حلم مرآة بورخيس

قصائد

بورخيس
بورخيس
TT

حلم مرآة بورخيس

بورخيس
بورخيس

تذكار من ثلاث مدن

ولدتُ في مدينة الماء، غير أن ماءها كان يعكس ثلاث مدن، لاحت لي كخطوط غامضة في مرآة القادم من الأيام. كانت الأولى، ما إن يتحرك الناس فيها، حتى يتحولوا إلى أعمدة ملح. والثانية كانت مضماراً لسباق الريح والرمل، والثالثة أغرتني بأضوائها، لكن ما إن وصلتها حتى تبين لي أنّ ما بدا ضوءاً لم يكن سوى لمع سراب. في قلبي يترسب الآن: الملح والرمل والسراب، تذكاراً من تلك المدن التي عرفتها.

مشاهد عنف

ما إن يضع رأسه على الوسادة حتى تبدأ الكرة الأرضية بالدوران! إنها تدور في رأسه، مثل ماكينة عرضِ أفلام تكرّر عرض الفيلم نفسه كلّ ليلة، الفيلم المزدحم بمشاهد العنف، القتل، الحوادث بكل أنواعها، كذلك الكوارث الطبيعية. كل ليلة وحين يتعب من مشاهدة فيلمه المعتاد الذي يُعرض قسراً أمام عينيه حتى لو كانتا مغمضتين، يقترح فيلمه الخاص، فيلم بطلهُ نهر مديد يصل القطب بالقطب، نهر يجري بتؤدة تحت شمس نهار طيّب، وعلى ضفتيه ترتع كائنات الله، ساذجةً، مطمئنة، وقد بدا أنْ لا عهد لها بمشاهد العنف حتى كذكريات. يفكّر، علّهُ بفيلم النهر هذا يمحو ما اعتادت عيناه رؤيته من مشاهد تغلب عليها بصمة الدم، ولا شيء سوى ذلك.

جسور

الطائرات التي ظلت تقصف البلاد لأكثر من خمس وأربعين ليلة، كانت تقصف الجسور بشكل مضاعف. ما مِن جسر في مدينة أو حتى قنطرة بسيطة أُقيمت من جذوع النخيل في قرية نائية إلّا وقد قُصفا. لم تكن الجسور تلك من الإسمنت المسلح، أو سواه، فقط، بل ثمة الجسور غير المرئية، هي ما تهدّم وتشظّى. الجسور التي تصل الناس بماضي بلادهم. كانت البلاد على الضفة الثانية البعيدة، تنأى، ولم يكن أهل تلك البلاد قادرين على مغادرة الضفة اليتيمة التي وجدوا أنفسهم فيها، كما لم يكونوا قادرين على التقدم لبلوغ الضفة الأُخرى التي بقيت فيها البلاد وحيدة. مكان تلك الجسور نبَتَ جدار غامض طويل مثل سور، يحمل صوراً غريبة، باهتة بالأبيض والأسود. جدار ارتفع بمقدار جباه أهل تلك البلاد، فصاروا يرتطمون به، قافلين، وقد ارتضوا أن يكون ذلك الجدار شقيقهم وشريكهم في البلاد التي ما عادوا يتعرفون عليها، ولا عادت هي تتعرف إلى أحد منهم.

حلم مرآة بورخيس

جاءني من مدينة بعيدة، يعرض عليّ مرآةً للبيع.

مرآة، قال إنها لا تعكس من يقف أمامها!

قلتُ وما فائدتها؟

قال لا يهم، حسبها أن لها شكل المرآة، وقد تنفع كتعويذة ضد الزمن.

لفتَ انتباهي أنه عمد إلى تعريف «المرآة»، فلم يقلها نكرةً، كأنه بذلك يريد إطلاقيتها.

وفيما هو يحدثني فكّرتُ أن أكتب هذه الثيمة، غير أني استبعدتُ ذلك، لأنها ثيمة بورخِسية بامتياز.

مساحة

طُردتُ من غابة، وطردت من ضفة نهر، وطردت من جبل. في الأولى قال صاحب الغابة، لكَ أن تعبر لا أن تقيم. وفي الثانية طاردتني الشرطة، لأنني أقمتُ خيمتي دون ترخيص. وفي الثالثة هاجمني نَسر، خوفاً على صغاره وأنثاه، ظناً منه أنني أحد الغزاة! كل ما على هذه الأرض من زينة، لا يعنيني. لستُ طامعاً بشيء، ولم أكن أبغي سوى مساحة بقدر صفحات معدودة لكتاب، كي أوطّد عزلتي. فليكن قلبي هو الغابة، وضفة النهر، والجبل، والفضاء الذي عبره أرفع صلاتي. إنني ألوذ بقلبي!


مقالات ذات صلة

سيّدتا الحجر تحافظان على سرّ هويتهما الفنية

ثقافة وفنون تمثالان من متحف البحرين الوطني بالمنامة (مقبرة الحجر الأثرية)

سيّدتا الحجر تحافظان على سرّ هويتهما الفنية

كشف أثري بمقبرة في بلدة بالبحرين، تم العثور فيها على تمثالين أنثويين في مدفن فارغ من أي عظام بشرية، ويتميّزان بأسلوب فني فريد من نوعه.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «أمشي ويصل غيري»... سامح محجوب يستعيد جماليات قصيدة التفعيلة

«أمشي ويصل غيري»... سامح محجوب يستعيد جماليات قصيدة التفعيلة

ديوان جديد للشاعر المصري سامح محجوب يستعيد من خلال أجوائه جماليات قصيدة التفعيلة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة

دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة

صدر حديثاً عن «دار غيداء للنشر والتوزيع» في عمان بالأردن كتاب «قصيدة النثر العابرة دراسة في مطولات منصف الوهايبي وقصائد أخر» للدكتورة نادية هناوي.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون «كباب» لأمل دنقل وتوضيح من نزار قباني وغزليات لميعة عمارة

«كباب» لأمل دنقل وتوضيح من نزار قباني وغزليات لميعة عمارة

عن دار «سطور» للنشر والتوزيع في بغداد، صدر مؤخراً كتاب جديد للكاتب والإعلامي السعودي محمد رضا نصر الله، بعنوان: «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع».

ميرزا الخويلدي (الدمام)
ثقافة وفنون تركي آل الشيخ

«تشيللو» تلهم آل الشيخ فكرة مشروع «جائزة القلم الذهبي»

شهد شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1994 حدثاً مهماً ذا صلة بالسيرة الإبداعية لكاتب الرعب والإثارة الأميركي الشهير ستيفن كِينغ.

د. مبارك الخالدي

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر
TT

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

«المغفلون»... رواية فرنسية عن قسوة الخذلان وهوان المشاعر

عن دار «العربي» للنشر في القاهرة، صدرت طبعة جديدة من رواية «المغفلون» للكاتب الفرنسي إريك نويوف، ترجمة لطفي السيد منصور. ويشير المترجم في تقديمه لها إلى أنه في أحد حوارات ميلان كونديرا الذي يعدِّد فيه أشكال الرواية في القرن الثامن عشر، أكد أن «رواية الرسائل»، التي تعتمد في بنيتها على الرسالة، أتاحت حرية شكلية كبيرة للغاية لأن الرسالة يمكنها استيعاب كل شيء بشكل طبيعي جداً مثل التأملات والاعترافات والذكريات والتحليلات السياسية والأدبية. ويعتقد المترجم أنه من أجل هذه الحرية واستيعاب موجة غضب الراوي الذي سُرقت منه حبيبته وذاكرته الغاضبة المرتبكة، اختار المؤلف شكل الرسالة ليبني عليها معمار روايته.

وتعد الرواية رسالة طويلة يوجهها بطلها الراوي الشاب ذو الأعوام الثلاثين ويعمل في وكالة للدعاية والإعلان، إلى الرجل الذي سرق حبيبته المثيرة والمتقلبة «مود» والذي قابله في أثناء قضاء الأخير عطلة في جزيرة قبالة مدينة روما. في البداية لم يكشف الرجل عن هويته الحقيقية لكن فيما بعد اكتشف أنه سيباستيان بروكينجر (كاتب أمريكي شهير، منسحب من الحياة العامة و قرر الاختفاء من العالم والإقامة في غابة ليعيش حياة وديعة بعيدة عن صخب الشهرة).

تبدو القصة العامة هنا مجرد حيلة فنية استخدمها المؤلف ليطرح وجهة نظره وتساؤلاته حول العالم وهل نعيش عصراً يتآمر علينا، وكيف أصبحت الحياة بمثابة شريط لا نمثل فيه سوى لقطة مما لا يمكّننا ولا يمكّن الآخرين من التأمل فيها وفهمها. والرواية إجمالاً قصيرة، كُتبت برشاقة وتكثيف، تتخللها أقوال مأثورة فاتنة ومخيِّبة للآمال، كما تختلط فيها المشاعر باللامبالاة، في إيقاع سردي لاهث حاد اللهجة، يتسم أحياناً بالتشنج والعصبية؛ فتأتي الأحداث في غير ترتيبها ولكن حسب صعود وهبوط الحالة النفسية للراوي وذاكرته وما يتوارد إليها.

نجح الكاتب في اختيار وظائف شخصياته؛ فالحبيب يعمل في الدعاية والإعلان، تلك المهنة التي تعرض كل شيء وتبيع كل شيء حتى الشيء وضده، وتُقنعك بأن تشتري ما لا تحتاج إليه. والحبيبة التي سُرقت منه تعمل في تسويق العقارات، وهو مجال مشابه يقوم على مبدأ البيع بأي طريقة. أما الكاتب الأمريكي الغني، فقد استطاع بحكم مهنته أن يبهر «مود» بماله وممتلكاته وهالته الملغزة، هو أيضاً يستلهم مهنة البيع أو التسويق حتى يُغري الفتاة بشراء رجل عجوز وترك شاب ثلاثيني.

وإريك نويوف، كاتب وصحفي فرنسي وُلد 1956، بدأ مشواره الأدبي 1980 وكتب نحو 20 عملاً أدبياً منها هذه الرواية التي نُشرت للمرة الأولى في 2001 و فازت بالجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«عندما أفكر ثانيةً في مود أتذكر شارع ميزيير، أرى سيارتها الصغيرة في جراج السكان بملصقها الأصفر على الزجاج الأمامي وساعتها التي كانت تؤخِّرها ساعةً كل صيف. أفكر في الأطفال الذين لم نلدهم والذين كانوا سيلعبون في حديقة لوكسمبورغ القريبة جداً. مود، لو سمحتِ توقفي عن النظر من فوق كتف سيباستيان، أعرفك... اتركينا لو سمحتِ، نحن في جلسة تقتصر على الرجال فقط. سيحكي لكِ سيباستيان كل هذا بالتفصيل بمجرد الانتهاء منها. قلْ لها يا سيباستيان، فلتذهبي لتُنزِّهي الكلب العجوز الذي ينام عند قدميكِ وأنتِ تكتبين على الآلة الكاتبة.

أعرف أنكَ ولدتَ يا عزيزي عام 1929، شيء من هذا القبيل. تلاعبت بكل سجلاتك في مدرسة الليسيه التي كنت ترتادها. رفض المدير أن يزوِّدنا بأي معلومات تخصك، سجلك العسكري أيضاً يتعذر الوصول إليه على نحو غامض. احترق المكتب الذي كان يحويه، لم يعد هناك أي أثر لملفك الجامعي. نشرت أولى قصصك في صحيفة الطلبة، فيما كنت بالكاد في العشرين من العمر، قصة عن الانتحار وعن سمك القراميط. في فترة ما كنت تعمل على مركب يُبحر في عرض الكاريبي، كانت الكبائن ممتلئة بالمتقاعدين الذين يرتدون شورتات قصيرة ولا يغادر نصفهم حافة المرسى. كان من المفترض أن تكون المرشد الخاص بهم، هناك لغز ما في ذلك في رأيي، من الواضح جداً أنك تمسكت بهذه الوظيفة لتحقق بسببها نتائج جيدة في سيرتك الذاتية».