان من موقع دبا الحصن تقابلهما قطعة من موقع الدُّور وقطعة من موقع مليحة
TT

ما سرّ هذه الأنثى التي تتعدّد تجلياتها؟

قطعتان من موقع دبا الحصن تقابلهما قطعة من موقع الدُّور وقطعة من موقع مليحة
قطعتان من موقع دبا الحصن تقابلهما قطعة من موقع الدُّور وقطعة من موقع مليحة

شهدت المواقع الأثرية الواقعة في الإمارات العربية خلال العقود الأخيرة سلسلة متواصلة من حملات التنقيب كشفت عن مجموعات متعددة من اللقى، منها مجموعة مميزة من القطع العاجية الصغيرة المزينة بنقوش تصويرية. عُثر على القسم الأكبر من هذه القطع في مقابر تعود إلى مطلع الحقبة الميلادية، ممّا يوحي بأنها تنتمي إلى الفنون الجنائزية كما يبدو، وتمثّل تقليداً محلياً خاصاً ازدهر خلال تلك الحقبة في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.

شهد متحف إسبانيا الوطني للآثار في مدريد خلال ربيع عام 2016 معرضاً خاصاً بآثار إمارة الشارقة، ضمّ 240 قطعة من اللقى متعددة الأنواع، منها قطعة عاجية مستطيلة صغيرة تُمثّل قامة أنثوية نُقشت ملامحها بأسلوب يغلب عليه الطابع التجريدي الهندسي. يبلغ طول هذه القطعة 8.25 سنتيمتر، وعرضها 3 سنتيمترات، ومصدرها موقع دبا الحصن الأثري الذي يحمل اسم المدينة التي تطلّ على ضفاف الشاطئ الغربي لخليج عمان، وتُشكّل في زمننا الامتداد الشرقي الطبيعي لإمارة الشارقة.

تتألّف هذه القطعة من 3 خانات متوازية. الخانة العليا مقوّسة، وتُمثّل رأساً أنثوياً في وضعية المواجهة، حدّدت ملامحه بشكل مختزل. الوجه كتلة دائرية، مع امتداد بسيط في وسط الجزء الأسفل، يجسّد على الأرجح العنق. العينان دائرتان كبيرتان، يتوسّط كلاً منهما ثقب يمثّل البؤبؤ. الأنف شق عمودي بسيط، والفم شق أفقي صغير. الشعر على شكل هلال يعلو الرأس، وخصلاته شبكة من الخطوط العمودية المتوازية تنسدل على شق الكتفين المستقيمين. الخانة الوسطى على شكل مكعّب، تمثّل صدر البدن، ويعلوها عقد تتمثل حبّاته بشبكة مشابهة، تستقرّ فوق دائرتين تحتلّان الجزء الأوسط، تماثلان في تأليفهما العينين بشكل متطابق، مع شق في الوسط يماثل شق الأنف. يتحوّل هذا الصدر إلى وجهٍ ثانٍ، يحدّه شقان هلاليان تحيط بهما الذراعان الملتصقتان بالبدن. الخانة الثالثة أكبر حجماً، وهي مستطيلة، وتمثّل الحوض والساقين، مع مثلّث في الوسط يخرقه شق عمودي في الوسط. تحيط بهذا المثلث شبكة من الخطوط الأفقية ترتسم فوق سلسلة من الشرائط العمودية، تزين كما يبدو فخذَي الساقين.

نقع على قطعة أخرى من هذا الطراز، مصدرها كذلك من دبا الحصن، تمثّل تأليفاً يختلف في مكوّناته. الوجه مثلّث، وتنحصر ملامحه بعينين دائرتين يخرق كلاً منهما ثقب البؤبؤ، وأنف على شكل خانة مستطيلة غاب عنها الشق الأعلى. تحيط بهذا المثلث كتلة مقوّسة تعلوها شبكة من الخطوط العمودية ترسم خصلات الشعر المنسدلة بشكل مستقيم على الكتفين. تعلو الصدر دائرتان متماثلتان تستقرّان فوق يدين مجرّدتين مرفوعتين نحو الأعلى، حُدّدت أصابعهما على شكل أسنان المشط. يحضر الخصر تحت هاتين اليدين المثلثتين، وتحدّه مساحة أفقية تتّخذ كذلك هذا الشكل الهندسي. يعلو هذه المساحة مثلث يمثّل الحوض، يخرقه في الجزء الأسفل شق عمودي. تحدّ هذا المثلث ساقان مقوّستان، توحيان بأن صاحبتهما في وضعية القرفصاء. القدمان كتلتان كبيرتان مسطحتان، وأصابعهما محدّدة مثل أصابع اليدين.

تمثّل كلّ من هاتين القطعتين اللتين خرجتا من موقع دبا الحصن الأثري نموذجاً فنياً يتكرّر في مجموعة كبيرة من القطع مصدرها مدينة الدُّور التي تقع اليوم في إمارة أم القيوين، على مقربة من الطريق الحديث الذي يربط بين رأس الخيمة والشارقة. خرج هذا الموقع من الظلمة إلى النور حين استكشفته بعثة عراقية بين عامي 1973 و1974، بعدها تناوبت فرق تنقيب أوروبية متعدّدة على العمل فيه، وكشفت عن مبانٍ متنوعة، وسلسلة من القبور حوت مجموعات كبيرة من اللقى يعود تاريخها إلى القرن الأول الميلادي. عُثر على ألواح عاجية أنثوية في 5 من هذه القبور، وهي من الحجم الصغير، ويتراوح طولها بين 7 و4 سنتيمترات، وعرضها بين 3 و2 سنتيمتر. تبدو هذه المجموعة الأكبر من نوعها في الإمارات، وتماثل قطعها قطعاً أخرى مصدرها موقع مليحة الذي يبعد نحو 50 كيلومتراً شرق مدينة الشارقة، وموقع أعسمة الذي يقع في جبال الحجر ويتبع إمارة رأس الخيمة. خارج الإمارات، يحضر هذا الطراز بشكل عارض كما يبدو، وينحصر هذا الحضور بقطعتين عُثر عليهما في مقبرة أبو صيبع، في شمال جزيرة البحرين.

عُثر على القسم الأكبر من القطع في مقابر تعود إلى مطلع الحقبة الميلادية ممّا يوحي بأنها تنتمي إلى الفنون الجنائزية

تمثل القطعة التي عُرضت في متحف إسبانيا الوطني للآثار نموذج المرأة المستقيمة الذي يتكرّر عبر تنويعات مختلفة في العديد من القطع التي عُثر عليها في مدينة الدُّور الأثرية، ويتميّز هذا النموذج بذراعين ملتصقتين بالبدن. في المقابل، تمثل القطعة التي تمثّل امرأة في وضعية القرفصاء نموذجاً مغايراً، تتعدّد تنويعاته كذلك في مدينة الدُّور، كما في المواقع التي تتبع في زمننا الشارقة ورأس الخيمة. ويتميز هذا النموذج بيدين مرفوعتين، ترتسمان فوق مساحة الصدر. إلى جانب هذين النموذجين اللذين تحضر فيهما الأنثى عارية، يظهر نموذج ثالث ترتدي فيه هذه الأنثى ثوباً تزيّنه شبكة من الخطوط الغائرة، تختلف تقاسيمها بين قطعة وأخرى. يحضر هذا النموذج في مجموعة محدودة من القطع مصدرها موقعا مليحة ودبا الحصن في الشارقة، وموقع أعسمة في رأس الخيمة. وتقابل هذه القطع قطعتان من مدينة الدُّور، كشفت عنهما بعثة بريطانية خلال عملها في هذا الموقع.

تختزل هذا النموذج قطعة من موقع مليحة، طولها 7 سنتيمترات، وعرضها 3 سنتيمترات، تمثّل امرأة ترفع ذراعيها نحو الأعلى، وكأنها في وضعية الابتهال. يتبع الوجه التأليف المعهود، وتكلّله مساحة مقوّسة تستعيد تسريحة الشعر السائدة. في المقابل، تحضر في أسفل العنق دائرة واحدة تماثل دائرتي العينين. يحتل وسط الصدر شريط عمودي مزين بشبكة من الخطوط الأفقية، يتكرّر في الجزء الأسفل من هذه القطعة العاجية، مشكّلاً زينة تنورة واسعة تلتف حول الخصر، وتحجب الساقين بشكل كامل.

من تكون هذه الأنثى التي تتعدّد تجلياتها في مقابر الإمارات الأثرية؟ تتعدّد القراءات في تحديد هذه الهوية، كما في تحديد وظيفتها، غير أنها تبقى قراءات افتراضية. في الخلاصة، تحافظ هذه الأنثى على سرّها، وتشكّل لغزاً يمثل تحدياً أمام كل من حاول فكّه.