أحمد ولد إسلم: كتابة الخيال العلمي تقتضي السير على حافة شائكة

الكاتب الموريتاني يرى أن الإنتاج النثري في بلاده يوازي نظيره الشعري

الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم
الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم
TT

أحمد ولد إسلم: كتابة الخيال العلمي تقتضي السير على حافة شائكة

الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم
الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم

يطرح الكاتب والروائي الموريتاني أحمد ولد إسلم في روايته الأخيرة «البراني» أسئلة إشكالية تتعلق بالمستقبل الإنساني، يختبرها في سياقات عالمه المُتخيّل الذي تُسيطر عليه الرقمية وتتغوّل فيه الآلة. وقد حاز أحمد ولد إسلم أخيراً على جائزة «شنقيط للآداب والفنون» بموريتانيا، ومن أعماله رواية «حياة مثقوبة» ومجموعة «انتظار الماضي».

هنا حوار معه عبر الإنترنت حول روايته الجديدة، وملامح الحركة الأدبية الموريتانية، وعلاقتها بمحيطها الثقافي العربي...

* في روايتك الأخيرة «البراني» نلتقي بجزيرة وهمية، وروبوتات، وفيروسات آلية، ما التحديات التي واجهتها في بناء وتطوير هذا العالم الروائي؟

- التحدي الأكبر في الكتابة الخيالية العلمية هو الجمع بين المتناقضين، ما هو خيالي، وما هو علمي، وذلك يقتضي السير على حافة رفيعة وهشة تضمن تقديم ما لا يستحيل علمياً حدوثه، ولكنه لم يحدث بعد. وهذه هي المساحة التي تتسابق فيها العقول الأدبية بخيالاتها المجنحة، والعقول الهندسية بأعمالها التجريبية. وهذا السباق الدائم بتحويل الخيال الأدبي إلى منتجات هندسية أو توظيف المنتجات الهندسية العلمية في خلق خيال أكثر طموحاً، هو ما أنتج وسينتج كل التطور التقني الذي تشهده البشرية حالياً ومستقبلاً.

* أيضاً، يبدو عالمك السردي في «البراني» مُنقسماً بين حنين تراثي وإنساني، وآخر غارق في الاستهلاك والاصطناعية، حتى إنك طرحت فيها نبوءة بنهاية العالم... حدثنا عن تلك المسافة.

- في حياة كل منا، أقصد من عاش في المجتمعات العربية، حنين دفين للبساطة والعلاقات الاجتماعية المترابطة، وأحياناً البداوة لمن ينحدر من بيئة بدوية أو ريفية، فنرغب أن نبدأ يومنا برائحة خبز الفرن وكاسات الشاي في لمة عائلية، وأن نتبادل التحيات صباحاً، ونعرف أخبار الجيران، ونختم اليوم بجلسة العصر الجماعية، وكاسات الشاي أو بسمر عائلي يخوض في الذكريات. لكننا في الوقت نفسه، بحكم الواقع الذي نعيشه، نرغب أن نكون أكثر تطوراً، وأن تكون حياتنا أسرع وقعاً، ونتمنى أن تكون لدينا قدرات على مطّ الوقت لتحقيق الإنجازات الصغيرة اليومية الأكثر مما يسمح به وقتنا. ويفرض علينا الواقع أن نكون أكثر فردانية، وتغرينا الإعلانات بثقافة استهلاكية تجعل كثيراً منا ينفق ما لا يملك لشراء ما لا يحتاج فعلاً، على احتمال أنه قد يحتاجه يوماً ما.

هذا المشهد الذي يقرّ كلّ منا في قرارة نفسه بتناقضه هو ما يشكل الحياة، الحياة التي تحدث حقيقة في صراعاتنا بين ما نرغبه من استعادة نفسية للماضي، وما نطمح إليه من القفز ذهنياً إلى المستقبل. وهذا الصراع النفسي الدائم هو ما سلّطت رواية «البراني» الضوء عليه من زوايا مختلفة عبر شخصيات أبطالها اللاهثين بين قطبي هذه الثنائية، يخافون من خسارة الهدوء والسكينة، ويخشون فقدان السيطرة على مستقبلهم.

* هذا الحِسّ في التعامل مع تغوّل الذكاء الاصطناعي والرقمية يبدو له صدى «ديستوبي» في الرواية، هل يمكن فهم مدلول آخر لعنوان «البراني»، بمعنى النبذ واستبدال الإنسانية، أو بتعبيرك في الرواية «الزوائد البشرية»؟

- لا نكون متشائمين إن قلنا إن الواقع العربي الذي نعيشه ديستوبي بطبيعته، ولا يحتاج خيالاً لتصوّر عالم أكثر فساداً وانحداراً مما عليه الحال في عالمنا العربي. ما كشفته الرواية هو جزء من واقع نتجاهله، أو نجمله بإضفاء مسحة من المصطلحات كالعصرنة والرقمنة والتفاعل، نعوض بها نفسياً شعورنا العميق بخسارة أواصرنا الاجتماعية البشرية الحقيقية. ما سيحصل، وقد بدأ بالفعل، ليس إحلال الذكاء الاصطناعي محل البشر، بقدر ما هو إحلال أشخاص يجيدون التعامل مع الذكاء الاصطناعي ويحسنون توظيفه، أو يسيئونه، محل أشخاص لا يجيدون ذلك.

وبالتالي، فإن الخوف من تغوّل الذكاء الاصطناعي هو في الحقيقة خوف من تغوّل المسيطرين عليه، فالآلة في النهاية لا تعرف إلا ما أدخل إليها من إنتاج بشري خالص. وما وصفته الرواية بالزوائد البشرية سيكونون في وقت ما أولئك الذين يتوهمون أن المسيطرين على الذكاء الاصطناعي سيكونون أكثر رحمة بهم إذا انكفأوا على أنفسهم واكتفوا بدور المتفرج أو المستهلك.

* كيف تعاملت مع تعقيدات وأبعاد شخصية بطلك في «حياة مثقوبة»، خصوصاً مع تقييد حركته ومكانه؟ كيف وظّفت تقاطعات ذاكرة البطل كآلية سردية في الرواية؟

- بناء شخصية بطل رواية «حياة مثقوبة» كان أصعب تحدٍّ خضته مع نفسي في مجال الكتابة الإبداعية، فأن تخلق شخصية واضحة المعالم النفسية من غير تحديد مكان أو زمان حتى منحها اسماً تنادى به ليس بالأمر الهين. لكني أردت تقديم شخصية الإنسان المُجرد من كل دواعي التحيز، الإنسان العادي في أشد لحظات حياته ضعفاً وأكثرها صفاء، ولأن فقدان الذاكرة هو الخاتمة الحزينة للقصة كان الأمر مبرراً. فالإنسان في ماهية هويته ليس إلا ما يتذكر عن نفسه ومحيطه؛ فلولا معرفتنا أسماءنا ودوائر انتمائنا لما شكل أي منا هويته كما يراها. ونظرة الآخرين إلينا قائمة على ما تحتفظ به ذاكرتهم من معلومات عنا، ولذلك يمكن القول إن فقدان أي معلومة من الذاكرة هو فقدان لجزء من هوية ما، وهذا ما جعل خلق شخصية بطل «حياة مثقوبة» صعباً، لأنه يفقد في كل فصل جزءاً من هويته.

* علاقتك بالموسيقى تبدو أصيلة، ولا تخفى عمن يقرأ أعمالك، فتتوقف عند وصف مقام، أو مقطوعة، أو أصل تاريخي لنوع موسيقي، هل تتعامل معها بمنطق جمالي أو وظيفي داخل السرد؟

- نشأت في منطقة الحوض الشرقي في موريتانيا، وهي المنطقة التي شهدت قبل قرون نشأة الموسيقى التقليدية الموريتانية، خاصة ما يعزف منها على آلتي «التيدنيت وآردين» وهما الآلتان الخاصتان بالرجال والنساء، على التوالي، في الثقافة الموسيقية التقليدية. النشأة في بيئة كهذه تجعل علاقة أي فرد من المنطقة بالموسيقى علاقة انتماء واحتفاء وارتباط، ويعد أي فرد من المنطقة لا يعرف أساسيات الموسيقى التقليدية ومقاماتها ناقصاً معرفياً في التقييم المجتمعي، ولذلك وجدت توظيف الموسيقى في إطار سردي يكسر جمود النص في رواية «حياة مثقوبة»، ويفتح أفقاً للتعريف بالموروث الثقافي الموريتاني في رواية «البراني».

* تبدو علاقة موريتانيا بالشِعر وثيقة، فيما لا تزال الرواية الموريتانية تقطع خطوات وئيدة في المشهد العربي. هل تتفق مع هذا؟ ولماذا برأيك؟

- هذه «المُسلمة» بأن علاقة موريتانيا بالشعر أوثق من علاقتها بغيره تحتاج إعادة نظر، فهي عند تحليلها بشيء من التفصيل ليست أكثر من صورة نمطية، مثل أي صورة نمطية أخرى رسخها الإعلام والتداول الشعبي. فحين أطلقت مجلة «العربي» الكويتي لقب بلاد المليون شاعر على موريتانيا أواخر الستينات كان هناك احتفاء كبير من الموريتانيين بهذا اللقب، وهو احتفاء مبرر ومتفهم في سياقه التاريخي، فموريتانيا كانت حينها تخوض معركة سياسية وثقافية لإثبات انتمائها للفضاء العربي سياسياً، فلم تكن حينها قد انضمت إلى مؤسسة الجامعة العربية. واستمر لاحقاً الاحتفاء بهذا اللقب وما يعنيه من قيمة معنوية، لأنه يسهل على الموريتاني تقديم نفسه بكلمتين كانتا عنواناً في مجلة. لكن الواقع أن الإنتاج النثري في موريتانيا لا يقلّ عن الإنتاج الشعري، إن لم يربُ عليه. ومع تقلص مساحات البداوة وتمدد الفضاء الحضري أفقياً على امتداد البلاد الشاسعة تقلصت الحاجة إلى الشعر بوصفه حاملاً للثقافة الشفوية، وتعززت مكانة النثر مع انتشار الكتب المرتبطة بالمدنية بطبيعتها.

صحيح أن فنّ الرواية تأخر ظهوره بضعة عقود في موريتانيا عنه في المشرق العربي، لكن الأعمال الروائية الموريتانية التي ظهرت لاقت احتفاء ومكانة كبيرة، ومنها ما صنف ضمن الأعمال العربية الخالدة. ويكفي النظر إلى السنوات الأخيرة لنجد عدداً من الروايات الموريتانية ارتقت منصات تتويج عربية في السعودية، ومصر، وقطر، والإمارات، وربما صار روائيو موريتانيا أكثر شهرة من شعرائها.

* هل ترى أن الجوائز الأدبية ساهمت ولو قليلاً في كسر مركزية القراءة والنشر في العالم العربي؟

- هناك كثير مما يمكن قوله عن الجوائز الأدبية العربية فيما يتعلق بآلية اختيار الأعمال الفائزة وتسليع الأدب وتحويل الكاتب إلى منتج تحت الطلب، لكن لا يمكن إنكار أنها فعلاً فتحت آفاقاً جديدة لكتب ما كانت لتصل لولاها إلى القارئ، خاصة الكتب الواردة من دول الأطراف العربية بعيداً عن المركزية المشرقية.

* قطع الأدب في العالم مسافة طويلة مع الخيال العلمي منذ «فرانكشتاين» ماري شيلي إلى اليوم، برأيك إلى أي مدى واكب الأدب العربي فلسفة هذا النوع الأدبي؟

- لا أستطيع تقييم مدى مواكبة أدب الخيال العلمي في العالم العربي للتطورات، لكن لا شك أنه مجال مفتوح للإبداع وليس قريباً من الاكتفاء الذاتي عالمياً وأحرى عربياً. ربما هناك نقطة مؤثرة على الأديب العربي تجعل إنتاجه في مجال الخيال العلمي لا يحظى بالاحتفاء المناسب، وهي ضعف المناهج التعليمية وأدوات الإنتاج المرئي التي ساهمت في شهرة كثير من الأعمال غير العربية، وأوصلتها إلى مجال أرحب بتحويلها إلى أفلام أو مسلسلات، وهو أمر تفتقر إليه الكتب العربية الصادرة في هذا المجال.

* حصلت أخيراً على جائزة «شنقيط للآداب والفنون» التقديرية الموريتانية، ما صدى هذا التتويج لديك؟ وهل تكتب عملاً جديداً حالياً؟

- لا شك أن الحصول على جائزة الدولة التقديرية، وهي أرفع جائزة أدبية، في مرحلة مُبكرة من العمر، أمر يدعو إلى الفخر والتشجيع، ومن المؤكد أنه منح للعمل فرصة للوصول إلى القراء المهتمين بأدب الجوائز. كما أنه عرّف النخبة الثقافية بنمط من الأدب الموريتاني لم يحظَ بعد بإنتاج غزير، وهذا أيضاً أمر مهم. وحالياً، أعكف على كتابة رواية تستشرف آفاق عالمنا، وتسعى للتفوق على ما قدّمته «البراني»، وآمل أن تكون في المكتبات العربية قبل نهاية هذا العام.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.