يحتفظ «متحف البحرين الوطني» في المنامة بتمثال صلصالي مميّز يمثّل رجلاً يمتطي دابة وعلى ذراعه مطرقة طويلة. يتبع هذا المجسّم من حيث التقنيّة والأسلوب نسقاً معروفاً، كما تشهد مجموعة كبيرة من التماثيل الصغيرة عُثر عليها في موقع من مواقع قلعة البحرين الأثرية يُعرف باسم «قصر أوبيري»، غير أنه يبدو فريداً من نوعه من حيث الموضوع، وقد عُثر عليه في مقبرة من سلسلة المقابر الأثرية البحرينية ضمن مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية لم تحوِ أي قطعة مشابهة له.
تضمّ جزيرة البحرين عدداً كبيراً من المقابر الأثرية تتوزع على مجموعات متقاربة، منها مجموعة تقع في الشمال الشرقي من هذه البلاد، تتبع المحافظة الشمالية، وتحوي أربع مقابر تُعرف بأسماء القرى التي تجاورها، وهي تباعاً: جد حفص، الحجر، المقشع، وكرانة. في نهاية السبعينات من القرن الماضي، أجرى فريق بحريني محلّي عملية تنقيب واسعة في مقبرة المقشّع، أدّت إلى اكتشاف مجموعة قيّمة من اللقى الأثرية. حوت هذه المجموعة هذا التمثال الصلصالي الصغير الذي أطلق عليه البعض اسم «تمثال الفارس»، وهو الاسم الذي وضع له عند عرضه في معرض خاص بآثار البحرين أقيم في «معهد العالم العربي» في باريس صيف 1999. واللافت أنه لم يعثر إلى يومنا هذا على تمثال من هذا الصنف في أي من مقابر البحرين الكثيرة التي جرى استكشافها.
يبلغ طول هذا التمثال 15.5 سنتيمتر، وعرضه 12 سنتيمتراً، وقد وصل بشكل كامل، ولم يفقد أي جزء من مكوّنات بنيته. يظهر الفارس جالساً بثبات على دابته، ممسكاً بيديه طرفي رقبة الحيوان، حاملاً على ذراعه اليسرى آلة طويلة تبدو أشبه بمطرقة ذات رأس مروّس. يغلب على الأسلوب المتبع الطابع البدائي الذي يظهر في تخطّي النسب التشريحية بشكل كلي. الرأس ضخم، وملامح الوجه مجرّدة. الأنف هائل، وهو على شكل مثلث ضخم يخرج طرفه الأعلى من قمّة الجبين. العين دائرة كبيرة تحوي في وسطها دائرة أصغر حجماً تمثّل البؤبؤ. الفم شفتان طويلتان مطبقتان يفصل بينهما شقّ غائر. الذقن غائبة وسط لحية طويلة تحدّ خصلات شعرها شبكة من الخطوط المتوازية. أعلى الرأس أملس ومدبدب، ويخلو من أي تفصيل، ممّا يوحي بأن صاحبه أصلع. الذراعان طويلتان وتشكلان معاً دائرة تخلو من أي تحديد للمفاصل. على العكس؛ الساقان قصيرتان للغاية، وهما ذائبتان في الكتلة الجامعة للتمثال، مع تحديد بسيط لأصابع الرجلين على شكل شبكة من الخطوط المتوازية.
يمتطي هذا الرجل دابة يبدو للوهلة الأولى أنها حصان، غير أن التمثال صُنع بين القرنين العاشر والسابع قبل الميلاد، ويجمع المختصون على القول إن الحصان لم يُعرف في الجزيرة العربية في تلك الحقبة، وقد أشار جواد علي إلى هذه المقولة في الفصل الخامس من موسوعته «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، حيث كتب: «وبالرغم من اشتهار جزيرة العرب بجمال خيلها، وبتربيتها لأحسن الخيل، وبتصديرها لها، فإن الخيل في جزيرة العرب إنما هي من الحيوانات الهجينة الدخيلة الواردة عليها من الخارج، ولا ترتقي أيام وصولها إلى الجزيرة إلى ما قبل الميلاد بكثير».
من هنا، يمكن القول إن الرجل الملتحي ليس بفارس، وإن الفرس التي يمتطيها هي في الواقع حمار من الحمير الوحشية التي تمّ ترويضها في صحارى الجزيرة العربية، ومنها ما عُرف لاحقاً بـ«الأحقب» وبـ«العَير». نقل الرواة عن الشماخ بن ضرار الذي عاش في القرن السابع للميلاد:
كأني كَسوْتُ الرَّحل أحقَبَ سَهْوقاً
أطاعَ لهُ من رامَتَيْن حَدِيقُ
تضمّ جزيرة البحرين عدداً كبيراً من المقابر الأثرية تتوزع على مجموعات متقاربة
وفي عهد المتوكّل، نقل ابن السكيت في «إصلاح المنطق» بيتاً نصّه:
أتتك العَير تنفخ في بُرَاها
تكشَّفُ عن مَنَاكِبِهَا القُطُوعُ
يشابه هذا العَير الصلصالي في تكوينه تكوين صاحبه، ويظهر جامداً على قوائمه الأربع، ولا يبدي أي حركة في ثباته. الأذنان طويلتان وطرفهما الأعلى مروّس. العينان دائريتان، وتماثلان بشكل مطابق عيني الرجل الملتحي. الأنف بارز، مع شق في الأسفل يرسم موقع الفم. الظهر مسطّح، مع بروز طفيف في المؤخرة يشير إلى الذنب المتدلّي. القوائم الأربع مجسّمة بشكل مشابه، وهي مجرّدة من أي تفاصيل تحدّد مفاصلها. القائمتان الأماميتان مستطيلتان وثابتتان أفقياً. والقائمتان الخلفيتان مشابهتان لهما، مع اختلاف طفيف يبرز في استدارة الفخذين.
يتبع الرجل الملتحي بشكل لا لبس فيه أسلوباً يظهر من خلال مجموعة كبيرة من التماثيل الصلصالية الصغيرة، عُثر عليه في موقع من مواقع قلعة البحرين الأثرية يُعرف باسم «قصر أوبيري»، نسبة إلى ملك من ملوك دلمون، تردّد اسمه في نقوش تعود إلى بلاد ما بين النهرين. وهذا الموقع يحمل صفة دينية كما يبدو، وهو على الأرجح معبد أو مصلّى، ويخلو من أي طابع جنائزي. حوت هذه المجموعة كماً هائلاً من القامات الآدمية، تمثل رجالاً ملتحين، كما حوت تمثالاً لحمار وحشي وصل للأسف بشكل مجتزأ، وهو محفوظ في «متحف قلعة البحرين»، ويبلغ طوله 12.6 سنتيمتر. يبدو هذا العَير مشابهاً لعَير مقبرة المقشّع بشكل كبير، ويتميّز ببقع أرجوانية توشّح قامته، تشهد لحلة تلوينية ضاع أثرها مع الزمن. فقد هذا الحمار النصف الخلفي من كتلته، ويرى البعض أن هذا الجزء يحوي في الأصل رجلاً يماثل «فارس» مقبرة المقشّع.
من جهة أخرى، يحتفظ «متحف قلعة البحرين» بتمثال صلصالي آخر يمثل حيواناً من فصيلة الخيليات، وهو موشح بخطوط حمراء وسوداء، ويبلغ طوله 7.5 سنتيمتر، غير أن هذا الحيوان يتبع أسلوباً مغايراً، كما أنه من نتاج القرن الخامس قبل الميلاد، بخلاف التماثيل التي خرجت من «قصر أوبيري» التي تعود إلى الفترة الممتدة بين القرنين العاشر والسابع قبل الميلاد، مثل المجسّم الذي خرج «مقبرة المقشّع». يصعب تحديد هوية صاحب هذا المجسّم، كما يصعب تحديد هوية الآلة الطويلة التي يحتضنها، والقراءات الافتراضية متعددة، فمنهم من يرى أنه صياد، ومنهم من يرى أنه محارب، ومنهم من يقول إنه فقط رجل من عليّة القوم.