فرسان جزيرة فيلكا الكويتية أشباح وأخمينيون

تختلف الآراء في تحديد مصدرهم الأصلي

فارسان من جزيرة فيلكا الكويتية يقابلهما فارسان من ناحية نفر العراقية
فارسان من جزيرة فيلكا الكويتية يقابلهما فارسان من ناحية نفر العراقية
TT

فرسان جزيرة فيلكا الكويتية أشباح وأخمينيون

فارسان من جزيرة فيلكا الكويتية يقابلهما فارسان من ناحية نفر العراقية
فارسان من جزيرة فيلكا الكويتية يقابلهما فارسان من ناحية نفر العراقية

كشفت أعمال التنقيب المستمرة في جزيرة فيلكا الكويتية عن مجموعة كبيرة من المجسّمات المصنوعة من الطين المحروق، تحوي ما يقارب 400 قطعة، وصل القسم الأكبر منها على شكل كسور مجتزأة. تعود هذه المجموعة إلى حقب مختلفة، كما تشهد تعددية أساليبها الفنية، فمنها ما يعود إلى عهد الإمبراطورية الفارسية الأولى التي تُعرف بالأخمينية، ومنها ما يعود إلى الحقبة الهلنستية التي تلتها، وهي الحقبة التي بدأت بعد وفاة الإسكندر الأكبر، وفيها انتشرت الثقافة اليونانية بشكل واسع. تنقسم هذه المجموعة إلى 5 مجموعات تصويرية، أكبرها مجموعة تُعرف بالمجموعة الأنثوية، ومجموعة تُعرف بمجموعة الفرسان.

لا نملك إلى يومنا هذا تصنيفاً جامعاً لهذه المجموعة الكبيرة من المجسمات الصلصالية التي خرجت من 4 مواقع في جنوب غربي الجزيرة التي تبرز في الركن الشمالي الغربي من الخليج العربي، وتبعد 20 كيلومتراً عن سواحل مدينة الكويت. تعود غالبية هذه القطع إلى موقعين من هذه المواقع الأربعة، وهما الموقع الشهير بـ«تل خزنة»، وفيه عُثر على ما يُقارب 280 قطعة خلال أعمال المسح التي قادتها بعثة فرنسية عام 1980، والموقع الشهير بـ«القلعة الهلنستية»، وفيه عُثر على ما يُقارب 150 قطعة خلال أعمال المسح التي أجرتها بعثة دنماركية في الستينات من القرن الماضي. نشرت كل من البعثتين تباعاً تقارير خاصة بمكتشفاتها، وتعمد البعثة الفرنسية الكويتية لآثار فيلكا في زمننا إلى إنجاز تصنيف يشمل كل هذه المجموعة التي دخلت منها ثلاثون قطعة إلى متحف الكويت الوطني، حيث تُعرض بشكل دائم.

تضمّ مجموعة فرسان فيلكا أكثر من أربعين قطعة مصدرها «تل خزنة»، وتنقسم إلى مجموعتين. تحوي المجموعة الأولى مجسمات على شكل أطياف آدمية وحيوانية من دون ملامح، وتُعرف بمجموعة «الفرسان الأشباح». وتحوي المجموعة الثانية أطيافاً مشابهة تتميز بحضور ملامحها وسماتها التصويرية، وتُعرف بمجموعة «الفرسان الفرثيين» نسبة إلى نموذج تصويري عابر للثقافات وللحدود الجغرافية انتشر بشكل واسع في زمن الإمبراطورية الفارسية الفرثية التي تُعرف عالمياً بالبارثية. تختزل هذا النموذج بشكل بديع قطعة محفوظة في متحف الكويت الوطني، عُرضت سنة 2005 في متحف الفنون الجميلة في مدينة ليون الفرنسية ضمن معرض تعريفي خاص بجزيرة فيلكا. يبلغ طول هذه القطعة 10.5 سنتيمتر، وعرضها 8 سنتيمترات، وقد وصلت بشكل غير كامل منها، إذ فقد القسم الأسفل منها، وهو القسم المتمثّل بقوائم الدابة وقدمي الفارس.

يتألف المجسم من كتلة طينية واحدة تخلو من أي فراغ، ويمثّل فارساً يمتطي دابة من الفصيلة الخيلية. يخلو بدن الدابة من أي تفاصيل تشريحية، ويتميّز رأسها بعينين كبيرتين تحضران كما جرت العادة على شكل حبيبتين ناتئتين، كما يتميّز بأنف طويل وبعُرف كثيف يعلو قمة الهامة على شكل قلنسوة بيضاوية. كذلك، يخلو جسد الفارس من أي مفاصل، ويحل على شكل مساحة بيضاوية طويلة، يعلوها رأس حُدّدت معالم وجهه بدقّة بالغة. العينان لوزيّتان واسعتان، يحدّ كلاً منهما هدبان ناتئان. يعلو هاتين العينين حاجبان عريضان منفصلان، تستقر بينهما قمة الأنف البارز. شفتا الفم ظاهرتان بشكل طفيف، مع شق واضح يرسم المسافة بينهما. الجبين عريض وأملس، والذقن قصير، وتحدّه لحية ترتسم كعقد يحيط بطرفي الوجنتين. يعلو هذا الرأس ما يشبه العمامة، وهي في الواقع قبعة تقليدية تُسمّى «كرباسية» وتتميّز بحنية في طرفها، تُشكّل خوذة الفارس الجالس على دابته بثبات تام يخلو من أي حركة.

تتكرّر هذه السمات على وجوه عدة وصلت بشكل منفصل ومستقل، أجملها فنيّاً قطعة محفوظة كذلك في متحف الكويت الوطني، يبلغ طولها 4.5 سنتيمتر، وعرضها 3.5 سنتيمتر. تحتلّ العينان اللوزيتان وسط الوجه، وتتميزان باتساعهما قياساً إلى أعضاء الوجه الأخرى. وسط هاتين العينين الهائلتين، يبدو الأنف الناتئ صغيراً ومنمنماً. تبرز الشفة السفلى من الفم الذي يرسم هنا ابتسامة خفية. يعتمر هذا الفارس القبعة التقليدية، وهي هنا «كرباسية» مروّسة، تعلوها حنية يرتدّ طرفها في اتجاه الجهة اليسرى. تماثل هذا الوجه وجوه صغيرة من فيلكا، منها وجه من الحجم نفسه فقد القسم الأسفل من ذقنه، ووجه مشابه عثرت عليه بعثة إيطالية، ووجه فقد قبّعته.

تعود القطع التي عُثر عليها في فيلكا إلى الفترة الممتدة من القرن الخامس إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وتشكّل امتداداً لنتاج بلاد ما بين النهرين في وجه خاص

تتبنّى هذه القطع نموذجاً تصويرياً انتشر كما أشرنا في زمن الدولة البارثية التي أسّسها أرساكيس الأول في بارثيا، شمال شرقي إيران، في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد. دخلت هذه الدولة عند نشوئها في صراع مع الدولة السلوقية الهلنستية، وانتزعت منها بلاد ما بين النهرين، وامتدت في أوجها من الروافد الشمالية للفرات إلى شرق إيران، قبل أن تضعف وتندثر في الربع الأول من القرن الثالث للميلاد. انتشرت صورة الفارس النموذجية في تلك الحقبة، بعدما تشكلت في عصر الإمبراطورية البابلية الحديثة، وتكوّنت في عصر الإمبراطورية السلوقية، كما تشهد القطع الأثرية التي تعود إلى هاتين الحقبتين، ومنها قطع عثرت عليها بعثة المعهد الشرقي التابع لجامعة شيكاغو أثناء عمليات المسح التي قامت بها في مدينة نيبور الأثرية التي تُعرف اليوم بنفر، وتقع في منطقة الفرات الأوسط، وتتبع قضاء عقك في محافظة القادسية.

تعود القطع التي عُثر عليها في فيلكا إلى الفترة الممتدة من القرن الخامس إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وتشكّل امتداداً لنتاج بلاد ما بين النهرين في وجه خاص، كما تشهد خصائصها الأسلوبية الفنيّة. يشبه فارس فيلكا في تكوينه فارساً من نفر يعود إلى الحقبة الإمبراطورية البابلية الحديثة، نقع على صورة له في تقرير نشره المعهد الشرقي التابع لجامعة شيكاغو في 1967. كذلك، يشبه رأس فارس فيلكا المستقلّ في ملامحه رأساً من نفر يعود إلى مطلع الحقبة الأخمينية، نقع على صورة له في تقرير نشره هذا المعهد في 1975.

تختلف الآراء في تحديد مصدر فرسان فيلكا الأصلي، إذ يرى البعض أنها دخلت الجزيرة من الخارج، ويرى البعض الآخر أنها نتاج محلّي يستلهم التقاليد الفنية التي اعتمدتها سائر قوات الإمبراطورية الأخمينية.


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

رؤوس ثيران برونزية من موقع مليحة في الشارقة

قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
TT

رؤوس ثيران برونزية من موقع مليحة في الشارقة

قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

يحتفظ مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة بمجموعة من اللقى البرونزية، منها مجسمات منمنمة تمثّل رأس ثور يتميّز بأنف طويل صيغ على شكل خرطوم. تعود هذه الرؤوس في الواقع إلى أوان شعائرية جنائزية، على ما تؤكّد المواقع الأثرية التي خرجت منها، وتتبع كما يبدو تقليداً فنياً محلياً ظهرت شواهده في موقع مليحة، كما في نواح أثرية أخرى تتّصل به في شكل وثيق.

يعرض مركز مليحة للآثار نموذجين من هذه الرؤوس، وصل أحدهما بشكل كامل، فيما فقد الآخر طرفي قرنيه. يتماثل هذان الرأسان بشكل كبير، ويتبنيان في تكوينهما أسلوباً تحويرياً مبتكراً، يجسّد طرازاً خاصاً لا نجد ما يماثله في أقاليم جنوب الجزيرة العربية المتعددة، حيث حضر الثور في سائر الميادين الفنية بشكل كبير على مر العصور، وتعدّدت أنواعه وقوالبه، وشكّلت نماذج ثابتة بلغت نواحي أخرى من جزيرة العرب الشاسعة. ظهر رأس الثور بشكل مستقل، وحضر في عدد كبير من الشواهد الأثرية، منها العاجي، والحجري، والبرونزي. تعدّدت وظائف هذه الرؤوس، كما تعدّدت أحجامها، فمنها الكبير، ومنها المتوسط، ومنها الصغير. وتُظهر الأبحاث أنها تعود إلى حقبة زمنية تمتد من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرون الميلادية الأولى.

في المقابل، يصعب تحديد تاريخ رؤوس ثيران مليحة، والأكيد أنها تعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الميلادي الأول، حسب كبار عملاء الآثار الذين واكبوا اكتشافها في تسعينات القرن الماضي. تتبنّى هذه الرؤوس قالباً جامعاً واحداً يتميّز بتكوينه المخروطي وبملامحه المحدّدة بشكل هندسي، وهي من الحجم المنمنم، ويبلغ طول كل منها نحو 5 سنتمترات. الأنف طويل، وهو أشبه بخرطوم تحدّ طرفه الناتئ فجوة دائرية فارغة. تزيّن هذا الأنف شبكة من الخطوط العمودية المستقيمة الغائرة نُقشت على القسم الأعلى منه. العينان دائريتان. تأخذ الحدقة شكل دائرة كبيرة تحوي دائرة أصغر حجماً تمثّل البؤبؤ، ويظهر في وسط هذا البؤبؤ ثقب دائري غائر. الأذنان مبسوطتان أفقياً، والقرنان مقوّسان وممدّدان عمودياً. أعلى الرأس مزيّن بشبكة من الزخارف التجريدية المحززة ترتسم حول الجبين وتمتدّ بين العينين وتبلغ حدود الأنف.

يشكّل هذا الرأس في الواقع فوهة لإناء، وتشكّل هذه الفوهة مصبّاً تخرج منه السوائل المحفوظة في هذا الإناء، والمثال الأشهر قطعة عُرضت ضمن معرض مخصّص لآثار الشارقة استضافته جامعة أتونوما في متحف مدريد الوطني للآثار خلال عام 2016. يعود هذا الإناء إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وقد وصل بشكل مهشّم، واستعاد شكله التكويني الأوّل بعد عملية ترميم طويلة ودقيقة. تتكوّن هذه القطعة الأثرية من وعاء صغير ثُبّت عند طرفه الأعلى مصبّ على شكل رأس ثور طوله 4.6 سنتمترات. عُرف هذا الطراز تحديداً في هذه الناحية من شمال شرق شبه الجزيرة العربية التي تقع في جنوب غرب قارة آسيا، وتطلّ على الشاطئ الجنوبي للخليج العربي.

عُثر على هذه الآنية إلى جانب أوان أخرى تتبع تقاليد فنية متعدّدة، في مقبرة من مقابر مليحة الأثرية التي تتبع اليوم إمارة الشارقة، كما عُثر على أوان مشابهة في مقابر أخرى تقع في المملكة الأثريّة المندثرة التي شكّلت مليحة في الماضي حاضرة من حواضرها. ظهر هذا النسق من الأواني الجنائزية في مدينة الدّور الأثرية التي تقع اليوم في إمارة أم القيوين، على مقربة من الطريق الحديث الذي يربط بين رأس الخيمة والشارقة، وهي على الأرجح مدينة عُمانا التي حضنت أهم ميناء في الخليج خلال القرن الأول الميلادي. كما ظهر في منطقة دبا التي تتبع إمارة الفجيرة، وفي مناطق أخرى تتبع في زمننا سلطنة عُمان، منها منطقة سلوت في ولاية بهلاء، في محافظة الداخلية، ومنطقة سمد في ولاية المضيبي، شمال المحافظة الشرقية.

اتّخذت فوهة هذه الأنية شكل رأس ثور في أغلب الأحيان، كما اتخذت في بعض الأحيان شكل صدر حصان. إلى جانب هذين الشكلين، ظهر السفنكس برأس آدمي وجسم بهيمي، في قطعة مصدرها منطقة سلوت. شكّلت هذه الأواني في الأصل جزءاً من آنية شعائرية طقسية، في زمن ازدهرت فيه التجارة مع عوالم الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط والهند. والمعروف أن أواني الشراب التي تنتهي بمصبات ذات أشكال حيوانية، برزت بشكل خاص في العالم الإيراني القديم، حيث شكّلت سمة مفضلة في الطقوس والولائم. افتتن اليونانيون باكراً بهذه الفنون وتأثّروا بها، كما شهد شيخ المؤرخين الإغريق، هيرودوت، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وعمدوا إلى صناعة أوان مشابهة مزجت بين تقاليدهم وتقاليد أعدائهم، كما تشهد مجموعة كبيرة من القطع الفنية الإرثية.

من ناحية أخرى، دخلت هذه التقاليد العالم الشرقي الواسع، وبلغت ساحل الخليج العربي، حيث ساهمت في ولادة تقاليد فنية جديدة حملت طابعاً محلياً خاصاً. تجلّى هذا الطابع في ميدان الفنون الجنائزية بنوع خاص، كما تظهر هذه المجموعة من الأواني التي خرجت كلها من مقابر جمعت بين تقاليد متعدّدة. استخدمت هذه الأواني في شعائر طقسية جنائزية خاصة بالتأكيد، غير أن معالم هذه الشعائر المأتمية تبقى غامضة في غياب أي نصوص كتابية خاصة بها.