المُؤلّف والمُحرر الأدبي... أيّهما يقطع أصابع الآخر؟!

اختلافات كبيرة ومؤلمة بين النشر في الدول المتطورة والنشر عندنا

همنغواي
همنغواي
TT

المُؤلّف والمُحرر الأدبي... أيّهما يقطع أصابع الآخر؟!

همنغواي
همنغواي

شاهدت، قبل مدة، الفيلم «The Banshees of Inisherin» الذي ترشّح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم قبل عامين، إلا أن حظه كان عاثراً. يحكي الفيلم قصة صديقين قديمين، قرر أحدهما قطع علاقته بالثاني فجأة ولسبب بسيط أنه يُشعره بالملل. طبعاً لم يقتنع الصديق الثاني بحجة قطع العلاقة، فأصبح يُصرّ على الأول أنهما صديقان، حتى انزعج الأول كثيراً من تصرفه اللحوح، فيقرر قطع إصبع من يده التي يعزف بها على آلة الكمان، في كل مرة يزعجه فيها صديقه السابق. حتى نهاية الفيلم نجد أن الأول نفّذ قراره وقطع كل أصابع يده بسبب هذا الصديق اللحوح والممل.

اخترت هذه القصة لتكون مدخلاً قصيراً لاستكشاف مجال التحرير الأدبي وعلاقته بفن التأليف، وهي علاقة أيضاً قديمة، لكن علينا أولاً أن نُلقي حجراً في بِركة المفاهيم، فعملية التحرير الأدبي شاملة ودقيقة تتجاوز تصحيح الأخطاء الأساسية، لتشمل بناء الجملة، والأسلوب، والتحسينات الهيكلية. وتهدف هذه العملية إلى مواءمة عمارة النص مع أثاثه وديكوره الداخلي، ولاحظوا أنني جعلت الأصل المضمون وليس الشكل، بما يضمن التماسك الأدبي والأسلوبي والمنطقي. ولنقف عند أهم عمودين يشكّلان دور المحرر الأدبي:

1. الطبيعة المعقدة للتحرير الأدبي، إذ يتميز التحرير الأدبي عن التدقيق اللغوي بعمقه، الذي لا يشمل تصحيح الأخطاء الأساسية فحسب، بل يشمل أيضاً تحسينات في بناء الجملة والأسلوب والصرف والمزيد. ويهدف هذا النهج الشامل إلى التأكد من أن شكل النص يتوافق مع محتواه، مما يعزز الأدبية والدقة الأسلوبية والتماسك المنطقي وسهولة القراءة.

2. التعاون التحريري، لتتضمن العملية غالباً جهداً تعاونياً بين المحرر والمؤلف. فبينما يقترح المحررون تغييرات جوهرية لتحسين جودة النص، يحتفظ المؤلفون بسلطة اتخاذ القرار النهائية، مما يعكس أهمية الحفاظ على صوت المؤلف ورؤيته طوال عملية التحرير. وهذا ما يؤكده ستيفن كينغ، في مذكراته «عن الكتابة»، من أهمية وجود محرر جيد في تحسين المخطوطة، ليذكر كينغ وآخرون، في كثير من الأحيان، الطبيعة التعاونية للعلاقة بين المؤلف والمحرر، مؤكدين كيف يساعد المحررون في توضيح وتكثيف رؤية المؤلف، بما يتماشى كثيراً مع النهج الشامل للتحرير الأدبي الذي ذكرته سابقاً.

وتمرّ عملة التحرير بمراحل عدة، سواء بعضها أو كلها، يمكن ترتيبها من الأثقل تحريراً إلى الأخف؛ منها:

1- التحرير المطور للكتاب «Developmental editing» (قد يُسمى أيضاً التحرير الهيكلي أو محرر المحتوى) - ينظر إلى الصورة الكبيرة للكتاب والهيكل العام في الكتب غير الخيالية أو الحبكة والشخصيات في الروايات. وقد يقوم المحررون التطويريون بتقييم فكرة الكتاب، المخطط، أو المسوَّدة المبكرة لإخبار الكتّاب بما يعمل وما يمكن أن يكون أفضل، فتكون الإجابة على الأسئلة الكبيرة أولاً قبل أن يضمن المحرر أن كلماتك مصقولة ومستخدمة بشكل صحيح.

2- التحرير السطري أو السردي «Line editing» (وقد يُسمى أيضاً التحرير الأسلوبي) لكونه يمر عبر كل سطر، معدلاً ترتيب الكلمات والعبارات لخلق جمل مُشكلة بشكل جيد وفقرات تنتقل بسلاسة. هذا يساعد الكتاب على أن يبدو بشكل جيد من خلال تلميع اللغة المستخدمة لنقل القصة.

3- التحرير اللغوي «Copy editing»، يصحح أخطاء القواعد والترقيم والإملاء. يشمل التحرير اللغوي أيضاً تصحيح الكلمات المتشابهة المُربكة (مثل تأثير وأثر)، بالإضافة إلى التحقق من الاتساق الداخلي للحقائق، والاتساق مع استخدام الأحرف الكبيرة، والوصل والفصل، والأرقام. تعرف أكثر على المحررين اللغويين. وملاحظة مهمة: أحياناً يقوم كلا التحرير اللغوي والتحرير السطري بالمهام نفسها.

4- تدقيق وفحص المعلومات «fact checking» فحص دقة المعلومات في كتابك، يمكن للمحررين التطويريين واللغويين المساعدة في هذا الأمر، لكن في نهاية المطاف، ليس من مسؤوليتهم التحقق من الحقائق. إذا كان كتابك يحتوي كثيراً من المعلومات المتخصصة، وخصوصاً إذا كانت عن موضوع لم تكتب عنه من قبل، فقد تفكر في الحصول على مدقق حقائق مخصص لتمشيطه. وسيلاحظون جميع الإشارات الواقعية في كتابك، ثم يؤكدونها بعناية عبر مصادر خارجية؛ إذا وجدوا أي عدم دقة، فسينبهونك على الفور. وهذا النوع من التحرير ضروري بشكل خاص إذا كنت تكتب بشكل غير متخيّل (وغالباً ما يكون المحررون المتخصصون في الكتب غير الخيالية مدققي حقائق متمرسين أيضاً).

5- المحرر الشامل أو المراجع النهائي «Proof reading»، فحص نهائي للمخطوط قبل النشر للعثور على الأخطاء المطبعية المفقودة، الكلمات المفقودة، الكلمات المكررة، ثبات التباعد وتنسيقه. يجب أن تكون المراجعة النهائية آخر مستوى من التحرير.

يتميز التحرير الأدبي عن التدقيق اللغوي بعمقه الذي لا يشمل تصحيح الأخطاء الأساسية فحسب بل يشمل أيضاً تحسينات في بناء الجملة والأسلوب والصرف

وحول العلاقة بين المؤلف والمحرر الأدبي، تتوافق آراء النقاد والكُتاب إلى حد كبير مع النقاط التي جرت مناقشتها سابقاً، فالتعاون بين المؤلف والمحرر، والمتطلبات الفريدة لشكل الكتابة، والقيمة التعليمية لتعلم حرفة التحرير، كلها أمور معترف بها باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من العملية الأدبية. فكثير من الكتاب، مثل إرنست همنغواي وفلانري أوكونور اللذين يُعدّان من معلمي القصة القصيرة يؤكدان أهمية الاختصار والدقة في القصة القصيرة، وهمنغواي، على وجه الخصوص، كان مشهوراً بأسلوبه المقتضب الذي يعتمد على «نظرية جبل الجليد»، حيث يكون معظم النص تحت السطح. هذا يوضح أهمية التحرير في تنقيح القصة لتحقيق هذه الدقة والقوة. كذلك النقاد، مثل روبرت بين وارن، وكلينث بروكس، اللذين كتبا عن الأدب الأمريكي وتقنيات القصة القصيرة يؤكدان أهمية البنية والأسلوب في القصة القصيرة. ويمكن للنقاد تأكيد كيفية مساعدة التحرير الجيد في تحقيق هذه العناصر بشكل يعزز الأثرين العاطفي والفكري للقصة على القارئ. أما المحررون، مثل ماكس بيركنز، الذي عمل مع همنغواي وفيتزجيرالد وتوماس وولف، فيُعدّون العمود الفقري للعملية الإبداعية، ويؤكدون الدور الذي يلعبونه في توجيه الكُتاب نحو تحسين أعمالهم؛ ليس من الناحية اللغوية فحسب، ولكن أيضاً في تطوير الشخصيات والبناء السردي والحفاظ على الإيجاز الذي يعد أساسياً في القصة القصيرة، على سبيل المثال.

وفي الختام، لا بد من الاعتراف بأن النشر في الدول المتطورة مختلف عنه في بلادنا، وقد تكون الاختلافات كبيرة ومؤلمة، فالتحرير فنٌّ مخفي، مع أنه أفضل ما في عملية النشر، فالمحرر يسعى من خلال عمله إلى تقديم مؤلَّف منير وواع يكتب بلغة سلسة تسر القارئ. والوصول إلى نقطة النهاية عملية مطوّلة تتطلب مهارات كبيرة على المحرر الناجح امتلاكها، كما تتطلب قبلها تعاوناً وثقة من المؤلف بأن نتاجه بين يديْ محترف أمين. ولكن إذا شابَ العلاقة بين الاثنين أي نوع من الصراع أو الخلاف، وربما الملل والإلحاح، هنا تذكرت قصة الصديقين القديمين، فأيّهما يقطع أصابعه بسبب الآخر؟!

* ناقد وإعلامي كويتي


مقالات ذات صلة

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر
TT

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

تشهد منطقة الباحة، جنوب السعودية، انطلاقة الملتقى الأول للأدب الساخر، الذي يبدأ في الفترة من 22-24 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وينظمه نادي الباحة الأدبي.

وأوضح رئيس النادي، الشاعر حسن الزهراني، أن محاور الملتقى تتناول «الأدب الساخر: المفهوم، والدلالات، والمصادر»، و«الاتجاهات الموضوعية للأدب الساخر، والخصائص الفنية للأدب الساخر في المملكة»، وكذلك «مستويات التأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظيراتها العربية»، و«حضور الأدب الساخر في الصحافة المحلية قديماً وحديثاً»، و«أثر القوالب التقنية الحديثة ومواقع التواصل في نشوء أشكال جديدة من الأدب الساخر محلياً»، و«سيميائية الصورة الصامتة في الكاريكاتير الساخر محلياً».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وشارك في صياغة محاور الملتقى لجنة استشارية تضم: الدكتور عبد الله الحيدري، والدكتور ماهر الرحيلي، والقاص محمد الراشدي، ورسام الكاريكاتير أيمن يعن الله الغامدي.

وكشف الزهراني أن النادي تلقى ما يزيد على 40 موضوعاً للمشاركة في الملتقى، وأقرت اللجنة 27 بحثاً تشمل؛ ورقة للدكتورة دلال بندر، بعنوان «حمزة شحاتة... الأديب الجاد ساخراً»، والدكتور محمد الخضير، بعنوان «الخصائص الفنية في الأدب الساخر عند حسن السبع في ديوانه ركلات ترجيح - دراسة بلاغية نقدية»، والدكتور صالح الحربي، بعنوان «المجنون ناقداً... النقد الأدبي في عصفورية القصيبي»، والدكتور عادل خميس الزهراني، بعنوان «الصياد في كمينه: صورة الحكيم في النكت الشعبية بمواقع التواصل الاجتماعي»، والدكتور حسن مشهور، بعنوان «الكتابة الساخرة وامتداداتها الأدبية... انتقال الأثر من عمومية الثقافة لخصوصيتها السعودية»، والدكتورة بسمة القثامي، بعنوان «السخرية في السيرة الذاتية السعودية»، والدكتورة كوثر القاضي، بعنوان «الشعر الحلمنتيشي: النشأة الحجازية وتطور المفهوم عند ابن البلد: أحمد قنديل»، والدكتور يوسف العارف، بعنوان «الأدب الساخر في المقالة الصحفية السعودية... الكاتبة ريهام زامكة أنموذجاً»، والدكتور سعد الرفاعي، بعنوان «المقالة الساخرة في الصحافة السعودية... الحربي الرطيان والسحيمي نموذجاً»، والدكتور عمر المحمود، بعنوان «الأدب الساخر: بين التباس المصطلح وخصوصية التوظيف»، والدكتور ماجد الزهراني، بعنوان «المبدع ساخراً من النقاد... المسكوت عنه في السرد السعودي»، والمسرحي محمد ربيع الغامدي، بعنوان «تقييد أوابد السخرية كتاب: حدثتني سعدى عن رفعة مثالاً»، والدكتورة سميرة الزهراني، بعنوان «الأدب الساخر بين النقد والكتابة الإبداعية... محمد الراشدي أنموذجاً». والدكتور سلطان الخرعان، بعنوان «ملخص خطاب السخرية عند غازي القصيبي: رؤية سردية»، والدكتور محمد علي الزهراني، بعنوان «انفتاح الدلالة السيميائية للصورة الساخرة... الرسم الكاريكاتوري المصاحب لكوفيد-19 نموذجاً»، والكاتب نايف كريري، بعنوان «حضور الأدب الساخر في كتابات علي العمير الصحافية»، والدكتور عبد الله إبراهيم الزهراني، بعنوان «توظيف المثل في مقالات مشعل السديري الساخرة»، والكاتب مشعل الحارثي، بعنوان «الوجه الساخر لغازي القصيبي»، والكاتبة أمل المنتشري، بعنوان «موضوعات المقالة الساخرة وتقنياتها عند غازي القصيبي»، والدكتور معجب الزهراني، بعنوان «الجنون حجاباً وخطاباً: قراءة في رواية العصفورية لغازي القصيبي»، والدكتور محمد سالم الغامدي، بعنوان «مستويات الأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظرياتها العربية»، والدكتورة هند المطيري، بعنوان «السخرية في إخوانيات الأدباء والوزراء السعوديين: نماذج مختارة»، والدكتور صالح معيض الغامدي، بعنوان «السخرية وسيلة للنقد الاجتماعي في مقامات محمد علي قرامي»، والدكتور فهد الشريف بعنوان «أحمد العرفج... ساخر زمانه»، والدكتور عبد الله الحيدري، بعنوان «حسين سرحان (1332-1413هـ) ساخراً»، ويقدم الرسام أيمن الغامدي ورقة بعنوان «فن الكاريكاتير»، والدكتور يحيى عبد الهادي العبد اللطيف، بعنوان «مفهوم السخرية وتمثلها في الأجناس الأدبية».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وخصص نادي الباحة الأدبي جلسة شهادات للمبدعين في هذا المجال، وهما الكاتبان محمد الراشدي، وعلي الرباعي، وأعدّ فيلماً مرئياً عن رسوم الكاريكاتير الساخرة.

ولفت إلى تدشين النادي 4 كتب تمت طباعتها بشكل خاص للملتقى، وهي: «معجم الأدباء السعوديين»، للدكتورين عبد الله الحيدري وماهر الرحيلي، وكتاب «سامحونا... مقالات سعد الثوعي الساخرة»، للشاعرة خديجة السيد، وكتاب «السخرية في أدب علي العمير» للدكتور مرعي الوادعي، و«السخرية في روايات غازي القصيبي» للباحثة أسماء محمد صالح.