الفيلسوف الذي حذّر مبكراً من غول التكنولوجيا الآتية

غونتر أندريس: البشريّة خلقت الظروف المناسبة لإبادة نفسها

غونتر أندريس
غونتر أندريس
TT

الفيلسوف الذي حذّر مبكراً من غول التكنولوجيا الآتية

غونتر أندريس
غونتر أندريس

لم تعد مسألة النّظر في التأثيرات المحتملة للذكاء الاصطناعي على مستقبل البشرية ووجودها ذاته من نافل القول، إذ اقتحمت نماذجه الأحدث كل مجالات الحياة المعاصرة، وأصبحت تطبيقاته في وقت قياسيّ جزءاً لا يتجزأ من فضاءات عديدة: الصناعة، والدفاع، إلى الطبّ، والتعليم، والإدارة، والصحافة، والنشر. ويعلّق كثيرون آمالاً كبيرة على هذه الخوارزميّات المتطوّرة بأن تعين البشريّة على التعامل مع تحديّات معقدة تواجهها كتغيّر المناخ، وتعظيم منافع الموارد القابلة للاستنفاذ، ومعالجة الأمراض المزمنة والعضال، وإنجاز المهام المتكررة والخطرة على نحو يوفّر وقت وطاقة البشر. لكن تلك الآمال الكبيرة تحمل في ثناياها تهديدات، تبدو عند محاولة تصورها، أقرب إلى ديستوبيا تامّة: من تحويل مليارات البشر إلى كتل متبطلة هائمة يأكلها البؤس بسبب أتمتة غالب الوظائف، وتطوير أسلحة متفوقة ذاتية التشغيل قد يساء استخدامها، ناهيك عن تعملق قدرات أنظمة الذّكاء الاصطناعي على نحو قد يخرج في لحظة ما عن سيطرة البشر، وينتج ما قد يتعارض مع رفاههم.

ومن الجليّ أن هذا التطوّر المتسارع لا توازيه، إلى اللحظة على الأقل، تدابير استباقيّة لضمان أن يسترشد استخدامه بأخلاقيات تمنع من تحول الذكاء الاصطناعيّ في النهاية إلى أداة لهيمنة فئة محدودة من البشر، وتبقيه دائماً في خدمة رفاهية النوع الإنساني، واستمرار وجوده.

غلاف «فلسفة التكنولوجيا»

من هذا المنظور، يمكن تفهّم تلك الاستعادة المفاجئة لأعمال الفيلسوف غونتر أندريس (1902 – 1992) إلى قلب الجدل الفكريّ المعاصر بعد طول إهمال. كان أندريس، مثل زوجته الأولى الفيلسوفة اليهوديّة الشهيرة هانا أرندت، قد تأمّل عميقاً في تراجع الأخلاق الإنسانيّة، وبحث في العوامل التي قد تدفع الإنسان إلى تعليق قدرته على التفكير المستقل، وخضوعه الطوعيّ للأنظمة على حساب حساسيته وتعاطفه الإنسانيّ.

في منتصف القرن العشرين، أي بعد تكشّف فظائع الحرب العالميّة الثانية، واستعمال الأسلحة النووية في حسم الحرب على الجبهة الآسيوية، ومن ثم انطلاق سباق التسلح بأسلحة الدّمار الشامل، لم تكن هناك مهمة أكثر إلحاحاً على الصعيد الفلسفي من فحص تلك النتائج التي قادت إليها الحداثة التقنية وجعلت من تكرار التوحش أمراً ليس ممكناً فحسب، بل إنه الاحتمال الأقرب.

انفصال أندريس عن أرندت في العلاقة التي جمعتهما، انعكس لاحقاً في تباعد مصائرهما ومساراتهما الفكريّة، إذ تحولت الأخيرة إلى عشيقة لمارتن هايدغر، الفيلسوف الذي يعده الكثيرون أباً فكريّاً للنازية، وهاجرت لاحقاً إلى الولايات المتحدة التي احتفت بها في أرقى الأكاديميات، وتحوّلت إنتاجاتها باللغة الإنجليزية إلى أدوات تبرر للهيمنة الأنجلوساكسونيّة في مواجهة النقيض الاشتراكيّ وكذلك للمشروع الصهيونيّ العنصريّ في فلسطين، فيما عاد أندريس، الذي هاجر مع موجة المفكرين اليهود الفارين من تعسّف النظام النازي إلى الولايات المتحدة، تالياً إلى القارة القديمة، واستمر ينظّر بالألمانية لمعنى كوارث الحرب الكبرى، وتأثير التكنولوجيا على الحداثة والحالة البشرية، لا سيما الهيمنة التدريجية للتكنولوجيا على جميع جوانب النشاط البشري: من التسليع الشامل، والتجريد من الإنسانية، إلى فصل النظرة إلى العالم عن الواقع الحقيقيّ بصورة بديلة أنتجتها تلك الهيمنة، وتعاظم احتمالات انقراض نوعنا بشكل نهائيّ.

لكن وعلى الرّغم من أهميتها الفائقة، فقد ظلّت أعمال أندريس غير معروفة في العالم الأنجلوساكسوني النّاطق باللغة الإنجليزية حتى وقت قريب، ليس فقط بسبب ما تحمله من «تشاؤم نقدي لاذع لا يرحم» - كما وصفها هربرت ماركوزه، ولكن أيضاً لأن تلك النّذر كانت لا تتوافق مع مضامين المشروع الآيديولوجي للغرب في تلك المرحلة من القرن العشرين. ومع ذلك يتم الاعتراف به الآن رائداً فكريّاً لعدد من الموضوعات الفلسفيّة الرئيسيّة التي تناولتها أعمال العديد من الفلاسفة اللاحقين له أمثال جان لوك نانسي، وبرنارد ستيجلر، وجان بيير دوبوي، وزيغمونت بومان.

غادر أندريس بلاده إلى باريس عام 1933، وانتهى به الأمر بعد نشوب الحرب العالمية الثانية لاجئاً في كاليفورنيا، بالولايات المتحدة، يكسب رزقه من خلال كتابة سيناريوهات الأفلام لصناعة السينما في هوليوود والقيام بوظائف متواضعة أحياناً في المصانع ومستودعات الأفلام. على أن تلك التجربة الحياتية القاسية هناك بموازاة اختلاطه بالمثقفين اليهود رواد مدرسة فرانكفورت مكنته من أن يراقب عن كثب ذلك الصعود الدراماتيكي للثقافة الاستهلاكية في الغرب، قبل أن يعود في عام 1950 للاستقرار بشكل دائم إلى فيينا ويشرع في تدبيج المقالات حول المعضلات التي تواجهها الحالة الإنسانية في مواجهة صعود التكنولوجيا بلغة سهلة قريبة من الجمهور العادي، متخلياً عن الأسلوب الأكاديمي المتعجرف لمعلميه إدموند هوسرل ومارتن هايدغر.

استنكر أندريس متلازمة العمى الجماعي للنخبة من السياسيين والمثقفين التكتيكيين، وانعدام الوعي لديهم بخطورة استغلال التهديد بالإبادة النووية لأغراض سياسية، وكتب محذراً بأن لا أحد منا لديه معرفة تتناسب مع ما يمكن أن تنتهي إليه حرب نووية ما يعني أن نهاية عجلى للعالم هي، في جوهرها، في أيدي ثلة من غير الأكفاء والحمقى، عاداً أن «الاستخدام الحديث للطاقة النووية أدى إلى طمس التمييز بين المدنيين والعسكريين، وجعل إمكانية وقوع كارثة حاسمة أمراً يمكن أن يبدأ من أي مكان. لقد تجاوزت البشريّة عتبة ربما لا يمكن العودة عنها بعدما علّقت متعمدة سيفاً مسلطاً على رأسها، وخلقت الظروف لإبادة نفسها».

وعدَّ أندريس أن الكوارث المروعة التي شهدها القرن العشرون كانت نتيجة تلقائيّة ومنطقية لذلك الاستبعاد التدريجي للبشرية من جميع عمليات الإنتاج الذي أطلقته الرأسماليّة - ما يسميه كارل ماركس بالاغتراب -، وهو الأمر الذي لم يعد يثير استهجاناً بقدر ما كان مدمراً، مشيراً إلى أن القنبلة النوويّة كانت التجسّد المادي لقوة غير مكتشفة ومقلقة ومؤرقة تؤججها أدوات التكنولوجيا المعقدة، التي كلّما تطورت وتقدمت تضاءل النوع الإنساني أمامها، وكلما أصبحت قدرتها غير مشروطة وغير محدودة، صار وجودنا ذاته مشروطاً بها ومرهوناً لها.

قراءة أندريس اليوم، كما كانت في الخمسينات من القرن الماضي، موجعة، لكنها ضرورية كما دواء مرّ

في عمله الأهم، «تقادم الإنسان» - الذي ظهر مجلده الأول بعنوان فرعي «عن الروح في وقت الثورة الصناعية الثانية» عام 1956، والمجلد الثاني «حول تدمير الحياة في وقت الثورة الصناعية الثالثة» عام 1980، قدم أندريس نقداً صارخاً للواقع الاستهلاكي الذي أنتجته التكنولوجيا الحديثة منطلقاً من تحليل عميق لنموذج العمل الحديث الموجه جذرياً لتعظيم الربح، الذي جعل العامل معنياً بعملية جزئيّة متكررة غافلاً عن المنتج النهائي، وما قد ينشأ عنه من عواقب اجتماعيّة أو بيئية، مع تلاشٍ متلاحق لإمكانية التعبير عن الذات أو التفكّر في أخلاقيات العمل. وعدَّ أن تقزيم بروليتاريا العمل توازي جنباً إلى جنب مع تصنيع مواد ذات نوعية رديئة مبرمجة للتقادم الفوري: إذ لم يعد المقصود من الأشياء أن تدوم، بل أن يتم استهلاكها كمواد قابلة للتلف، واستبدالها بمعدل محموم، وفي دورة لا نهائيّة من الإنتاج والتدمير، ما مكّن الإمبراطورية التكنولوجية الشمولية من اختزال البشر إلى مجرد تروس من الآلة الضخمة، تحت التهديد الدائم بالتصفية والبطالة لمصلحة الآلات.

بعض نذر أندريس المبثوثة في أعماله تبدو غريبة في قدرتها على التنبؤ بالكيفية التي تؤثر بها الأجهزة والآلات في أفكارنا ومناقشاتنا ومشاعرنا وحتى علاقاتنا، وكيف يتم حبس الأفراد وتجريدهم من إنسانيتهم وعزلهم عن بعضهم تحديداً من خلال توفير أدوات ظاهرها مطلق الحرية الشخصية وحقوق الفرد.

على الرغم من زيادة ترداد وسائل الإعلام لهذه التهديدات التي وصفها أندريس، فإننا نعيش عصراً من «فقدان القدرة على الخوف»، كما يقول، إذ ما زلنا بعد ما يقرب من 75 عاماً على تفجير أول قنبلة نووية سلبيين بشكل كبير في مواجهة كل هذا التطور التكنولوجي. فهل لنا الحق في مواجهة احتمال انقراض نوعنا غير البعيد أن نكتفي بالكسل المطلق والاستسلام للاستهلاك المفرط المتهور؟ إن «عمانا عن مواجهة استحقاق نهاية العالم»، الذي، وفقا لأندريس، دائماً نهج متأصل للثورة الصناعية الثالثة، التي يبدو البشر في ظلها مستمرين بـ«وضع الخطط والعيش كما لو أن كل شيء سيستمر في تقدمه كما عهدوه». أليس هذا وضعنا المؤسف تماماً اليوم قبالة تغوّل الذكاء الاصطناعي؟ قراءة أندريس اليوم، كما كانت في الخمسينات من القرن الماضي، موجعة، لكنها ضرورية كما دواء مرّ.


مقالات ذات صلة

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟