اللّغة العربيّة... والمرأة

علاقة متبادلة بينهما على مر العصور

اللّغة العربيّة... والمرأة
TT

اللّغة العربيّة... والمرأة

اللّغة العربيّة... والمرأة

أثّرت المرأة في اللّغة العربيّة وتأثّرت بها، فواجهت تحدّيات كبيرة في المجتمع العربي منذ القدم؛ حيث كانت مكبّلة بقيود اجتماعيّة وثقافيّة، ومن ثم، كان لا بدّ أن تتأثّر بطبيعة التفكير الذّكوري الذي يلغي حضورها أو يهمشه في معظم المجالات. ولكن كيف انعكس ذلك في اللّغة العربيّة وقواعدها، وساهم في تشكيل صورة المرأة؟ وكيف أبرزت قواعد اللغة التحدّيات والتطوّرات التي مرّت بها المرأة في المجتمع العربيّ؟ وما العلاقة المتبادلة بين العربية والمرأة؟

اللّغة العربيّة لغة الإلهام والتحدّي، والمرأة العربيّة مصدر إلهام ومبعث للتحدّي. وقد شكّلت عنصراً مهمّاً في تطوّر اللّغة حيث عكست كتاباتُها وأعمالها تجاربها ومعاناتها، وصقلت الكلمات برصانة تعابيرها ولينها وما تحمله من زخم عاطفيّ. كما أنّها أفادت منها بصفتها المنفّس عن العواطف والأفكار، ما أتاح لها التعبير عن مشاعرها بشكل شفّاف وفعال في المجتمع، ومنحها هويّتها اللّغويّة الفريدة. ويظهر دورها واضحاً في كتابة المقالات والمدوّنات والأبحاث؛ ما يجعل من أدبها النّسوي على اختلاف أنواعه وسيلة للتّأثير والتحفيز. لكن المرأة واجهت على امتداد العصور تحدّيات كبيرة في المجتمع العربيّ؛ حيث كانت تتعرّض لقيود اجتماعيّة وثقافيّة كثيرة، وقد انعكس ذلك من خلال اللّغة في مناحٍ كثيرة، نذكر منها:

1- التحيّز الاجتماعي الذّكوريّ: إنّ قواعد اللّغة العربيّة تعكس التحيّز الاجتماعي الذّكوريّ؛ فقد قال سيبويه: «الأشياء كلّها أصلها التذكير ثمّ تختصّ». وقد جاراه في ذلك عدد من علماء اللّغة. ونلاحظ هذا التحيّز مثلاً في الجمع؛ ففي حين يختصّ الجمع المذكّر السّالم بالعاقل، نجد أنّ الجمع المؤنّث السّالم يختصّ بالعاقل وغير العاقل، فنقول مثلاً: طالبة - طالبات. طائرة - طائرات.

ولكنّ اللّافت في شروط جمع المذكّر السّالم وجوب خلوّ الاسم المذكّر من التاء (وهي علامة التأنيث) مثل حمزة. وفي هذا السّياق نذكر صيغة المبالغة التي تنتهي بتاء التأنيث على وزن فعّالة، مثل: علّامة، أي كثير العلم. الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل: أليست هذه التاء دليلاً على قوّة علامة التأنيث وغلبة المؤنّث على المذكّر؟

2- في إطار التحيّز اللّغويّ، استخدام الجنس المذكّر للإشارة إلى الجنسين. واللّافت أنّ هذه الظّاهرة منتشرة في البلدان النّاطقة بالفرنسيّة؛ حيث يستعمل ضمير المذكّر «Ils» للإشارة إلى الجنسين.

3- قيود اللّغة في المفردات المتعلّقة بالمرأة: كانت هناك قيود على بعض المفردات والمصطلحات المرتبطة بالمرأة في اللّغة العربيّة، الأمر الذي انعكس سلباً على تصوير دور المرأة في المجتمع. كأن نقول عن المرأة: نائب في البرلمان، مثلاً، بدل نائبة (ومن معانيها المصيبة)، علما بأنه لا ضير في استعمال كلمة نائبة في معناها المراد، لا سيّما أنّ كثيراً من الكلمات تحمل معاني مختلفة.

- التطوّر اللّغويّ

غير أنّ اللّغة تتطوّر تماماً كما الحياة، وتخضع للمعطيات الاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة الجديدة الطّارئة، لذلك نلاحظ أنّه مع التقدّم والانفتاح وبروز دور المرأة الفعّال في المجتمع تطوّرت اللّغة وخرجت من إطارها القديم لتُماشي العصر.

من هذه التطوّرات الحديثة نذكر:

1- التغيير في استعمال بعض المصطلحات: فبفضل التطوّرات الاجتماعيّة والثّقافيّة، شهدت قواعد اللّغة العربيّة تغييرات تشمل استخدام الجنس المؤنّث لبعض المصطلحات التي كانت محصورة في السّابق بالجنس المذكّر. مثلاً: شيوع استعمال كلمة دكتورة (للأكاديميّة) مع تاء التأنيث (علماً بأنها كلمة غير عربيّة)؛ خصوصاً أنهم في فرنسا قد أقرّوا زيادة حرف الـ«e» على كلمة «Docteur».

2- يشهد العصر ازدياداً مطّرداً لمشاركة المرأة العربيّة في مختلف المجالات العلميّة والأدبيّة والثّقافيّة والفنّيّة، ما دفع باللّغة العربيّة إلى التكيّف مع احتياجات المرأة وتطلّعاتها.

3- ولادة مصطلحات جديدة: شهدت اللّغة العربيّة إضافة مصطلحات جديدة لتغطية مجالات حديثة تخصّ المرأة وتعبّر عن واقعها اليوميّ.

فقواعد اللّغة العربيّة ليست مجرّد مجموعة من القوانين اللّغويّة، بل هي الحاضنة والنّاقلة لمجموعة القيم والتقاليد والتفاعلات الاجتماعيّة في العالم العربيّ، فتؤدّي هذه القواعد دوراً حيويّاً في كيفيّة إظهار صورة المرأة وفهم دورها ووضعها في المجتمع. ويتمّ ذلك من خلال عناصر متعدّدة، نذكر منها:

1- التركيب اللّغويّ: إنّ التركيب اللّغوي للجمل والتعابير يعكس نفسيّة الكاتب أو المتكلّم وتفكيره وثقافته، ومن ثمّ، فإنّه يسهم في الكشف عن شخصيّة المرأة ويسلّط الضّوء على تفرّدها وتميّزها.

2- التأنيث والتذكير: تتيح قواعد اللّغة العربيّة من خلال عمليّة التذكير والتأنيث تحديد جنس الأسماء والأفعال. وهذا التمييز الذي تقدّمه اللّغة يظهر تميّز المرأة بشكل لغويّ.

3- المفرد والجمع: تعكس قواعد اللّغة العربيّة التباين بين المفرد والجمع، ما يساهم في تحديد دور المرأة في الحياة الفرديّة والجماعيّة، ويعزّز تفرّد المرأة وتأثيرها في السّياق الاجتماعيّ.

وهكذا، نجد أنّ اللّغة العربيّة لغة حيّة تتطوّر وتتغيّر وفقاً لتطوّر المجتمع. وهذه التغييرات في استخدام اللّغة تعكس تحوّلات الوعي الجماعي والاجتماعيّ؛ حيث يسهم تطوير المفاهيم والتعابير في بناء رأي المجتمع تجاه دور المرأة.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري... الراسخ في «مقدمة ابن خلدون»

يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
TT

رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري... الراسخ في «مقدمة ابن خلدون»

يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)

فقدت البحرين ودول الخليج العربية، اليوم الخميس، المفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري، مستشارَ ملك البحرين للشؤون الثقافية والعلمية، أستاذ دراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر، عميد كلية الدراسات العليا الأسبق بجامعة الخليج العربي، الذي وافته المنية بعد مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والعلمي.

يُعدُّ الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين، والخليج عموماً، وباحثاً مرموقاً في دراسات ونقد الفكر العربي، وقدَّم إسهامات نوعية في مجالات الفكر، والأدب، والثقافة. وتميزت أعماله «باتساق الرؤية الفكرية في إطار مشروع نقدي للفكر العربي السائد تطلعاً إلى تجديد المشروع النهضوي، كما تميزت رؤيته الفكرية بالتشخيص العيني للواقع العربي في أبعاده السياسية والاجتماعية والحضارية في حقلَي التراث العربي الإسلامي وفكر عصر النهضة».

المفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري (الشرق الأوسط)

الأنصاري وابن خلدون

كتبُه تكشف عن مشروع فكري عربي، فقد كتب عن «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930-1970»، و«العالم والعرب سنة 2000»، و«لمحات من الخليج العربي»، و«الحساسية المغربية والثقافة المشرقية»، و«التفاعل الثقافي بين المغرب والمشرق»، و«تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، و«رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية وشواغل الفكر بين الإسلام والعصر».

كما أصدر كتاباً بعنوان «انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية»، و«الفكر العربي وصراع الأضداد»، و«التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، لماذا يخشى الإسلاميون علم الاجتماع»، وكذلك «التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، مكونات الحالة المزمنة»، وكتاب «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية: مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي»، وكتابه المهمّ «العرب والسياسة: أين الخلل؟ جذر العطل العميق»، وكتاب «مساءلة الهزيمة، جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية»، وكتابه «الناصرية بمنظور نقدي، أي دروس للمستقبل؟»، وكتاب «لقاء التاريخ بالعصر، دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل».

وعند المرور بابن خلدون، تجدر الإشارة إلى أن الدكتور الأنصاري كان أحد أهم الدارسين لتراث ابن خلدون ومتأثراً به إلى حد لا يخلو من مبالغة، وهو القائل في كتابه «لقاء التاريخ بالعصر»: «كل عربي لن يتجاوز مرحلة الأمية الحضارية المتعلقة بجوهر فهمه لحقيقة أمته... إلا بعد أن يقرأ مراراً مقدمة ابن خلدون! (ص 63)».

في هذا الكتاب، كما في كتاب «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، يستعيد الأنصاري فكر ابن خلدون داعياً لتحويله إلى منهج للمثقفين العرب، مركّزاً بنحو خاص على تميّز ابن خلدون في الدعوة لثقافة نثر تتجاوز لغة الشعر، داعياً لإيجاد نثر عقلاني يتجاوز مفهوم الخطابة.

ويقول في كتابه «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»: «مطلوب - إذن - علم اجتماع عربي إسلامي مستمد من واقع تاريخنا؛ لفهم التاريخ ومحاولة إعادته للخط السليم... ومطلوب قبل ذلك شجاعة الكشف عن حقيقة الذات الجماعية العربية في واقعها التاريخي الاجتماعي بلا رتوش... بلا مكياج... بلا أقنعة... وبلا أوهام تعظيمية للذات».

كتابه «لقاء التاريخ بالعصر، دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل» طبعة (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، رغم حجمه الصغير (120 صفحة) وكونه عبارة عن مجموعة مقالات جمعها المؤلف، لكنه يقدم صورة نقدية تدعو لتحرر الرؤية من الماضي وتأسيس ثقافة عربية تعتمد منهج ابن خلدون في مقاربته للتاريخ، وخاصة تجاوزه «الفهم الرومانسي العجائبي، الذي ما زال يطبع العقلية العربية»، هذه المقاربة توضح أن «إطار العقلية الخلدونية يعني اكتساب قدرة أفضل على فهم العالم الجديد، الذي لم يتكيف العرب معه بعد، فما زالوا يتعاملون، كارثياً، مع واقع العالم شعراً»، وهي «دعوة إلى إعادة التوازن في ثقافتنا بين الوجدان والعقل، حيث لم تعدم العربية نثراً فكرياً راقياً تعد (مقدمة ابن خلدون) من أبرز نماذجه، إلى جانب كتابات الجاحظ والتوحيدي والفارابي وابن طفيل وابن حزم».

سيرة

وُلد الأنصاري، في البحرين عام 1939؛ درس في الجامعة الأمريكية ببيروت وحصل فيها على درجة البكالوريوس في الأدب العربي عام 1963، ودبلوم في التربية عام 1963، وماجستير في الأدب الأندلسي عام 1966، ودكتوراه في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر سنة 1979. كما حضر دورة الدراسات العليا في جامعة كامبريدج عام 1971، وحصل على شهادة في الثقافة واللغة الفرنسية من جامعة السوربون الفرنسية سنة 1982.

في عام 2019، داهمه المرض العضال الذي منعه من مواصلة إنتاجه الفكري، ليرحل، اليوم، بعد مسيرة عامرة بالعطاء، وزاخرة بالدراسات المهمة التي أثرى بها المكتبة العربية.