إيمانويل كانط... كتب غيَّرت خريطة الفكر البشري

300 سنة على ولادة الفيلسوف الألماني الشهير

كانط
كانط
TT

إيمانويل كانط... كتب غيَّرت خريطة الفكر البشري

كانط
كانط

تحتفل ألمانيا هذا العام بمرور ثلاثمائة سنة على ولادة مفكرها الأعظم: كانط. ولكن هل هو أعظم من هيغل؟ كلاهما عظيم. وسوف تقام المعارض وتنظم الندوات والمؤتمرات والمحاضرات في شتى أنحاء البلاد بهذه المناسبة. على هذا النحو تحتفل الأمم المتحضرة بعباقرتها وتفتخر بهم. يقول الباحث ميكائيل فوسيل، أستاذ الفلسفة في إحدى الجامعات الفرنسية: «منظوراً إليه من فرنسا، فإن كانط هو الفيلسوف الأكبر للأنوار. لقد نوَّر أوروبا والجنس البشري كله عندما أسهم في انتصار العقل على النقل، والفلسفة المستنيرة على ظلمات الأصولية الدينية والعقلية الخرافية. ولا تزال أفكاره تهمنا حتى اللحظة: كالبحث عن السلام الدائم بين الأمم، وكبلورة قيم أخلاقية كونية تنطبق على جميع شعوب الأرض، وكالدفاع عن العقل والعقلانية دون تقديم أي تنازل للعصبيات المذهبية والهيجانات الطائفية».

كانط هو فيلسوف النقد بامتياز. كان يقول ما معناه: إن عصرنا هو عصر النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء بما فيها العقائد الدينية ذاتها وبخاصة عندما تتحول إلى طائفية مدمرة. لا شيء فوق النقد بمعنى التمييز والتمحيص والغربلة لا بمعنى الشتم والتجريح المجاني. هذه ليست شغلة كانط. كيف يمكن أن نفهم تراثنا المقدس من دون دراسة علمية تاريخية نقدية له، وفي الختام تقييم فلسفي؟ لهذا السبب ألَّف كانط في أواخر حياته كتابه: «الدين مفهوماً ضمن حدود العقل فقط». ولكن هذا الكتاب سبَّب له بعض المشكلات. فقد احمرَّت عليه الأعين بسبب آرائه الجريئة عن الأصولية المسيحية. ووشى به المتزمتون المتحجرون عند الإمبراطور فريدريك غيوم الثاني. معلوم أن كانط كان في أمان طيلة عهد عمه فريدريك الأكبر المدعو بالمستبد المستنير الذي كان يسمح بحرّية كبيرة في مجال نقد الانغلاقات الدينية ورجال الدين. وقد أهدى كتابه الشهير: «نقد العقل الخالص» إلى أحد وزرائه الكبار.

كان يشعر بحرِّية كاملة في التفكير والنشر والتعبير طيلة عهده. ولكن بعد موته خلفه على رأس السلطة ابن أخيه فريدريك غيوم الثاني الذي كان مستبداً ظلامياً مقرباً من الأوساط الأصولية البروتستانتية التي تملأ رحاب القصر. فهدده الإمبراطور وتوعده بعد أن سمع بآرائه الجريئة عن الدين. كان كانط يبلور تفسيراً عقلانياً للدين المسيحي. لم يكن ملحداً ولا كافراً بالقيم الإنجيلية العليا للدين. لم يكن ضد الدين كدين وإنما كان ضد الطائفية التي دمَّرت ألمانيا سابقاً. لهذا السبب اصطدم تفسيره الجديد للدين المسيحي بشكل مباشر بتفسير الأصوليين.

ولذا فالمعركة بين الطرفين كانت إجبارية ومحتومة. ولكن عندما شعر كانط بأن المقصلة قد اقتربت من رأسه تراجع قليلاً إلى الوراء بعد أن كان قد نشر بالمفرق جزءاً من كتابه الشهير. وقال للإمبراطور: «أعدكم يا جلالة الملك، كأحد رعاياكم المطيعين المخلصين، بألا أخوض في الشؤون الدينية بعد اليوم». بالطبع كانط كان يعرف في قرارة نفسه أنه سيكون في حِلٍّ من القرار إذا ما مات الملك قبله. وهذا ما حصل عام 1797 لحسن الحظ. وعندئذ أكمل الفيلسوف بحوثه المضيئة عن الدين ونور ألمانيا وكل أوروبا.

هنا نلمس لمس اليد الفرق بين المستبد المستنير والمستبد الظلامي. إنه فرق كبير جداً على عكس ما نتصور. المأمون كان مستبداً مستنيراً محبذاً للعلم والفلسفة والترجمة، على عكس المتوكل الذي جاء بعده وكان مستبداً ظلامياً يكره المعتزلة والفلاسفة ويضطهدهم. واليوم نتساءل: هل العالم العربي جاهز للديمقراطية؟ والجواب هو قطعاً: لا. العالم العربي بل الإسلامي كله بحاجة إلى مستبد مستنير وحكم رشيد، وبعدئذ تجيء الديمقراطية على مراحل تدريجية. كل شيء بوقته. بعد أن يستنير الشعب ويخرج من عباءة الأصوليين والإخوان المسلمين والخمينيين وبقية الظلاميين، عندئذ تصبح الديمقراطية تحصيل حاصل. لا ديمقراطية من دون فلسفة. لا ديمقراطية من دون استنارة فكرية تشمل شرائح واسعة من الشعب. هذا شيء مفروغ منه. وبالتالي كفانا شعارات ديماغوجية.

لكن لِنَعُد إلى كانط. ماذا فعل هذا الرجل؟ ماذا حقق؟ لقد حقق معجزة تقريباً. لقد أصدر عدة كتب متلاحقة غيَّرت خريطة الفكر البشري: نذكر من بينها: «نقد العقل الخالص» 1781، و«نقد العقل العملي» 1788، و«نقد ملكة الحكم أو التمييز» 1790، ثم توج كل ذلك بكتابه عن «الدين مفهوماً ضمن حدود العقل فقط» عام 1793، وأخيراً لا ينبغي أن ننسى كتابه: «لأجل السلام الدائم بين الأمم» 1795.

كانط سبق عصره بـ150 سنة على الأقل. مَن يعرف ذلك؟ كانط هو أستاذ الرئيس الأميركي الكبير وودرو ويلسون، صاحب المبادئ الشهيرة، وبخاصة حق الشعوب في تقرير مصيرها. كان رئيس أميركا يرى نفسه تلميذاً صغيراً من تلامذته. لم يكن يحلف إلا باسمه. لم يكن يهتدي بعد الله إلا بهديه. الفلاسفة الكبار ليسوا كمثقفي الدرجة الثانية أو الثالثة. الفلاسفة الكبار ليسوا أشباه مثقفين يركبون الموجات الأصولية والشعبوية الغوغائية.

الفلاسفة الكبار هم كالرادارات الكاشفة: منارات العصور. إنهم يسبقون عصرهم، إنهم يرهصون بالعصور القادمة. إنهم يفكرون إلى البعيد أو بعيد البعيد. باختصار شديد: إنهم يرون إلى أبعد من أنفهم! من بين هؤلاء إيمانويل كانط وأستاذه العزيز جداً على قلبه جان جاك روسو. وهو الشخص الوحيد الذي كان يضع صورته على مكتبه لكي يستأنس بها وهو يفكر ويكتب. العباقرة يعرف بعضهم بعضاً.

من المعلوم أن الأفكار الأخلاقية والفلسفية التي بلورها كانط في كتابه «لأجل السلام الدائم بين الأمم» هي التي ألهمت تأسيس عصبة الأمم أولاً، فالأمم المتحدة ثانياً؛ أي قبل قرن ونصف من تأسيسهما. وهذا أكبر دليل على مدى تأثير الفكر في الواقع. ثم يقولون لك بعد كل ذلك: ما معنى الفلسفة؟ ما معنى الثقافة؟ ما معنى المثقفين؟ معناهم عظيم إذا كانوا مثقفين حقيقيين من أمثال كانط، من وزن كانط، من حجم كانط. الأفكار هي التي تقود العالم. نقصد الأفكار الجديدة، الأفكار المتينة، الأفكار المضيئة التي تشق ظلمات العصور.

كانط هو فيلسوف النقد بامتياز. وكان يقول ما معناه: إن عصرنا هو عصر النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء

أخيراً...

يبدو أن كانط لم يعشق ولم يتزوج ولم يعرف أي امرأة في حياته. وهذا من عجائب الأمور. لقد تفرَّغ كلياً لقضية الفكر والفلسفة. وكفاه ذلك فخراً. ماذا كنا سنستفيد لو أنه أنجب عشرة أطفال؟ أمَا كان ذلك سيكون على حساب إبداع مؤلفاته الكبرى؟ أمَا كنا سنخسر كل هذه الكنوز والجواهر والإضاءات؟ نقول ذلك خصوصاً أن أولاد العباقرة نادراً أن يكونوا عباقرة. بل إنهم في معظم الأحيان يكونون أشخاصاً عاديين كبقية البشر، هذا إن لم يكونوا أقل من عاديين. ثم إنهم كانوا قد عاشوا وماتوا ولم يبقَ لهم من أثر. مَن يتذكر أبناء هيغل، أو ماركس، أو فرويد، أو تولستوي، إلخ؟ أما مؤلفاتهم العظمى فخالدة على الدهر. لا تزال كتب كانط تدرَّس في كل جامعات العالم. لا تزال تضيء لنا الطريق. أطفاله الحقيقيون هم كتبه ومؤلفاته. نقطة على السطر. ولكن للحقيقة والتاريخ يقال إنه عشق مرة إحداهن. ولكنه غطس بعدها مباشرةً في الحفر عن بعض نظرياته العويصة المعقدة. وما إن استفاق من غيبوبته الفلسفية وأراد العودة إليها حتى كانت المحروسة قد تزوجت وأنجبت الأطفال. ولكن يبدو أن السبب مادي. لعن الله الفقر. قال مرة للكثيرين الذين يُلحِّون عليه في السؤال ويُقلقونه: لماذا لم تتزوج يا أستاذ كانط؟ فأجابهم على النحو التالي لكي يتخلص من ملاحقاتهم: «عندما كنت راغباً في النساء كنت فقيراً ولا أستطيع الاضطلاع بتكاليف الحياة الزوجية. وعندما أصبحت قادراً على ذلك لم تعد لي رغبة في النساء».


مقالات ذات صلة

نعوم تشومسكي... عدة شخصيات تحمل اسماً واحداً

ثقافة وفنون تشومسكي

نعوم تشومسكي... عدة شخصيات تحمل اسماً واحداً

قُوبلت الأنباء التي تم تداولها عن نقل البروفيسور إفرام نعوم تشومسكي إلى المستشفى في ساوباولو (البرازيل)، بينما كان يتعافى من إصابته بجلطة دماغيّة شديدة ....

ندى حطيط
ثقافة وفنون أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

لم أحسب، وأنا أقلب الصفحات الأولى من رواية ليلى المطوّع «المنسيون بين ماءيْن»، أنني سأقضي أياماً حافلةً بالدهشة والمتعة والذهول، وأنا مأسور بهذا الكتاب.

أمين صالح
ثقافة وفنون غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في  العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"

تجليات الحب العذري في حياة الجاهليين وأشعارهم

إذا كانت ظاهرة الحب العذري في الحقبتين الراشدية والأموية قد أثارت الكثير من اللبس والغبار النقدي في أوساط الباحثين وأهل الاختصاص، فإن هذَين اللبس والغبار .....

شوقي بزيع
ثقافة وفنون ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين

شواهد قبور أنثوية من البحرين

كشفت حملات التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن فن جنائزي عريق يتجلّى بنوع خاص في شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون قصص من بلاد سومر

قصص من بلاد سومر

صدر حديثاً عن منشورات «رامينا» بلندن كتاب «مدن الكلمات الصادقة» للقاصّ السوريّ عبد الرزّاق دحنون الذي يروي فيه قصصاً من بلاد سومر.

«الشرق الأوسط» (لندن)

لأول مرة... «المعلقات العشر» باللغة الكورية

ندوة ثقافية في «معرض سيول الدولي للكتاب» عن ترجمة كتاب «المعلقات لجيل الألفية» الذي يتضمن المعلقات العشر إلى اللغة الكورية لأول مرة في تاريخ الأدب العربي. وفي الإطار غلاف الكتاب (الشرق الأوسط)
ندوة ثقافية في «معرض سيول الدولي للكتاب» عن ترجمة كتاب «المعلقات لجيل الألفية» الذي يتضمن المعلقات العشر إلى اللغة الكورية لأول مرة في تاريخ الأدب العربي. وفي الإطار غلاف الكتاب (الشرق الأوسط)
TT

لأول مرة... «المعلقات العشر» باللغة الكورية

ندوة ثقافية في «معرض سيول الدولي للكتاب» عن ترجمة كتاب «المعلقات لجيل الألفية» الذي يتضمن المعلقات العشر إلى اللغة الكورية لأول مرة في تاريخ الأدب العربي. وفي الإطار غلاف الكتاب (الشرق الأوسط)
ندوة ثقافية في «معرض سيول الدولي للكتاب» عن ترجمة كتاب «المعلقات لجيل الألفية» الذي يتضمن المعلقات العشر إلى اللغة الكورية لأول مرة في تاريخ الأدب العربي. وفي الإطار غلاف الكتاب (الشرق الأوسط)

ترجم مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء)، كتاب «المعلقات لجيل الألفية» الذي يتضمن المعلقات العشر، إلى اللغة الكورية لأول مرة في تاريخ الأدب العربي، بالشراكة مع هيئة الأدب والنشر والترجمة.

وفي ندوة ثقافية حوارية أُقيمت في «معرض سيول الدولي للكتاب» نظمتها «هيئة الأدب والنشر والترجمة»، تحدث المشاركون عن أهمية ترجمة هذا الكتاب، كما استعرضوا تاريخ المعلقات ومراحل ترجمتها إلى اللغة الكورية، ومدى تأثير ذلك على التاريخين العربي والكوري.

وأدار الشاعر السعودي محمد العتيق، الندوة التي شارك فيها كل من الدكتور كيم جونغ دو (موسى)، مدير معهد الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعة كوريا، والدكتور كيم نييونغ وُو، المحاضر في اللغة العربية والأدب العربي، قسم اللغات والحضارات الآسيوية، جامعة سيول القومية.

جانب من الندوة التي شهدها «معرض سيول الدولي للكتاب» عن ترجمة كتاب «المعلقات لجيل الألفية» إلى اللغة الكورية وشارك فيها خبيران كوريان في الدراسات الإسلامية والعربية ونظمتها «هيئة الأدب والنشر والترجمة» (الشرق الأوسط)

وأشار المشاركون إلى قيمة المعلقات لكونها من الأعمال الأدبية الإنسانية العالمية وخصائصها الفنية، وقدّم الدكتور كيم نييونغ وُو، المتخصص في دراسة القصيدة العربية، لمحة عن المعلقات وعلاقتها الأزلية بالتاريخ العربي.

كما تناولت الندوة العديد من المواضيع ذات صلة بالمعلقات، حيث أوضح المتحدثون كيفية جمعها والخصائص العامة لها كالشكل، والموضوع، والمضمون ومكانتها وأهميتها ومدى تأثيرها على الشعوب الأخرى.

ولفت كيم نييونغ وُو، إلى أن القصيدة الجاهلية بما فيها المعلقات جسّدت شكل الحياة وأوضاعها في ذلك العصر، منوهاً إلى أن العمل الأدبي بصفته نتاج عصرٍ ما ينقل لنا في طياته أحوال ذلك العصر؛ لذا تمت ترجمة المعلقات العشرة لأول مرة باللغة الكورية، فثمة مقولة شائعة ترى أن «الشعر ديوان العرب»، ويعني هذا أن الشعر العربي يحفظ الثقافة والتاريخ العربي. ومما يبدو جلياً أن الشعر الجاهلي يحتفظ بالتقاليد والأعراف والأفكار المميزة لذلك العصر، بحسب كيم نييونغ وُو.

تأملات لغوية

وفي موازاةٍ لذلك، تطّرق المشاركون إلى التأملات التي تمتاز بها المعلقات وسلامة لغتها العربية من حيث الألفاظ والمعاني والشكل أيضاً، وما تنقله من شغف العرب المطلق بالحياة؛ وهذا ما يجعلها مصدراً أساسياً لا غنى عنه للباحث في الأدب الإنساني العالمي، وضمن أبرز ما تم بحثه اختيار عنوان «المعلقات لجيل الألفية» للكتاب، وهذا يعني أن «إثراء» يستهدف جيل الشباب الذين سيقودون المستقبل في أنحاء العالم. لا سيما أن فريق الترجمة بذل جهداً في نقل الأعمال الشعرية بأعلى درجة من الدقة وتقديم الشروح الواضحة، ليتمكن القرّاء الكوريون من الشباب وغيرهم من فهم المعلقات فهماً جيّداً، وفقاً للمشاركين في الندوة.

قواعد الشعر الكوري

واختتمت الندوة بالحديث عن قراءة جيل الألفية للنص العربي خلال مرحلة ترجمة المعلقات إلى اللغة الكورية، عبر الالتزام بقواعد الشعر الكوري القائم على المقاطع الصوتية في الشطر الواحد لإضفاء الإيقاع الموسيقي على النص، إلى جانب استخدام تعابير واضحة في الوقت الذي تمت الاستعانة بالشاعر الكوري سو هيو - إين لمراجعة المعلقات العشر المترجمة؛ لضمان سلاسة النص وشعريته؛ بهدف إعداد النص للقراءة.

كما تمت الإشارة مع ترجمة كل معلقة إلى تفاصيل عن حياة الشاعر وتحليل للنص وإضافة بعض التفاصيل الأساسية في الهوامش لتساعد القارئ على فهم المعلقات فهماً صحيحاً.