تسعى المفكرة الفرنسية كارول تالون هيغون Carole Talon-Hugon، في كتابها: «الفنان في رداء الباحث» (المنشورات الجامعية الفرنسية، باريس، 2022)، إلى أن تجيب عن سؤال طالما أثار جدلاً في التحليلات النظرية بصدد الفن المعاصر، مفاده: هل يكفي الانتقال من بداهة «الموهبة» إلى العمل البحثي المتصل بالتاريخ والأنثروبولوجيا، وأحياناً بالفيزياء والبرمجة الرقمية، لتفسير سيرورة الفن المعاصر، واستيعاب مسعاه إلى محو الحدود بين الحسي والخيالي والحقيقي والزائف، والمعرفي والآيديولوجي؟ سؤال يُطوّر خلاصات عمل نقدي سابق لها، وهي المختصة في الجماليات والفلسفة المعاصرة، والأستاذة بجامعة السوربون، عنونته بـ«الفن تحت السيطرة» (2020)، حيث انتهت إلى اعتبار ما يُعرض اليوم في أروقة الفن المعاصر، من نيويورك إلى سيدني، ومن باريس إلى جنيف...، مقترحات بصرية تستدعي فعل «القراءة» أكثر من «المشاهدة»، اعتباراً لحجم مرفقاته من النصوص والمطبوعات، وبالنظر إلى تمركزه حول موضوعات فكرية وثقافية تضمر مواقف سياسية.
تختار الباحثة أن تسترسل في مواكبة تحولات المشهد الفني الأوروبي، في كتابها الراهن عن «الفنان في رداء الباحث»، وأن تبرهن بقدر غير يسير من الوضوح والسلاسة، عن فكرة الانسلاخ التدريجي لشخصية الفنان الغربي من هيئته الأصلية، المتسمة في غالبيتها بالاعتماد على ملكة الفعل الفني «الموهوب»، لأجل صياغة تحفة للعرض، عبر مسار دراسي يستهدف صقل موهبته وتطوير مهاراته؛ لينتقل إلى ممارسة تحاكي عمل الباحث في المعارف والعلوم الإنسانية والاجتماعية، سواء في اعتماده على تكوينات متعددة الاختصاصات، والاشتغال على موضوعات بمنهجية دقيقة، ثم التدرج في تطوير الأبحاث، لأجل الوصول إلى تمثُّل أفكار ومعتقدات ووقائع في أفق إعادة تركيبها ونقدها.
ولأجل تحصيل هذا المأرب الاستدلالي، تنطلق الباحثة الفرنسية من مسار نموذجي، على الأقل في السياق الأوربي، متمثل في عمل الطباخ والفنان والباحث الإسباني فران آندريا Ferran Adrià، صاحب سلسلة المطاعم العالمية الشهيرة: «إلبوللي (elbulli)»، الذي استطاع أن ينشئ مساحة جدل وتقاطع أخاذة ومثيرة للتأمل بين التجريب الطباخي والبحث في الأشكال والأساليب، وممارسة الرسم والتصميم. وقد اتسمت أعماله التي احتضنتها مراكز عالمية للفن المعاصر، بغير قليل من الدعائية المقترنة بصلب عقيدة تلك المؤسسات الفنية. إنما المتن الإشكالي للكتاب سينصب على صلب ممارسة عملية البحث في حقل الفنون المعاصرة وتحديداً الوثائقية قبل الانتهاء إلى مراجعة المفهوم المخاتل لـ«البحث» و«الباحث» في هذا النطاق، الذي كان مستبعداً من حدود العلم والمعارف العلمية، قبل أن ينتهي به المطاف إلى الارتباط بمرجعياتها وقواعدها ومراميها؛ لا سيما في العقدين الأخيرين من هذا القرن، الذي شهد تحولاً مطرداً لكليات الفنون وكلياتها ومدارسها، من تدريس قواعد الإبداع الأكاديمية في الرسم والصباغة والنحت، إلى مؤسسات تنشغل بالأبحاث في مضامين الفنون وأساليبها ووظائفها الاجتماعية والسياسية وارتباطها بالتداول العملي.
تقسم الباحثة كتابها إلى 4 فصول. تحدد في الأول الوضع الراهن لطبيعة الممارسة الإبداعية في حقول الفن المعاصر التي تتسم بالتعقيد في علاقتها بالرهانات البحثية ذات الطبيعة العلمية. وترسم في الفصل الثاني المسار التاريخي لهذا التحول الجوهري، بينما تبسط في الفصل الثالث ملامح الامتحان النقدي لمفهوم الباحث في حقل الفن، وإمكانية نهوض الفن بأدوار العلم، اعتماداً على ما تقدمه الفنون الوثائقية من مواد قابلة للتحليل. وتختم في الفصل الرابع استعراضها لمقومات هذا المسعى بالتوقف عند ما بات يكتسح المؤسسات الفنية من انشغال باستلهام النموذج الجامعي، سواء باعتماد كليات ومعاهد الفنون الجميلة نظام شهادات مشابهاً، يمنح الإجازة والماستر والدكتوراه، أو استحداث متاحف عريقة لبنيات بحث، أسمتها «مختبرات» على غرار ما نجد في الجامعات.
ولعل الفرضية الأساسية التي ينهض عليها مجمل مباحث كتاب كارول تالون هيغون الأخير تتمثل في كون الفنان أصبح باحثاً موثِّقاً، بقدر ما صار الفن المعاصر وثائقياً، يمكن تلمس ذلك في التدفق الهادر للأعمال المصورة للحروب والأوبئة والزلازل... وما ترتب عليها من موجات لجوء وهجرات جماعية بين جغرافيات الكون، من فلسطين إلى تركيا، ومن لبنان إلى كوسوفو... أي أن الأعمال الفنية باتت تسعى إلى الكشف عن حقائق، ومعرفة أصولها ودقتها، دون أن تفارق غايات ثلاث، تتمثل أولاها في الطموح العلمي بالنظر إلى صلة العمل الفني بخطابه، وما يستتبعه الأمر من إعادة تنظيم الصلة بين العلم والفن. وتبرز الثانية منافسة الغايات العلمية للغايات الفنية، بينما تجلي الثالثة المأرب السياسي، لهذا النحو من العمل البحثي في حضيرة الفن، عبر تقديم مقترحات بصرية تمثل شهادات على جرائم إبادة جماعية أوحروب أو كوارث طبيعية.
هكذا تشكّل أسئلة الحدود ما بين أرضية البحث الوثائقي وقواعده، وتشكيل مدونة بصرية مستوفاة لكل مقومات العمل الفني الانشغال المركزي للكتاب، سواء في الممارسة الإبداعية أو النظر النقدي، إذ بتعبير الباحثة «يتقدم اليوم، تيار بارز من الفن المعاصر، وعلى نقيض الشائع، بما هو مؤسسة معرفية...، إنه التيار الذي يصل بين الأعمال المؤثرة في العلوم الاجتماعية، والمواد وأنماط العمليات والمحصلات النهائية» (ص 71). حيث يمكن العثور على المواد الأرشيفية والمستندات والشهادات، في صلب منجزات الفيديو والتركيبات السمعية البصرية، والتنصيبات ولوحات الكولاج، بشكل متصاعد، حيث يسلط الكتاب الضوء على أعمال ماري كوسناي Marie Cosnay ، وإريك بودلير Eric Baudelaire ، وجوليان سيروسي Julien Seroussi ، وآخرين، ممّن تتحول لديهم الوثائق الشخصية لملتحقين بالحركات الجهادية في سوريا، وأرشيف محكمة العدل الدولية في لاهاي، وشهادات الناجين من حروب الإبادة (في رواندا والسودان) إلى منطلق للاشتغال البحثي، قبل أن تحتل مركز التأليف الفني.
ومما لا شك فيه أن النصوص الموازية لهذا النوع من الاشتغال البصري، بقدر ما تنصرف لكي تمثل جزءاً من طبيعة العرض الفني المعاصر، فإنها تمثل بوصفها، هامشاً على مسار البحث الذي عبره الفنان وحوله بالإضافة إلى مؤلف بصري، بخلفية جمالية وأدبية، إلى صاحب وجهة نظر تاريخية وأنثروبولوجية، وأحياناً سياسية واجتماعية. من هنا سنجد - حسب الكتاب - أن «المسافة التي بدت واسعة في الوهلة الأولى بين البحث في العلوم الاجتماعية والإنجاز الفني سرعان ما ستتقلص، لا سيما داخل الأجناس البصرية المسماة وثائقية» (ص 69)، من قبيل الفوتوغرافيا الوثائقية، الممارسة أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، والفيلم الوثائقي، والتحقيقات الصحفية وغيرها.
صحيح أن هذا الرهان على جعل الوثيقة الجاهزة، بما هي مادة مرجعية فقدت صلاحيتها في الاستعمال الوظيفي، تجلى بوصفه هدفاً رئيسياً من جملة أهداف الفنانين المعاصرين لتوسيع مساحة السؤال عن «معايير التمييز بين ما يمكن اعتباره بداهة (فناً)، وما ينبغي استثناؤه منه» (ص 120)، إلا أن العمل على ابتداع وضع مستجد للوثائق خارج سياق إنتاجها، ومحاولة إنتاج دلالات متعدية في نطاق العمل الفني المعاصر لها، جعلا السؤال الفكري والجمالي أكبر من الحسم في الحدود، ومعايير التقدير الفني، إلى الهدف من العمل الفني نفسه، الذي ينبغي بمعنى ما أن ينخرط في إعادة فهم الأسئلة الكبرى وتحليلها: أسئلة الهوية والذاكرة والهجرة والعنصرية...، على نحو مغاير لما درج عليه الباحث في العلوم الإنسانية، إنما بمعارف ومرجعيات لا تقل قيمة وكثافة منه.
ثمة في المحصلة قناعة غالبة، بأن الأشكال الفنية المعاصرة المتصلة بـ«الوثائقيات»، تجد تعريفاتها وفهمها على نحو مزدوج ولا يشكل أي عقبة في التصنيف، إذ تعكس قاعدة من قواعد اشتغال الفنان المعاصر، أي الوجود في مساحة الجدل و«البين - بين» الذي يؤسس رمزياً لاحتمالات أكثر خصوبة للمنجزات الفنية المعروضة في الأروقة الممتدة عبر عواصم العالم الغربي، أي أنه يشيّد قواعد مغايرة لما بعد العمل الفني، الذي يمكن بسهولة النظر إليه بوصفه، على حد تعبير صاحبة الكتاب: «فنياً إلى أبعد الحدود، وعلمياً أيضاً بالمقدار نفسه» (ص 56).