سيّدتا الحجر تحافظان على سرّ هويتهما الفنية

تشبهان قطعاً من فلسطين ولا تتماثلان معها

تمثالان من متحف البحرين الوطني بالمنامة (مقبرة الحجر الأثرية)
تمثالان من متحف البحرين الوطني بالمنامة (مقبرة الحجر الأثرية)
TT

سيّدتا الحجر تحافظان على سرّ هويتهما الفنية

تمثالان من متحف البحرين الوطني بالمنامة (مقبرة الحجر الأثرية)
تمثالان من متحف البحرين الوطني بالمنامة (مقبرة الحجر الأثرية)

تحوي جزيرة البحرين سلسلة كبيرة من المقابر الأثرية، منها مقبرة تُعرف باسم الحجر، تضم مجموعة كبيرة من المدافن الفردية والجماعية، تختزل تاريخاً طويلاً من التقاليد الجنائزية يمتد من الألفية الثانية قبل الميلاد إلى القرون الأولى من عصرنا. في هذه المقبرة التي لم تكشف بعد عن كل مكوّناتها، تم العثور على تمثالين أنثويين في مدفن فارغ من أي عظام بشرية، ويتميّزان بأسلوب فني لا نجد ما يشابهه في مدافن البحرين الغنية بشواهد القبور التصويرية الآدمية، ويشكّلان معاً حالة فريدة في هذا الميدان الأثري الذي ظهرت معالمه تدريجياً خلال أعمال المسح المتواصلة في العقود الأخيرة.

تحمل مقبرة الحجر اسم القرية التي تجاورها، وتحدّها جنوباً قرية أخرى تُعرف باسم القدم. تتوسط المقبرة هاتين القريتين المشرفتين على شارع البديع في المحافظة الشمالية، وتشكل موقعاً أثرياً واسعاً استكشفته إدارة الآثار البحرينية في مطلع السبعينات. تبيّن سريعاً أن هذا الموقع يحوي مقبرة تعود إلى مرحلة استيطانية موغلة في القدم، برزت فيها البحرين حاضرةً من إقليم وسيط امتدّ على ساحل الخليج، عُرف باسم دلمون. أنشئت هذه المقبرة خلال فترة دلمون المبكرة، بين عامي 2000 و1880 قبل الميلاد، وتطوّرت خلال فترة دلمون الوسطى، بين 1400 و1300 يوم خضعت البلاد لسلطة سلالة الكاشيين التي حكمت بلاد الرافدين بعد انهيار دولة بابل الأولى، كما جرى استخدامها في حقبة دلمون الأخيرة، بين 900 و800 قبل الميلاد.

تواصل هذا الاستخدام في الحقبة التالية التي شهدت غياب اسم دلمون، حيث برزت البحرين في ظل العالم الهلنستي المتعدد الأقاليم، وعُرفت باسم تايلوس، كما برزت في ظل الإمبراطورية الفرثية التي شكلت قوة سياسية وثقافية كبرى في إيران القديمة. هكذا تعاقبت الأزمنة في مدافن الحجر الأثرية، وبات من الصعب تحديد مراحل تعاقبها بدقة. تتمثل هذه المدافن بمجمعها الشمالي من القبور المحفورة في الصخور المطلة على شارع البديع في زمننا، وتقابل هذا المجمع سلسلة من المدافن تقع في الجزء الجنوبي من الموقع، تعود إلى حقبة تايلوس. من هذه المدافن مجموعة شواهد القبور من الحجر الجيري المحلي، تتميّز بطابعها التصويري الآدمي، وتشكّل تقليداً تتعدّد شواهده في مقابر البحرين الأثرية.

يتجلّى هذا التقليد الفني في البحرين تحديداً، كما تدل هذه الشواهد التي تتبع أساليب فنية متعدّدة تجمع بين التقاليد الفرثية والهلنستية في قوالب محلية خاصة، كما في نواحٍ متعددة من الشرق الأدنى وبلاد ما بين النهرين. من هذه الشواهد، يبرز تمثالان من مدافن الحجر، عثرت عليهما بعثة بحرينية خلال أعمال المسح التي قامت بها في مطلع تسعينات الماضي، وكشفت عنهما للمرة الأولى حين تمّ عرضهما عام 1999 ضمن معرض خاص بالبحرين، أقيم في معهد العالم العربي بباريس. خرج هذان التمثالان من قبر يقع في تل يحمل رقم 2 في الكشف الخاص بأعمال هذه البعثة، والغريب أن هذا القبر خلا من أي عظام بشرية، كما خلا من أي أوانٍ جنائزية، على عكس ما نراه عادة في القبور المعاصرة له. في هذا القبر الخالي، عُثر على هذين التمثالين منصوبين جنباً إلى جنب، وهما تمثالان متشابهان من النوع النصفي الذي يقتصر على الجزء الأعلى من الجسم، يجسدان سيدتين تتماثل ملامحهما إلى حد التطابق.

يتشابه التمثالان في الملامح والحجم، حيث يبلغ طول الأول 74.5 سنتمتر، ويبلغ طول الثاني 72 سنتمتراً، وعرض كل منهما 37.5 سنتمتر، وسمكه 15 سنتمتراً. تتبع شواهد القبور البحرينية عادة طراز النقش الناتئ على المسافة المسطحة، وتجسّد قامات آدمية تحضر بين أعمدة تعلوها أقواس في أغلب الأحيان. تخرج سيدتا الحجر عن هذا التقليد، وتتبعان تقليداً آخر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنحت الثلاثي الأبعاد. تغيب الحركة عن هذين التمثالين بشكل كامل، وتحضر حالة من السكون والثبات تميّزت بها التقاليد الشرقية في الدرجة الأولى. الوجه كتلة دائرية ثابتة فوق عنق مستطيلة، وملامحه محدّدة بشكل يمزج بين النحت والنقش. العينان لوزتان واسعتان مجرّدان من البؤبؤ، تحدّ كل منهما أهداب عريضة ناتئة، يعلوها حاجب على شكل قوس. قوسا الحاجبان منفصلان، ومن وسطهما ينسل طرف الأنف المستطيل. الثغر مطبق، مع شق في الوسط يفصل بين شفتيه. الأذنان ظاهرتان، وهما منمنمتان، وتتمثل كل منهما بحِتار مقوّس يحيط بالصيوان، ويضم الشحمة السفلى. الجبين أملس وعريض، ويعلوه شعر يتكون من خصلات منقوشة متجانسة، يفصل بينها فرق في الوسط. تلتف هذه الخصلات إلى الوراء، وتحيط بشبكة أخرى من الخصلات تنسكب عمودياً على الكتفين.

البدن كتلة واحدة، والذراعان ملتصقان به، ويحدّهما شقّان عموديان ناتئان. الصدر الأنثوي ناتئ بخفر شديد، ويعلوه كما يبدو لباس بسيط مجرّد، كما يوحي الشق الناتئ الملتف حول العنق كعقد. تنتصب هاتان السيدتان فوق منصّتين تختلفان في الحجم، وتمثلان حالة فريدة لا نجد ما يماثلها في ميدان النحت الجنائزي البحريني الذي لم يكشف بعد عن سائر مكوناته، وهما على الأرجح من نتاج نهاية القرن الثاني الميلادي، أي من نتاج تايلوس الأخير.

في محاولة لتحديد خصوصية هذين التمثالين، عمد البعض إلى مقارنتهما بقطع من فلسطين تعود إلى تلك الحقبة، وكشفت هذه المقارنة عن شبه لا يبلغ التماثل والتطابق. في الختام، تحافظ سيّدتا الحجر على سرّهما، في انتظار اكتشافات أخرى تسمح بالكشف عن هويتهما الفنية بشكل جليّ.


مقالات ذات صلة

دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

ثقافة وفنون دينا مندور

دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

تُعد المترجمة المصرية، دينا مندور، أحد أبرز مترجمي الأدب الفرنسي إلى العربية، حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة «السوربون» الفرنسية

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

يحتضن الشاعر المصري كريم عبد السلام، فلسطين، في ديوانه الذي وسمه باسمها «أكتب فلسطين - متجاهلاً ما بعد الحداثة»، ويكشف أقنعة المواقف والسياسات المتخاذلة.....

جمال القصاص
يوميات الشرق الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ (أ.ف.ب)

«نوبل الآداب» للكورية الجنوبية هان كانغ

فازت الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ (53 عاماً)، بجائزة نوبل للآداب لعام 2024، نظير «نثرها الشعري المكثّف الذي يواجه الصدمات التاريخية»، وكشفها في كل عمل من

محمد السيد علي (القاهرة)
كتب أريك ماريا ريمارك

لا صوت يعلو على صوت القلب

إحدى الروايات التي سحرتني منذ قراءاتي الأولى، والتي بالتأكيد شجعتني - ومن ضمن أعمال خالدة ألمانية أدبية أخرى - على دراسة الأدب الألماني في جامعة بغداد

نجم والي
كتب جبران خليل جبران

لماذا وكيف ينبغي أن نقرأ جبران اليوم؟

من قوة إلى قوة تسيرُ سلسلة «دراسات إدنبرة في الأدب العربي الحديث»، التي تصدر باللغة الإنجليزية عن مطبعة جامعة إدنبرة في أسكوتلندا

د. ماهر شفيق فريد

دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

دينا مندور
دينا مندور
TT

دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

دينا مندور
دينا مندور

تُعد المترجمة المصرية، دينا مندور، أحد أبرز مترجمي الأدب الفرنسي إلى العربية، حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة «السوربون» الفرنسية حول «الترجمة العربية للرواية الفرنسية ما بعد الاستشراقية»، ومن أبرز أعمالها المترجمة: «الفلاسفة والحب»، «صرخة النورس»، «مملكة الموضة زوال متجدد» و«حقيقة قضية هاري كيبر» الحاصلة على جائزة الأكاديمية الفرنسية، وشاركت في عدد من المنح التدريبية بوزارة الثقافة الفرنسية، وهي عضو في «جمعية مترجمي الآداب» بفرنسا... هنا حوار معها حول إشكاليات الترجمة وهمومها الأدبية والأكاديمية...

* طرحتِ تعبير «الرواية ما بعد الاستشراقية» في رسالتكِ للدكتوراه من جامعة السوربون ، حدثينا عن ماهية هذا الاصطلاح.

- عنوان الرسالة هو «الترجمة العربية للرواية الفرنسية ما بعد الاستشراقية»، وهو عنوان أول مرة يتم صكّه في رسالة بحث علمي، شملت الفترة من 1991 حتى يومنا هذا، أي على مدار نحو 30 عاماً. ويشير مصطلح «الكتابة ما بعد الاستشراقية» إلى الفترة التي أعقبت صدور كتاب «الاستشراق» (1978) لإدوارد سعيد. الكتاب الذي شكّل صدمة للغرب بالطبع، وأثار موجة من الجدل والهجوم العنيف على الاستشراق الكلاسيكي. ومن المعروف أن الارتباط الجزئي الذي تم بين الاستشراق الأدبي والعلمي من جهة، والاستعمار السياسي والعسكري من جهة أخرى، قد أدى لوصم الاستشراق بالتبعية المغرضة والمساعدة في تنفيذ أجندات سياسية تضرّ بالشعوب المُستعمرة أو التي تذكر في الكتابات الاستشراقية.

لذلك، فأدب ما بعد الاستشراق معنيّ بالفصل بين الكتابة في آخر 40 سنة عن الشرق، والاستشراق الكلاسيكي بداية من كتابات أنور عبد الملك في الستينات ومقاله البارز «هل مات الاستشراق؟» الذي طرح أسئلة شائكة قبل صدور كتاب إدوارد سعيد بأكثر من 10 سنوات، وانتقاد متخصصين فرنسيين لهذا الاستشراق الذي عاون الاستعمار. ثم سكت الكلام عن الكتابة عن الشرق الأوسط تحديداً، وشمال أفريقيا، وبدأت موجة كتابة جديدة من الكتابة أخذت تتكثف وتنتشر وتبرز في فرنسا، التي رصدتها الرسالة باعتبارها «ما بعد استشراقية»، وبيّنت اختلافاتها السياقية والأدبية عن الاستشراق الكلاسيكي القديم.

* كيف قمتِ بمعالجة هذه المرحلة من الكتابة بحثياً؟

- امتد البحث عبر 3 فصول، الأول اخترتُ فيه كُتاباً ذاع صيتهم في هذا الكادر الزمني، وفي أعمالهم سمات أساسية حول الكتابة عن الشرق، فتمركزت عينة البحث حول رواية «ليون الأفريقي» لأمين معلوف، ورواية «بوصلة» لماتياس إينار، ورواية «المصرية» لجيلبرت سينويه. أما الفصل الثاني فتطرق لعلم اجتماع الترجمة، الذي يتناول المرحلة التي يقطعها الكتاب الأصلي وصولاً لترجمته، بما في ذلك حيثيات عملية النشر في فرنسا والعالم العربي، وتحديداً الأسباب التي تجعلنا نُترجم أدباً يتحدث عنا بالأساس ولكن بلغة أجنبية، وأسباب حماس الناشر العربي لترجمة هذا النوع من الأدب، وسط تساؤلات طرحها البحث حول ما إذا كان لدينا فضول لرؤية أنفسنا في عين الآخر، وهل دعم المؤسسات الأجنبية لترجمة أصوات غربية تتحدث عن الشرق من الاتجاهات التي تحدد النشر؟ إضافة إلى لقاءات مع مكتبات رصدت بالإحصاءات نسب مبيعات هذا اللون من الكتابة، وحوارات مع عينة من المترجمين الذين ترجموا روايات فرنسية يدور عالمها في الشرق، كما تطرق الحديث عن مترجمين لا يُفضلون ترجمة هذا اللون من الروايات وأسبابهم في ذلك.

علم اجتماع الترجمة هو بحث في العلاقة بين الكُتاب والناشرين بوصفهم بشراً في الأساس لديهم مشاعرهم وأفكارهم، التي تحمل تأثيراتها على عملية الترجمة، ومدى حساسية مترجم في ترجمة نص يتحدث عن مجتمعه العربي، مكتوب بلغة أجنبية، فهل يتدخل لاشعورياً، فرغم الاحتراف يكون النص بيد إنسان، حيث هناك عامل التعليم وعلاقته باللغة، فنحن نفكر باللغة، والتكوين الفكري يؤثر في الاختيارات اللغوية للمترجم مقارنة بالنص الأصلي، وحساسيته في التعامل مع بعض الألفاظ، وهذا ما تناولته بتفصيل أكبر في الفصل الأخير من الرسالة حول إشكاليات الترجمة.

* ما السياقات الأبرز للكتابة ما بعد الاستشراقية التي قمتِ برصدها؟

- الحديث عن كل ما هو استشراق ظل شائكاً في فرنسا، أقرب لتابو. ومن أهم عناصر تشكيل معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية» هجرة الكتاب العرب للغرب، حتى صارت كتاباتهم عن العالم العربي مرتبطة بنسيج الكتابة في فرنسا، بداية من أمين معلوف، وسينويه، وطاهر بن جلون، وآسيا جبار، وروبير سوليه. كل تلك الأسماء من أصول عربية تعيش في فرنسا، فتشكيلهم وخلفيتهم الشرق أوسطية العربية برزت في الكتابة الفرنسية، وظل سؤال الهُوية مطروحاً في أعمالهم. وكانت هي الشغل الشاغل لأمين معلوف، صاحب العبارة الشهيرة «هُوية واحدة وانتماءات عدة»، وعندما كتب الفرنسي ماتياس إينار عن الشرق لم يذهب إليه بأحكام مُسبقة، بل اندمج تماماً في المجتمع اللبناني والسوري بشكل وثيق، وليس بشكل فانتازي. فقد ابتعدت الكتابة هنا عن الأسلوب المُعلّب الفانتازي المشغول برصد الشرق من هذه الزاوية، كما فرضت موضوعات مثل الربيع العربي والهجرات الشرعية وغير الشرعية نفسها على الأدب كقضايا معاصرة، مع ملاحظة أن المجتمع العربي بشكل عام لم يعد بعيداً بسبب الهجرة، ولم تعد صورة العربي محفوفة بالتغريب الذي كان أحد أبرز عناصر الجذب في الكتابة الاستشراقية. كتابات أمين معلوف، على سبيل المثال، وسّعت الكتابة لإطار إنساني أكبر، من خلال تخليط شخصيات غربية وعربية في متن واحد، فالحدود تم تمييعها من خلال الهجرات بشكل كبير، وهذا انعكس على الأدب.

ولأن الموضوع جديد في مجالات البحث العلمي، فقد انعكس ذلك على قلة المراجع، فهناك أبحاث أكاديمية فرنسية كثيرة، مثلاً عن أدب أمين معلوف، لكن دون الحديث عن ترجمة أعماله إلى العربية، وهو ما تناولته في البحث. كما لم تتوفر أبحاث تخص اعتبار أعماله «ما بعد استشراقية»، لذلك لجأت لتفكيك الاستشراق الكلاسيكي كمدخل تاريخي لما بعد الاستشراق في الأدب المترجم للعربية.

* في مشروعكِ للترجمة ثمة خيط أدبي يتفاعل مع موضوعات تخص المرأة. حدثينا عن هذا الاختيار؟

- يبدو أن ذائقتي تميل للموضوعات التي تتفاعل مع كيان المرأة، فأول عمل قمت بترجمته كان رواية «فاديت الصغيرة» للكاتبة جورج صاند، وكانت تتحدث عن فتاة مراهقة في مجتمع مُغلق تبحث عن الحرية، والمفارقة أن مؤلفة الرواية نفسها اختارت اسم رجل حتى تستطيع النشر، وهناك رواية «صرخة النورس» وهي من أهم الأعمال التي قمت بترجمتها، وهي سيرة ذاتية للممثلة الصمّاء الفرنسية إيمانويل لابوري، التي طالبت منذ سنوات مراهقتها الاعتراف بحقوق الصُم في فرنسا، وهي من أسست المسرح المرئي العالمي، وهو أول مسرح يدمج الناطقين والصم، وكتبت هذه السيرة وهي في العشرين من عمرها.

وأتوقف كذلك عند كتاب «المرأة الثالثة... ديمومة الأنثوي وثورته» للفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل ليبوفيتسكي، الذي قسّم تاريخ المرأة من وجهة نظره إلى 3 مراحل: الأولى مرحلة «المرأة المُأبلسة»، ثم مرحلة الاحتفاء بظهورها وتمجيد جمالها كما تجلى في عصر النهضة، وكان الرجل في المرحلتين هو من يحدد قيمتها، أما المرحلة الثالثة فهي المرأة التي تجد طريقها في كل شيء، ويطرح تساؤلات كثيرة من خلال ربطه بين المراحل الثلاث.

* كانت لديك محطة أخرى في ترجمة جيل ليبوفيتسكي، من خلال كتاب «مملكة الموضة - زوال متجدد»، الذي يطرح فيه تأملات فيما يسميها بـ«الحداثة المفرطة».

- تطرق ليبوفيتسكي لموضوع الموضة بعيداً عن الطرح التقليدي والسطحي له، والتفت إلى الشبكة الاجتماعية لتكوينها، واعتبارها مظهراً من مظاهر المنافسة الاجتماعية، وهو ما أطلق عليها «مملكة الزائل» بمعنى المملكة التي تزول وتعود من جديد، لذلك فالزوال المُتجدد إحدى سمات الموضة، سواء في الأزياء أو العمارة والأثاث حتى الموسيقى، فالحداثة المفرطة من موضوعات ليبوفيتسكي التي يتأملها في أعماله، وأعتقد أنه أحد أبرز المفكرين في فرنسا، وأفخر أنني أول من قدمته إلى العربية، وأبدأ قريباً في ترجمة أحد أعماله الجديدة، التي تسعى إلى تفكيك الظواهر التي تبدو هامشية، ولكنها كاشفة عن أعمق مشكلات المجتمع.

- هل تعدّين أن حصول عمل أدبي على جائزة أدبية حيثية كافية لترجمته إلى العربية؟

- ليس معياراً كافياً أبداً، وقد طالعت كثيراً من الأعمال التي حازت جوائز أدبية فرنسية ولكنني شعرت بأنها غير موائمة لذائقة القارئ العربي، وهناك معيار آخر هو أنني لا بد أن أحب العمل الذي سأختار ترجمته لأنني أمضي وقتاً طويلاً معه، وفي الترجمة الصادرة حديثاً لي لرواية «حقيقة قضية هاري كبير» لجويل ديكر، لم يكن حصولها فقط على جائزة الأكاديمية الفرنسية 2012 هو المعيار الوحيد الذي دفعني لترجمتها، ولكن تميز الرواية رغم كبر حجمها.

طالعت كثيراً من الأعمال التي حازت جوائز أدبية فرنسية ولكنني شعرت أنها غير موائمة لذائقة القارئ العربي

* إلى جانب الأسماء المعاصرة، ترجمت لأسماء كلاسيكية في الأدب الفرنسي، أشهرهم مارسيل بروست. حدثينا عن تجربتك في ذلك، قياساً بترجمتك لأعمال كتاب معاصرين.

- أعتقد أن العامل الرئيسي هنا هو الحفاظ على الرسالة والأسلوب الأدبي، فالكتابة الروائية هي أسلوب بالأساس، فلا يمكن أن يشعر القارئ أن جويل كيبر وإيمانويل لابوري وبروست يحملون نفس الأسلوب حين يترجمهم نفس المترجم، فعليه أن يحرص على تقديم أسلوبية الكاتب، وألا يترك أسلوبه الخاص يطغى، فيلغي الأسلوب المتفرد لكل كاتب أصلي. ويعد هذا من أهم إشكاليات الترجمة، فمارسيل بروست على سبيل المثال ذهني جداً في كتابته، ولديه ارتباط كبير بالصور التي يستخدمها بكثرة في تعبيراته، فيكون حفاظ الترجمة على أهمية هذه الصور لديه أمراً ضرورياً، حتى لو اضطررنا للجوء للهوامش في أقل الحدود. وأحياناً ما يكون من مفارقات الاحترافية أن يلجأ المترجم لبعض «الخيانة» للنص الأصلي وإجراء ما يلزم من تغييرات شكليّة كي يراعي شفرات اللغتين (لغة المصدر، ولغة الاستقبال).

* توليتِ مناصب مهمة بهيئة الكتاب المصرية والمجلس الأعلى للثقافة، برأيك ما أبرز مشكلات الكتاب المُترجم في مصر؟

- أعتقد أن المشكلات الأساسية تظل في تكوين المترجم من جهة، والميزانيات المرصودة، سواء لشراء الحقوق الأدبية أو إعادة طباعة عناوين مطلوبة من القراء، ولكن يتم التوقف عن إعادة طباعتها، وهناك كذلك مشكلة في خريطة التوزيع، فلا أفهم مثلاً لماذا لا يقوم «المركز القومي للترجمة» بتوزيع إصداراته في المكتبات المختلفة، وقصرها على منافذ المركز وبعض المنافذ في الجامعات ومعارض الكتاب بالطبع؟ جهد ممتاز، لكنه غير كافٍ في ظل المتغيرات الحديثة التي تطرأ على حياة البشر.