شخصية يوسف في مرايا الأدب والفن

قصته الحافلة بالرموز صارت من أغزر مناجم الإلهام عبر التاريخ

قمصان يوسف الثلاثة هي مرايا روحه المتلألئة في قاع البئر (أدوبي ستوك)
قمصان يوسف الثلاثة هي مرايا روحه المتلألئة في قاع البئر (أدوبي ستوك)
TT

شخصية يوسف في مرايا الأدب والفن

قمصان يوسف الثلاثة هي مرايا روحه المتلألئة في قاع البئر (أدوبي ستوك)
قمصان يوسف الثلاثة هي مرايا روحه المتلألئة في قاع البئر (أدوبي ستوك)

ليس من الغرابة في شيء أن تحظى قصة يوسف، بشقيها القرآني والتوراتي بقدر غير مسبوق من اهتمام الشعراء والمبدعين. ففي هذه الشخصية الدراماتيكية ما ينتزع إعجاب البشر جميعاً ويضعهم في حالة من التماهي مع يوسف، وهو يدافع عن جماله في غياهب الآبار والسجون، وهو ما يوفر للكتاب والفنانين الاستعارات اللازمة لصناعة الإبداع. كما أن الثنائي المكون من يوسف وزليخة بات واحداً من أكثر الثنائيات العاشقة شهرة في التاريخ، ولم يقتصر الاهتمام به على النخب المثقفة وحدها، بل اتسع تأثيره ليشمل الطبقات والشرائح الاجتماعية التي عملت على إخراجه من خانته الدينية والتاريخية إلى خانة الأسطورة والسحر والتخييل الجمعي.

توزع الاهتمام بقصة يوسف بين الشعر والرواية والسينما والمسرح وفنون التشكيل، وتعددت قراءاتها التأويلية بتعدد مستلهِميها الكثر من الأدباء والفنانين. ولعل ما سهّل مهمتهم هو الطبيعة المركبة غير النمطية لشخصية يوسف وسيرته الحافلة بالأحداث. فالرموز المتصلة بها كالأحلام والقمصان والجمال المكْلف وتآمر الإخوة والذئب والدم والبئر والسجن وعمى يعقوب وإبصاره والبقرات والسنابل، كانت كافية بمفردها لشحذ المخيلات بكل ما يلزمها من قوة الإلهام.

ما كُتب عن يوسف لا يمكن أن تحيط به مقالة واحدة، بل يحتاج توثيقه إلى العديد من المؤلفات، إلا أن ذلك لا يمنع من التوقف عند بعض الأعمال الإبداعية التي استلهمت تلك الشخصية الفريدة، التي تحولت ساحة رمزية لصراع النفس البشرية مع ذاتها ومع الآخرين. اكتفى الشعراء التقليديون بنظم القصة كما وردت في المصادر. بينما آخرون أخذوا منها ما يلائم حالاتهم الخاصة وحولوها قناعاً يتوارون خلفه، في حين جهد الشعراء المداحون في إسقاط الجمال اليوسفي على ممدوحيهم من الخلفاء والولاة.

وإذا كان بعض الشعراء والباحثين ركزوا على قميص واحد من قمصان يوسف، فثمة من انتبه بالمقابل إلى القمصان الثلاثة التي عكست على المستوى الدلالي ما اختبره النبي الوسيم من مشقات، وما حصده من مكافآت. ومن بين هؤلاء سراج الدين بن عمر الأنصاري، الذي يتحدث عن القمصان الثلاثة مطلقاً على الأول الذي صُبغ بدم كاذب اسم «قميص العلامة»، وعلى الثاني الذي مزقته زليخة من الخلف «قميص الشهادة» وعلى الثالث الذي أعاد ليعقوب ضوء عينيه اسم «قميص البشارة».

وحيث انعكس القميص الأول الذي حمله إخوة يوسف لأبيهم في الكثير من النصوص الشعرية والنثرية، فقد توقف البعض عند حزن يعقوب، والبعض الآخر عند براءة الذئب التي سارتْ مسرى الأمثال، وبعضهم الثالث عند الدم الكاذب، والرابع عند غدر الإخوة، والخامس عند غيابة البئر وقسوة الانتظار وبطء الزمن الخلاصي. وقد يكون الشاعر العباسي أبو الشيص أحد أطرف الذين استلهموا القميص الأول ليعبّر عن ارتياب زوجته حين جاءها باكياً بما يخفيه خلف دموعه من ذنوب، فكتب على لسانها:

أتكذبُ في البكاء وأنتَ خلْوٌ قديماً ما جسرتَ على الذنوبِ

جفونكَ والدموعُ تجول فيها وقلبكَ ليس بالقلب الكئيبِ

نظير قميص يوسفَ يوم جاءوا على لبّاتهِ بدمٍ كذوبِ

أما محمود درويش، فقد جعل من جمال يوسف وتآمر إخوته عليه متهمين الذئب بافتراسه وإلقائه في قاع البئر، القناع الذي اختفى وراءه لإلباس الحدث التاريخي لبوس بلاده فلسطين المعلقة على صليب الاحتلال، وكذلك الإشارة إلى معاناته الشخصية مع الشعراء الغيورين الأقل موهبة:

«إخوتي لا يحبونني

لا يريدونني بينهم يا أبي

يريدونني أن أموت لكي يمدحوني

الفراشاتُ حطت على كتفيّ

ومالت عليّ السنابلُ

والطير حطت على راحتيّ

فماذا فعلتُ أنا يا أبي؟ ولماذا أنا؟

أنت سميتَني يوسفاً

وهمُ أوقعونيَ في الجبّ واتهموا الذئبَ

والذئبُ أرحم من إخوتي»

كما كانت للقميص الثاني حصة وافرة من نصوص الشعراء والكتاب الذين واجهوا محناً مماثلة وتعرّضوا لما تعرّض له يوسف من قسوة الظلم والتجني. وفي ذلك يقول العباس بن الأحنف متحدثاً عن مكيدة نصبتها له إحدى المفتونات بوسامته:

وقد زعمتْ يمْنٌ بأني أردتُها على نفسها تباًّ لذلك من فِعْلِ

سلوا عن قميصي مثل شاهدِ يوسفٍ فإنّ قميصي لم يكن قُدَّ من قُبْلِ

وقد لقيت عبارة «هيت لك» التي توجهت بها زليخة إلى يوسف، وتعني أنها هيأت له نفسها صدى واسعاً لدى العامة والخاصة. ولم يقْتصر استخدامها على المواقف العاطفية، بل تم توظيفها في مجالات ومواقف سياسية مغايرة، كما فعل الشاعر الأندلسي ابن اللبانة، الذي عمد إلى مخاطبة ممدوحه بالقول:

تُراودكَ الدنيا إلى ذات نفسها فلا دولةٌ إلا تناديكَ: هيتَ لكْ

ولم يكفِ القميص نفسه عن رفد الشعراء بالكثير من الصور والإيحاءات والتشابيه الاستعارية، فقد حرص أحمد شوقي في قصيدته «مُضناك جفاه مرقده» التي حوّلها محمد عبد الوهاب أغنية ذائعة الصيت على أن يستحضر من خلال يوسف الجمال الخلاب للمعشوق، مقروناً بتأثيره الدامي على الواقعين في شرك فتنته، قائلاً:

الحسْنُ حلفتُ بيوسفهِ و«السورةِ» أنك مفردُهُ

إذ ودَّتْ كلُّ مقطِّعةٍ يدَها لو تُبْعثُ تشهدهُ

وتفاعلت مع قصة يوسف وزليخة ثقافات أخرى. لعل ذروتها ذلك الذي شهده الأدب والفن الفارسيان في العصور الوسطى، حيث قارب الشاعر الفارسي عبد الرحمن الجامي قصة يوسف وزليخة من منظور صوفي، يتخفف فيه العشق من جسمانيته المحدودة، ليصبح ضرباً من العشق الإلهي، وتوقاً غير محدود للانصهار بالجمال المطلق:

«في تلك الخلوة التي لم يكن بها على الوجود أمارة

حيث الوجود المنزه عن صورة الثنائية،

المتعالي عن قولة أنا وأنت

جمال مطلق من قيد المظاهر

لا تتجلى ذاته إلا لذاته»

وتفاعل الشاعر الألماني غوته على نحو خاص مع قصة «يوسف وزليخة» مستلهماً مناخاتها العشقية الصوفية. وفي كتابه «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» لا يكتفي غوته بإطلاق اسم زليخة على معشوقته مريانه فيلمر، بل يتخذ لنفسه اسم حاتم تيمناً بحاتم الطائي، مفرداً لها قصيدة مطولة يقول فيها:

«لمّا كنتِ الآن تسمين زليخة

فأنا كذلك ينبغي أن أحمل اسماً

فحين تناجين حبيبك ليكن حاتم هو اسمه

كي يعرفني الناس به

أيمكن يا حبيبتي أن ألاطفك

وأصغي إلى صوتك الإلهي؟

فالوردة تبدو دائماً مستحيلة»

وفي عمل مميز تحتفظ به جامعة أكسفورد، عمد أحد الفنانين الإيرانيين إلى الجمع في لوحة واحدة بين التوشية الزخرفية والشعر، كما بين الرؤية القرآنية للقصة وبين الأساطير المشرقية المتعلقة بالحب والخصب. وقد كتب على حواشي لوحته «كانت زليخة تُظهر شوقها إليه، لكن يوسف الذي كان ينظر إلى نفسه، رأى وجهه معها على فراش من الديباج والحرير، وقد عانق كلٌّ منهما الآخر، فصرف نفسه عن ذاك المشهد وولى وجهه نحو موضع آخر. وإذ بدأت تتأوه وتبكي، ونزل الدمع من عينيها وبات قلبها أمطاراً من الدم، خاطبته قائلة: يا أيها العنيد، حقِّق لي أملي بوصالك. أنا متعطشة إليك يا ماء الحياة. أنا قتيلتك وأنت الروح الخالدة».

أما القميص الثالث الذي دعي بقميص البشارة، فقد كان بدوره مصدراً لإلهام العديد من الشعراء والفنانين، وفي طليعتهم أبو الطيب المتنبي الذي رأى في إحدى مدائحه لكافور بأن الأخير يحتفي بسؤال قاصده وطالب هباته، احتفاء يعقوب بقميص ابنه يوسف، ويقول في ذلك:

يدبّرُ الملْكَ من مصرٍ إلى عدنٍ إلى العراق فأرض الروم فالنّوُب

كأن كلَّ سؤالٍ في مسامعهِ قميصُ يوسفَ في عينيّ يعقوبِ

ولعل أفضل ما أختتم به هذه المقالة ما أورده جلال الدين الرومي حول جمال يوسف الخارج من مكابداته بكامل بهائه النوراني. ففي قصته الرمزية «يوسف الصدّيق وضيفه الصديق» يروي صاحب «المثنوي» أن أحد المفتونين بجمال يوسف قدِم من بلاد بعيدة لرؤيته من كثب. «وإذ خاطبه الأخير قائلاً: كأني بك قادم وأنت فارغ اليد بعد رحلتك الشاقة تلك، أجابه الضيف: وكيف أحمل الذهب إلى المنجم والتمر إلى هَجَر واللؤلؤ إلى بحر عُمان؟ إنني وقد أعياني العثور على الهدية الجديرة بمقامك، أحضرت إليك مرآةً لترى فيها وجهك الجميل، لتذكرني كلما رأيتَ وجهك، أنا الذي أهديتُ إليك أنوارك وقدّمت لك محاسنك».


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟